ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي
جويس كارول أوتس Joyce carol Oates ، المولودة 1938 ، روائية أميركية تمثل ظاهرة فريدة في غزارة الانتاج والانتشار . نشأت في ضواحي نيويورك وفازت بأول جائزة لها في مسابقة الرواية
عندما كانت طالبة تتمتع بزمالة دراسية في جامعة سيراكيوز- وتخرجت من الجامعة بتفوق ثم حصلت على درجة الماجستير من جامعة ويسكنسون ، وفي سنة 1968 عملت مدرسة في جامعة ويندسور ثم انتقلت في 1978 الى ولاية نيوجيرسي لتدريس الكتابة الابداعية في جامعة برنستون ، وهي الآن استاذة متمرسة للإنسانيات . جويس كارول أوتس مرشحة مزمنة على قوائم جائزة نوبل للأدب ، ولم تغفلها هذه الترشيحات للسنوات العشر الماضية على أقلّ تقدير . أقدّم أدناه ترجمة لمقالات منتخبة كتبتها ( جويس كارول أوتس ) في شتى الحقول الإبداعية والفكرية ، وتضمّ هذه المقالات تنويعة تعكس خصائص فكر الكاتبة المبدعة والطيف المتنوع والواسع لانشغالاتها الحياتية فضلاً عن الإبداعية .
المترجمة
القسم الثالث
" أيُّ إثمٍ لم أعرفه ؟ ...... "
نُشِرت هذه المقالة أصلاً ( بشكل مختلف بعض الشيء ) في مطبوعة Essays , Reviews , and Prose عام 1999
لطالما كنتُ طيلة حياتي مسحورة بأحجية الشخصية البشرية . من نحنُ ؟ نعم ، نحن أشكال شتى من البشر ؛ ولكن برغم ذلك ، ألاتخفي هذه الكثرة المتنوعة تحتها كائنات متفرّدة ومميزة إلى مديات بعيدة ؟ لِمَ نحن هنا ؟ وأين عساه يوجد هذا الـ ( هنا ) ؟ إنّ أحجية الوجود البشري تطغى بظلالها على أحجية المادة الفيزيائية ذاتها ، والتساؤلات التي غالباً ماتُثار بشأن هذه الأحجيات هي ذاتها التساؤلات التي إستحوذت على الفكر الإنساني منذ عصر قدماء الفلاسفة : لماذا يوجد شيء عوضاً عن اللاشيء ؟ وماهو غرض الوعي ، والمساءلة البشرية ، والتنقيب الفكري المستديم ؟
عندما نبدأ أوّل أشواط محاولاتنا الكتابية - باعتبارنا كُتّاباً - فالأمر ، بالطبع ، يعود إلى إنسحارنا باللغة : إنسحار بالصوت الغامض ، وموسيقى الكلمات فضلاً عن القوة الكامنة فيها ، وثمة دوماً لدى الكُتّاب إحساس بالمعاني السرية ، الغامضة ، الخفية الكامنة تحت ستار الخطاب الجمعي الذي يتشاركه البشر ، وقبل هذا ثمّة إحساس بالطاقة اللعوب ، والعصية على التنبؤ ، والمتمردة على كلّ محدّدات حاكمة والتي تكمن في الكلمات ، ويكشف هذا الأمر عن كينونته من خلالنا - الكُتّاب - عبر وسيط اللغة . عندما نكون أطفالاً تتملّكنا طاقة سحرية تدفعنا لمحاكاة أصوات الكِبار الذين نعرفهم ، ومايبدأ في طفولتنا كمحض محاكاة يرتقي في أطوار لاحقة من حيواتنا لكي يشكّل جوهر ماندركه - هذا الجوهر الذي يتمحور دوماً في نبرة التساؤل الغامض والمفعم بالدهشة والذي تكتنزه كلمة ( ماهو ؟ ) . ماهي الحياة ذاتها ؟ يميل أكثر الفنانين وعياً إلى تخليق تبعية حتمية بين الحياة وحسّ الإكتشاف :
..... عند تخليق عمل من أعمال الفن فنحن أحرارٌ حرية مطلقة غير مقيدة . نعم ، نحن لانختار منذ البدء الكيفية التي سنخلق بها هذا العمل الفني ؛ لكن ....... العمل الفني يعيد خلقنا نحن من جديد وبطريقة ترتّب علينا الإلتزام بمنهج ما - ضروري ومخفي معاً - ، ويحصل هذا الأمر كما لو أننا ينبغي أن نفعل مايتوجّب فعله ( في الخلق الفني ) باعتباره قانوناً من قوانين الطبيعة . الأمر هنا مكافئ للقول : إننا نكتشف هذا الخلق الفني ( ولسنا نخترعه إختراعاً بمحض إرادتنا الحرة).......
