د.حيدر نزار سلمان
قد لا يحقق المحتجون كلّ الأهداف المتوخاة من فعلهم الاحتجاجي، ومما قدّمته الحركة الاحتجاجية الواسعة مِن شهداء وجرحى ومخطوفين، رغم كونه الاحتجاج الأكبر بتاريخ العراق، والأطول زمناً. غير أن ما سيتركه من تغيرات فكرية وتبدلّات ثقافية وقيمية على المستويين القريب والبعيد سيكون هو المنجز.
في مذكرته التشاؤمية الموجهة إلى الزعماء السياسيين في العراق عام ١٩٣٢ يعبّر الملك فيصل الأول عن مشاعر الاحباط التي تراوده، وهو يتولى مهمّة بناء الدولة/الأمة في بلاد الرافدين، وتنبثق أسباب هذا الاحباط من الانقسام الكتلوي العميق في البنيان الاجتماعي العراقي، وحسب مذكّرة فيصل التحليلية؛ فإن المجتمع العراقي مُقسم إلى ثلاث كتل متصارعة متنافرة تفتقد لشروط الاندماج والوحدة على أساس تغليب الهوية الوطنية، لتشكل الأساس في بناء الدولة/الأمة الحديثة التي تأملها فيصل ورفاقه. وتتوزع هذه الكتل باسمائها على: الشيعة والسنة والأكراد؛ وكل كتلة لها سماتها وطموحات قادتها وسلاحها الوفير، و هذا التنافر والتمايز الكتلوي يجعل من مهمة البناء صعبة ومعقّدة وخطيرة تولد شعوراً بالاحباط والقلق المبرر.
في يوم ١ تشرين الأول عام ٢٠١٩ انفجر بركانٌ غير مسبوق ومعهود من الشعور الوطني والتلاحم ليزيح الاحباط التاريخي الذي شكّل قاعدة استند إليها الكثير من المؤرخين والباحثين بكتاباتهم ورؤيتهم التشاؤمية لمستقبل الدولة/ الأمة في العراق، ووسمهم المجتمع العراقي بالتشظي والمنقسم على نفسه عمودياً وأفقياً، مما يجعل مهمة نشر هوية وطنية جامعة ورئيسة مهمة تقترب من الاستحالة، وصعبة التحقق في ظلّ تناحرات عرقية ومذهبية وطائفية، وتفاقم فاضح في الانحيازات القومية والمذهبية، وبروز مثير للمناطقية والبناء السياسي على أساسٍ طائفي. وقد تجسّد ذلك وتمظهر في السلوك السياسي السلطوي والمجتمعي بعد ٢٠٠٣ بوضوح مخيف استدعى بنائب الرئيس الاميركي جون بايدن لإطلاق مقترحه الخبيث التقسيمي للعراق بثلاثة نظم سياسية. ولعلَّ ما كتبه المؤرخون والباحثون السياسيون الغربيون وتأثير ذلك على مؤرخين وكتّاب عرب وعراقيين كان ذو منهجية دالة على فقدان الأمل بروح وهوية وطنيتَين.
أزاح المحتجّون العراقيون من أجيال مختلفة (وهو عكس ما يُشاع من اقتصار الاحتجاج والتظاهر على جيلٍ واحد) هذه الرؤى والتنظيرات والاحباط التاريخي ليرسوا قواعد صلبة وذهبية لهوية وطنية تُصاغ بفعل وحراك جماهيري ونخبوي عابر للهويات الثانوية، مرسخاً مفهوم الوطن كجامع وموحد ومُلهم، وكأنَّ هذا الانبعاث العظيم للروحِ الوطنية جرى بفعل نبوة جديدة حلّت بين شعب بَحث طويلاً عن هويته المفقودة، وخرج من تيهٍ عظيم جسّره السلطويون لعقود متعاقبة ليمرّوا عبره الى مبتغاهم. ويبدو أن العراقيين قد عثروا على الحل الحُلُم كما عثر عليه الأوربيون بعد حرب الثلاثين عام ١٦١٨-١٦٤٨ وأبصروا الحلَّ بالدولة/الأمة ذات الهوية القومية المقدسة الصاهرة، ويمكن التأكيد بأن بلوغ هذه المرحلة من الوعي الوطني والحماس غير المسبوق قد وضع التاريخ العراقي المعاصر في جادّة جديدة مختلفة تماماً من سردياته التفصيلية. بل أن الأكثر دلالة على هذا الانفجار الوطني يتجسد بتوافر رمزياته المخلدة والمشكلة لمخياله وأسطورته التأسيسية، وذلك من خلال كوكبة من الشهداء والسلوكيات والعلاقات الاجتماعية والقيم الصاعدة من مزيج قيم تاريخية ودينية وروح إيثار وتسابق فريد. وكلها رمزيات وسلوكيات وأدبيات لم يعرفها الشارع العراقي سابقاً في سياق حركاته الاحتجاجية؛ السياسية منها والاجتماعية .
