سعد محمد رحيم.. سيرة في أوانها دائماً

سعد محمد رحيم.. سيرة في أوانها دائماً

علي حسن الفواز

تقانة السرد تفترض شروطاً متعالية للكتابة، عبر التحكم بآلياتها الفنية، أوعبر صياغة بنيتها النصوصية، إذ لا كتابة خارج هذه اللعبة الماكرة،

فهي تزخر بالتفاعلات النصية، وبطاقة السرد على تمثيل هذه التفاعلات، والتي تُعطي للسارد مجالا مفتوحا لمقاربة الكتابة بوصفها بنية تتسع للوصف والتمثيل والسردنة، ولربط السرد بالتاريخ والسيرة واليوميات والاحداث وحتى بالحكايات، ولتبدو الكتابة الروائية في هذا السياق وكأنها لعبة مفتوحة للتعالقات النصية..

وجدت هذا المدخل النظري عتبة للحديث عن سرديات سعد محمد رحيم، فهو السارد الذي يُفكّر بمكر العارف، وبشطارة الباحث الذي يستدعي الأفكار لأن تكون الجوهر في تعالقاته النصية، فهو لا يترك للعبة السرد أن تكون عفو الخاطر، أو أن تتشكل الاحداث والصراعات بعيدا عن التمثيل الفكري لها، وأن مهارته في التعالق النصي لا تتبدى عبر تعالق الأحداث بين التاريخ والسرد كما عند امين معلوف أو جمال الغيطاني، بل إن تعالقه يبدو أكثر حضوراً عبر مناصات الأفكار، وهي مساحة لاستكناه ما تكشفه الاحداث السردية، أو ما يتبدى عبر الشخصيات، والتي لاتبدو بريئة في اغلب رواياته، لأنه يصطنع لها علاقات مريبة، وامزجة متوحشة، وواقعا مأزوما، و يضعها في سياق وظائف سردية تقوم على لعبة البحث، والكشف والمطاردة..

شخصيات البحث والمطاردة تعيش أزمة وجودها عبر أزمة أفكارها، وعبر ما تتورط به من صراعات، أو عبر ما تعيشه من ملاحقات ومطاردات. هذه الازمة في سياق تمثيلها الافكري ليست بعيدة عن الاقنعة السياسية، ولا عن الاقنعة الايديولوجية، إذ تتلبسها، أو تُعبّر من خلالها عن طبيعة الكوابيس التي تعيش تحت ضغطها النفسي، وعن الأفكار المتعالية او الاستيهامية التي تدفعها الى المغامرة، أو الشطط، أو حتى الى الانكسار والموت.

الجسد ورهان الوعي الشقي

الجسد هو مركز البطولة في سرديات سعد محمد رحيم، مثلما هو القناع التمثيلي للسلطة، وللرغبة، وللتطهير الذي يلجأ اليه لمواجهة لحظات الضعف، أو للبحث عن الخلاص من فكرة الخطيئة بوصفها نوعاً من الهزيمة.

الوعي الشقي يحضر في سياق التعرّف على المسكوت عنه من الأفكار، وعلى محنته الوجودية، والتي هي محنة جيل كامل عاش الهزيمة والحرب والحصار والمتاهة والاحتلال، لكنه ظلّ يدرك أن لعبة ذلك الوعي تكمن في الاشتباك معه، وفي الاغتراب عنه، وفي البحث عن مقاربات يكون الجسد والرغبة هما شفرات الكشف عن المحنة، وعن علاقة هذه المحنة بالتاريخ، وبالتجربة السياسية والاجتماعية والنفسية التي تعيشها تلك الشخصيات..

شخصية " محمود المرزوق" في رواية " موت بائع الكتب" غير التقليدية تمارس وعيها عبر ثيمة الصراع، وعبر لعبة التحوّل التي تعيش مخاضاتها، فهي شخصية عصابية من جانب وأضحوية من جانب آخر، وهي في هذا السياق أنموذج لشخصية الشيوعي الذي عاش محنة الفكر، ومحنة السجن وغربة المكان، وشغف الجسد وخديعة التحوّل، فضلاً عن ما تمتلكه من قدرة على استدعاء سلطة وعيه، لمواجهة قسوة تهديم شخصيته القديمة، وعبثية خوائه الداخلي، والذي هو خواء جيل عراقي خربته " الايديولوجيا" وانهكته الهزائم والحروب والمنافي..

بدت هذه الشخصية هي الاقرب سرديا لاشتغالات سعد محمد رحيم، ليس لأنها شخصية ثقافوية حسب، بل لأنّه وضعها في سياق وظائفي تتبدى من خلاله التحولات العاصفة في حياة المثقف اليساري، بدءاً من لحظة السجن في نقرة السلمان، والهجرة الى الشرق الأوروبي " الاشتراكي" وانتهاء بالعودة الى بعقوبة والموت العبثي في شوارعها..