( مارسيل بروست )
إنّ مايبدأ كدهشة طفولية وفضول جامح يستحيل مع الزمن ( لو حافظنا على روح المثابرة والتكريس الكامل ، أو ربما الوهم ! ) " دعوة " أو " مهنة " ، وعلى الرغم من أننا لانعرف إلى حد كبير ماهية هذا الذي نفعله فإننا نجد أنفسنا في مواضع ماكنّا فيها من قبل ولم نتخيل يوماً أننا سنكون فيها : نصبح على تواصل مع عوالم عديدة ( غير عالمنا المادي الذي نعرف ) مثلما نصبح على تواصل مع أناس غرباء عنّا إلى حد بعيد ، وبفعلنا هذا نستحيل نحن ، في المقابل ، أناساً متمايزين عن ذواتنا السابقة فإننا نصبح - ونحن أطفال بعد - على شاكلة هؤلاء البالغين الذين كانوا أمثلة حازت على إعجابنا الكامل وملكت علينا عقولنا ، ولو كنّا محظوظين بما يكفي فسنغدو مشاركين في ذلك الإرتقاء الغامض للروح البشرية ذاتها - تلك المشاركة المضمرة في المعنى الذي تستبطنه عبارة ( تضخيم المشاركة الوجدانية ) التي تناولها كلّ من ( جورج إليوت ) و ( دي. إج. لورنس ) في كتابات ضجّت بمفردات غارقة في المثالية المشرقة .
لكن ماهي أصول هذه الدفقة الخلاقة في العمل الفني والتي يدعوها ( والاس ستيفنز ) " الدافع إلى الإستعارة " : الدافع إلى تسجيل الكينونات ( وقائع وأفكاراً ) ، ونسخها ، واكتشافها ، والتفكّر العميق فيها ؟ يقول الشاعر ( ويليام ستافورد ) في قصيدة له كتبها في سنواته الأخيرة :
So, the world happens twice—
once we see it as is;
second, it legends itself deep,
the way it is.
لذا ، نختبر العالم مرّتين -
نراه أولاً كما هو كائن ؛
وفي المرة الثانية يظهر أسطورياً ، عميقة أغواره ،
في كينونته الحقيقية
العبارة الحاسمة في هذه القصيدة هي ( يظهر أسطورياً ) والتي تفيد معنى مضمراً يشير إلى السرد الحكائي Storytelling - ذلك الخلق الثاني الذي يتعالى على كلّ حيثيات تجاربنا الوجودية مع العالم الذي نجد أنفسنا فيه . إنّ تجاربنا الوجودية في العالم المادي تبدو دوماً غير كافية ولا مشبِعة لنا لأننا نبتغي في كل الأحوال معرفة كُنه هذه التجارب التي إختبرناها في العالم ، ونتوق لتحليلها وإخضاعها للمناقشة الجدالية بقصد فهمها ، بل وربما - في أحيان محددة - التشكيك بها ودحضها . " ثمة عداءٌ قديم مستحكم بين الفلسفة والشعر " : هذه التنويهة تُنسبُ إلى قائلها ( سقراط ) وقد وردت في الكتاب العاشر من ( جمهورية ) أفلاطون ؛ لكن ربما كانت هذه العبارة كناية يراد منها التأكيد بوجود حالة من عدم الرضا في البشرية بين الأشياء التي توصف كما هي وبين ذلك التوق الأبدي للخيال اللعوب الذي يتعالى على الحيثيات المادية كما هي في العالم الواقعي .
تستأنس نفسي أن تقترح عدداً من النظريات الخاصة بنشأة الفن :
1 . ينشأ الفن من خلال الملاعبة : في الإرتجال ، والتجريب ، والفنتازيا ؛ لكنه يظلّ في جوهره العميق إشتغالاً لعوباً وتلقائياً ، والفنّ بهذا الفهم أقرب مايكون لتمرينٍ نوقعه على خيالنا البشري بمثل مانلجأ لتمرين جسدنا بقصد إطلاق طاقة الإنتشاء المخبوءة فيه .
