د. حيدر نزار السيد سلمان
يوظف المحتجون منذ بداية تشرين الأول وحتى الآن التراث والطقوس الدينية بحرفية عالية وذكاء، ينم عن وعي تحرر من القيود التي كُبل بها التراث بتوظيفه كوسيلة للهيمنة السلطوية واستخداماتها ضمن سياقات أيديولوجيا السلطة في التحشيد الجماهيري،
وفي صناعة وعي جمعي عدائي وتقاربي حسب ما تقتضيه مصلحة المتحكمين وميولهم، فضلاً عن استبدال راهنيته بحالة الانطلاق والتواصل الايجابي بدل الانغماس في راهنية تقهقرية سلبية جامدة بالفعل والموقف.
استعاد المحتجون الفعاليات المصاحبة للنشاطات الشعائرية الموسمية كوسائل لدعم احتجاجاتهم وإدامة زخمها من خلال تحقيق أنموذج للاجتماع الثوري التضامني، وتأكيد الفعل الجماعي التعاوني لإبقاء جذوة احتجاجهم متقدة قادرة على صنع التماسك والمطاولة ضد سلطةٍ خبروا قدرتها على فض التظاهرات السابقة وتحجيمها أو التغلغل في نسيجها لتمزيقها وقتلها معنوياً ومادياً. ويبدو أن روح المحتجين قد أعدت لهذا التآمر السلطوي خططاً وعُدة مهمة تتمثل باستخدام المواكب الحسينية بقدرتها التفاعلية التنسيقية وما تمنحه من ذوبان للشخصنة في بوتقة الفعل الجماعي كآلية للتغلب على حاجتها للدعم والإسناد اللوجستي والتنظيمي. وبالفعل فقد حققت المواكب خدمات طيبة لجمهور المحتجين ورفدتهم بعوامل البقاء الطويل في ساحات التظاهر والاعتصام عندما سخرت هذه المواكب طاقاتها في هذا الغرض فقدمت عملاً وجهداً ذو منفعة كبيرة.
في اتجاه التعبير عن روح الرفض والاحتجاج والدعوة للاصلاح وتحسين الأحوال، استعان المحتجون بالخزين الطقوسي الاحتفائي إلى أقصى درجات النهل والاستخدام، إذ عبرت الجماهير بشعاراتها وأهازيجها بطريقة المراثي والردات الحسينية باستعمال واسع وذكي للرمزية الشعائرية وتمثل ذلك ب: تقسيم جمهور الاحتجاج الى مجاميع وجوقات حسب طريقة المسيرات العاشورائية وتأخذ كل مجموعة على عاتقها ترديد ردة تكون في هذه الحالة ذات طبيعة سياسية ناقدة ومنددة بأفعال السلطة وفسادها. وفي الوقت نفسها تصرخ بالمطالب الشعبية وتطري على الفعل الحركي للمحتجين. وبكل الأحوال هي تلهب حماس الجمهور وتضخ فيه روح التحدي والعناد حتى تحقيق الأهداف. ويمكن لنا في هذه الحالة الإشارة الى الردات الجماهيرية لمدينة الناصرية (المدينة القائدة للاحتجاج وأيقونته بفاعليتها الأكثر زخماً) كانموذج أكثر وضوحاً في هذا المجال. وبدل البكائيات المعهودة تحول خطاب الردات الى لغة مؤثرة تزج بعزمها في قلب الحدث الجماهيري، وتزيده قوة وشعور بإرادة التغيير والإصلاح.
غير الاغتراف البارع من الخزين التراثي والحسيني، تحقق في مسألة رد الشبهات والتصدي لحملات التسقيط والتشويه والعنف الرمزي والمادي ضد المحتجين المعتصمين، فقد ربط المحتجون بين حرق خيامهم وسرادقهم وبين حرق خيام عائلة الإمام الحسين في كربلاء من قبل الجيش الأموي. ولعل في هذا الربط التاريخي الذكي عدة إحالات منها:
إن الفرق زال بين الطبقة الحاكمة بظلمها وفسادها، وبين من ترى فيهم أيديولوجية هذه الطبقة أعداء تاريخيين. وهي رؤية الجمهور المحتج نفسه. فقد اثبتت الأحداث أن هؤلاء المدعين بتمثيل هذا الجمهور لا يختلفون سلوكاً ونهجاً عن أعدائهم التاريخيين، كما رد المحتجون على محاولات تلطيخ حراكهم وتسقيطه رمزياً بربط تحركهم كامتداد لثورة الإمام الحسين، وبالفعل خاض خطاب الجمهور المكتوب والبصري في توكيد حقيقة المنبع الحسيني لاحتجاجهم ولا يمكن هنا غير مشاهدة البيارق والرايات الحسينية المرفوعة من المتظاهرين مع الاعلام العراقية في إشارة للدمج بين مفهوم الوطنية المنادى به وبين التاريخ الثقافي الثوري للمشاركين في الاحتجاج.