تحولات هذا "المثقف" بدت أكثر وضوحا من خلال هروباته واخطائه، وشبقه، وعلاقاته الغامضة، وحتى اللعبة السردية التي رافقت تتبع سيرته، والتي ارتهنت الى سردنة "لغوية" عبر الكشف عن تحولات فعل السرد في الرواية، وعير الكشف عن تاريخه الشخصي بوصفه كاتبا، له وثائقه واوراقه وسيرته المهملة، فضلاً عن تعرية السري في علاقاته، وبقطع النظر عن " المسحة الايروتيكية" التي تكتنف هذه السيرة، فإنها رهنت وجودها السردي في صيغة تقانة " رواية الملاحقة" في تتبع سيرة الضحية، والبحث عن القاتل، وفي الكشف عن الغامض في هذه الجريمة، ومنها ما يتعلق بعن علاقة هذا الغامض بالتحولات الحادثة في حياته السياسية والجنسية الغامضة ايضا.

وفي رواية " فسحة للجنون" اتسعت طاقة السرد، لتلامس يوميات الثقافي عبر اشارات سيميائية تكشف عن الشخصية الأضحوية، وعن خذلانها الواقعي، عبر دفعها للاعتقال والتعذيب والجنون، فالبطل حكمت يفقد وجوده، وجسده واسمه، من خلال عطب عقله ورجولته وتشظية اسمه الى "حّكو" وهذا الحذف الرمزي، يدفع باتجاه" فنطزة" الواقع الذي تعيشه تلك الشخصية في الواقع وفي بنية الحكاية، وبما يدفع الروائي الى اجتراح حيلٍ سردية، تقوم على فكرة " التسريب النسقي" من جانب، وعلى توسيع مجال الحذف السردي، لتشمل المكان الواقعي عبر اصطناع مكانٍ رمزي، هو مكان الحرب الحدودية. 

تشكيل مستويات الحكي في هذه الرواية يقوم على وحدات سردية متناظرة، تبدأ من وحدة كلية الفنون الجميلة مقابل وحدة السجن، وحدة الحياة والحلم مقابل وحدة الجنون وتعطيل الذاكرة، ووحدة المكان/ المدينة/ المكان الأليف، مقابل وحدة الجبهة/ البلدة الحدودية المهجورة/ المكان المعادي، ولا تنتهي عند رمزية المرأة- نهلة، كميلة) مقابل هيمنة ذكورة السلطة، وذكورية الحرب، والتي تفرض قوتها على الجسد المخذول، والمهمل، إذ تدفع به الى النسيان، والعطب، بما فيه نسيان حبيبته..

أنموذج المثقف المتاهوي

المثقف القلق، والساخر، الساخط، والمسكون بالشبق، والهرب، وهي صور متعددة للمثقف الذي يرسم صوره سعد محمد رحيم، والذي " الذي يدسّ انفه" في الخفايا والاسرار، متورطاً، ومغامراً ومندفعاً، وأضحية، ليبدو وكأنه أنموذج للمثقف المتاهوي، الذي يستغرقه الحلم، لكنه يعيش رهاب المطاردة، وهاجس الخوف، مثلما يعيش اغواء الجسد، بوصفه اغواء تعويضياً، والذي يدخل في صراع مفتوح مع قوى غامضة، أو اقنعة متعددة لنساء غامضات، أو مع قوى سرية، قد تحمل قناع السلطة أو رهاب الذات المُحبَطة..

المثقف المتاهوي هو مثقف اللحظة العراقية المتشظية، يجد في اللغة وسرودها ولعا استيهاميا للتعبير عن ذاته، وعن قلقه، وعن شبقه، وهي ما تُظهر اهتمامه ب(سردنة الشخصية الثقافية) فهو يضعها في الواقع، عبر تجريدها من أوهامها، وقوتها الافتراضية، حيث يشحن الواقع بطاقة غامضة، استلابية، تتفجر عبرها الصراعات، ويفقد فيها الزمن حياديته ليكون زمنا متسقا مع فكرة الصراع، إذ هو الصراع المتعالق والمتناص مع رعب السلطة، ومع فكرة الحرب، أو مع توحش الصراع الأهلي، والذي يتحول سردياً الى فضاء اغترابي تتوه فيه الشخصيات، لاسيما الشخصية الثقافية بحساسيتها وأوهامها المفرطة، مقابل حضور المنظور السردي الذي يصطنعه المؤلف الماكر، والذي يراقب من خلاله تلك المتاهة، كاشفا عن رعبها، وعن رعب المثقف وتحولاته فيها، وعن اغترابه الوجودي والانساني داخلها، فهي متاهة تشبه " صحراء التتر" متاهة اللانتماء، واللاجدوى، الفارقة في صورها في عوالمها، وفي مرجعياتها التي تجعلها أنموذجاً وجودياً لفكرة المتاهة العراقية... 

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top