2 . التمرّد وقود الفن : ثمة حاجة دوماً - قد ترقى في مواقف بعينها إلى حدّ الحاجة الهوَسية - إلى مقاومة ماهو كائن ، وإبداء روح العصيان لمايقوله الكبار ( حتى لو إنتهى العصيان إلى نفي وجودي من غير محاكمة عادلة ! ) . ثمة حاجة أيضاً إلى تدعيم الذات وإعلاء صوتها المتفرّد إلى مديات تجعل الجيل كلّه الذي ينتمي له الفنّان - الكاتب جديداً ، خالعاً لأثواب البلى ، وعصياً على التدجين البديهي . يبدو من الناحية العملية أنّ كلّ الفنانين ( الكُتّاب ) يبتدئون بمنشطهم الكتابي وهم أطفال أو بالغون ، وثمة إحساس لجوج في دواخلهم - وهم بالغون - لاينفكّ يدفعهم لإحداث إنعطافة قوية تتقاطع مع ماضيهم ، وفي العادة تكون قوة تلك الإنعطافة بمثل قوة الدافع الذي يسوقهم للكتابة . يكتب ( ديفيد هنري ثورو ) العبارات التالية ، وبروح تنمّ عن تواضع نموذجي ، في الفصل الأول من كتابه والدن :
عشتُ قرابة الثلاثين سنة من حياتي على هذا الكوكب وأنا أنتظر بشوق سماع النتفة الأولى من نصيحة مفيدة من معارفي الكبار ؛ لكن الحقّ أنهم ماأخبروني بشيء ، وربما ماكانوا قادرين أصلاً على إخباري بأي شيء ......
إنّ حسّ اللاعدالة واللاجدوى التي ينطوي عليها هذا الإعلان كفيلٌ بأن يضرب - كما البرق - الحسّ الفني الكامن في أعماق كلّ متمرّد شاب .
3 . الفنّ وسيلة لتخليد الماضي : الفن بهذه الخصيصة هو تسجيل لعالمٍ يتلاشى باضطراد عجول ، فضلاً عن أنه ( الفن ) وسيلة طاردة للشرور الكامنة في مقاساة ويلات الحنين المَرَضي إلى أزمان خلت حتى لو حصل الامر على نحو مؤقت في الأقلّ . إنّ الحديث عن ( ماهو ماضٍ ، أو يمضي ، مثلما هو الحديث عمّا هو قادمٌ ) ، وبأدقّ لغة ممكنة ، لهو أمر خليق بالحفاظ على ديمومة الماضي وتكريم ذكرى هؤلاء الذين أحببناهم أو تعلّمنا منهم ، وينبغي لهذا الماضي أن يعيش مثلما ينبغي لهؤلاء أن يظلوا خالدين في الذاكرة . لكن مهلاً : الكاتب الذي يتفرّد في الكتابة عن أرض متخيلة ، أو طريقة عيش ، أو جماعة من البشر ، ويغالي في الكتابة عنها سيكون - على الأغلب - عرضة للنفي من حياته المعاصرة ، ومع الزمن سينحرف هذا الولع الكتابي ( الماضوي ) ليستحيل إحساساً بالخسارة تتمازج فيه المرارة بشيء من الحلاوة ، وقد يتعدّى الإحساس بالخسارة ليصبح حتى - ربما - إحساساً بالأذى ، والغضب ، وقد يبلغ الامر بالكاتب أن يستطيب الغمّ ويجعل منه مشاعر ثمينة ملتحمة بالطاقات الكبرى التي يكتنزها الشباب .
4 . يولدُ الفنّان ( الكاتب ) وهو مصابٌ بلعنة : وفي العادة يكافح الفنان طيلة حياته لكي يحوز نوعاً من الخلاص الخادع الذي لاسبيل لتفاديه ، مقتفياً في هذا المسلك الخلاصي سبيل الفن ، ويكمن الإحساس باللعنة في شعور اللاإكتمال وعدم الكفاية - ذلك الشعور الذي يغذّي غريزة الإكتشاف الذي لايمكن بلوغه ، والأمر هنا يبدو كمن يجاهد ، مراوغاً نفسه ، بقصد توسيع تخوم جسده ! . الفنان التشكيلي ، مثلاً ، " يخلق فناً " يمكن للآخرين رؤيته بكل ماتنطوي عليه كلمة ( الرؤية ) من معنى ، وهذا الفعل المادي ( خلق العمل الفني ) يصبح جزءً من هوية الفنان ، وكما أنّ الناسك الطهراني ( البيوريتاني ) يعيش دوماً وهو مسكون بمخافة أن تحل عليه لعنة الرب الذي لم يشهدوا مجده عياناً لكنهم لايتعبون من طلب ذلك المجد لكي يتنزّل عليهم في صلواتهم أو أعمالهم الطيبة ؛ فالأمر شبيه - كما يبدو - بما يحصل للفنان الذي يجتهد في إعادة خلق نفسه بمبتدعات فنية ذات خواص جمالية ولها مفاعيل روحية في الوقت ذاته . الأمر هنا يتماهى مع مايقوله ( ويليام بتلر ييتس ) بشأن الفنان الذي ( يخلق روحه في الوقت ذاته الذي يفكك فيه تلك الروح ! ) .
اترك تعليقك