ولعل هذا الترميز الدفاعي والهجومي في الآن نفسه يمنحنا علامات لقدرة الأخذ من الخزين التراثي والثقافي واستخداماته في تطوير الرؤية والخطاب وتدعيم المطالب الشعبية ورفدها بقوة ابهار وشحذ همم، وقوة للفعل بالاستناد الى العقيدة التضحوية الفدائية للإمام الحسين. وقد عبر الباحث الاجتماعي الإيراني إحسان نراقي عن هذه الخاصية التثويرية في خضم نصائحه للشاه محمد رضا بهلوي عندما نبهه الى استعانة المعادين والمعارضين لنظامه بالملحمة الحسينية المتغلغلة عميقاً في الوجدان والثقافة الشعبيتَين، ومن الظريف تاريخياً أن المحتجين العراقيين التفتوا لذلك مثلما كان الايرانيون قد اغترفوا منه في الثورة الايرانية عام ١٩٧٩ .
في المحاججات والنقاشات بين خطاب الاحتجاج ومناوئيه يمكن لنا تلمس الاستخدام التراثي والتاريخي من قبل المحتجين في الدفاع عن حراكهم ومواقفهم ضد محاولات التقزيم والتشويه والتسقيط. وفي هذا السياق هناك وفرة من نماذج الاستخدام، وعلى سبيل المثال رد المنتفضون على من وسمهم بالمندسين والمخربين بقولهم إن ذلك ليس جديداً فالثوار بتاريخ الاسلام تم نعتهم بأبشع النعوت.لكنهم استمروا بثوراتهم، وردوا على من تخلى عنهم واتهمهم بالقلة غير المؤثرة بالقول: إن الإمام الحسين ثار وقد تخلى عنه الجميع إلا ثلة من الابطال الثابتين. وفي ظل هذا الشعور بالخذلان وندرة المناصرين رفع المحتجون شعار : (ألا من ناصر ينصرنا) ويذب عنا هجمات قوات الأمن وشراستها. وقد تردد هذا النداء كثيراً في يوم السبت المصادف ٢٥/كانون الثاني ٢٠٢٠عندما تعرضوا لهجمات منسقة في صباح هذا اليوم في أغلب المدن التي تشهد الاحتجاجات. ومما يمكن رصده، أن الاستجابة لهذه المناشدات والاستغاثة كانت كثيفة بمناصرين زخوا زخاً على ساحات الاعتصام .
مثّل هذا النهل والاغتراف من الخزين العقائدي والتراثي خصوصاً خزين الملحمة الحسينية نوعاً من أنواع البحث عن الملاذ والناصر التاريخي، كما جسد اللجوء للرمزية كوسيلة لشحذ للهمم ورفد الخطاب الاحتجاجي بقوة الروح الشعبية ودرع حماية صلد ضد محاولات التخوين والاختلاق التسقيطي. ومن جانب آخر حاول المحتجون إحراج السلطة الى أقصى درجات الإحراج ووضعها بموضع المتهم قليل الحيلة غير القادرة على مواجهة حقيقة نفسها أولاً والجمهور ثانياً
وقد برز هذا المنحى من خلال توظيف الشعائر والطقوس والآليات الحسينية بطريقة معاكسة لما وظفتها السلطة في الترويج لنفسها وتمكينها سلطوياً ونفوذاً لبلوغ أهدافها في الهيمنة واستلاب الرأي العام وإخضاعه.
بيد أن المحتجين وظفوه لقضية وطنية عادلة تتمحور على ضرورة إبعاد الفاسدين الذين استغلوا العاطفة الدينية وقدموا مصالحهم الخاصة والحزبية على مصالح البلد العليا وظهر منهم مايناقض ادعائاتهم وخطابهم الايديولوجي ،كما تم توظيف هذا الخطاب بالمطالبة بالحفاظ على سيادة البلاد وقرارها السياسي وتحقيق إصلاحات في كل المجالات.
شكل هذا الاستخدام المنبع الأول، لكن لايمكن إنكار المقاربات التي حاجج فيها المحتجون وتغنوا بها، كما هو حال الثورات والانتفاضات في العالم، وهو الأمر الذي يستلزم دراسات بحثية وأكاديمية لأطول وأكبر احتجاج جماهيري بتاريخ العراق المعاصر جاوز استمراره الـ١٠٠ يوم
اترك تعليقك