على الرغم من المحاولات التي بُذلت بإصرار لتقزيم حركة الاحتجاج وتمزيقها رمزياً وقتلها معنوياً ونبذها، غير أن هذه الحركة الوطنية قد شهدت ولادتها لرموزها ونياشينها وأنماطها الرفضية، بعد أن تخلت عن الالتصاقات الثورية الاحتجاجية بالقوى التقليدية وتصديرها كقيادات والخضوع لها كمقرر ومفاوض؛ وبالتالي كطرف يستحق التدوين التاريخي كقائد ورمز؛ وأعني هنا بالأحزاب والقوى الاجتماعية الفاعلة روحياً ورمزياً. ولعلَّ الفريد المثير للدهشة هو انعدام حالات التسلق والانتهازية الثورية، الا حين انبثاق قيادة من رحم الاحتجاج، لا من أرحام بعيدة عن الساحات وخيام الاعتصام. وهو ما سيحصل بحتمية تأطير الإرادة الشعبية وتمثيلها بشخوص موثوقين، وبمعيار جديد تتمحور حوله الاعتبارات والمطالب، وهو معيار الوطنية الحقة.
قدمت حركة الاحتجاجات تمثلاتها الآنية بـ: الحملات المكثفة الواسعة لتبجيل كل ما هو عراقي وطني، سواء أكان مادياً أو تراثياً رمزياً. وما دعم المنتجات والصناعة العراقية إلا تمثلٍ واعٍ واستجابة لنداء هذه الروح التي أخذت تعتمل بشدة، وكذا الحال لتمجيد العراق بتاريخه ورموزه، وأحياناً التطرّف في حُبّه. وقد تبدى هذا بوضوح بمباريات منتخب العراق الكروي ضد منتخبات دول أخرى. ويمكن ملاحظة الصعود للروح الوطنية في الاجماع الشعبي الداعم للاحتجاج والنابذ للتقسيمات المعروفة، ونبذ واحتقار نظام البعث التوتوليتاري، ورفض رموزه وأدواته عند محاولاتهم الاندساس في موجة التظاهر.
هذه البداية التاريخية الجديدة لا يمكن لها أن تنتهي وتفشل على المدى المستقبلي حتى لو تم إخماد نارها، فهي ستبقى مستعرة بروح صنّاعها، حتمية التاريخ والواقع والظروف الموضوعية؛ فهي إن لم تثمر عن تغيير كبير كما هي أحلام المحتجين، فإنها صنعت رمزيات جديدة وسردية تاريخية ستشكل الذاكرة الوطنية المشتركة. كما أنها خلقت خطاباً مختلفاً ونسقاً للمرور، ورموز لم يك مقبولاً تصدرها اجتماعياً وثقافياً نتيجة النسقيات القديمة المهيمنة. بيد إنها فرضت نفسها بوهج وطني وبخلاصية صادمة من التقليديات التاريخية المؤثرة، بعد أن فكت الصدمات والأوضاع العامة الارتباط المعهود بين جمهور نسقي وقيادات حزبية وفاعليات اجتماعية لتتحرر قوى الشعب وتصنع مثالها وحلمها وخطابها وعصرها بإرادة البحث عن وطن حقيقي ورابطة واحدة تستند إليها الدولة/الأمة المنشودة.
اترك تعليقك