اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > حوار الثلاثاء..لـطفية الـدليمي: الرواية تعيد كتابة التأريخ بعد ضخّ عناصرمن التشويق والمتعة فيه

حوار الثلاثاء..لـطفية الـدليمي: الرواية تعيد كتابة التأريخ بعد ضخّ عناصرمن التشويق والمتعة فيه

نشر في: 3 فبراير, 2020: 06:20 م

حفيدةُ سلالة مائية.. ومُبشّرةٌ بعصيان الوصايا

حاورها: علاء المفرجي

الكاتبة والروائية والمترجمة لطفية الدليمي، ولدت في بعقوبة في محافظة ديالى وأكملت دراستها في مدارس بغداد، وحصلت على شهادة بكالوريوس آداب في اللغة العربية.

وعملت في مجال التدريس في اللغة العربية قبل أن تنتقل للصحافة حيث عملت محررة للقصة في مجلة الطليعة الأدبية العراقية، ثم مديرة تحرير مجلة الثقافة الأجنبية العراقية. أسست سنة 1992 مع عدد من المثقفات العراقيات منتدى المرأة الثقافي في بغداد، عضو مؤسس في المنبر الثقافي العراقي. وتُرجِمت قصصها إلى اللغات المختلفة، عملت 

رئيسة تحرير مجلة هلا الثقافية الشهرية التي صدرت في بغداد عام 2005

كتبت وألفت العديد من الروايات القصص والمؤلفات منها: ممر إلى أحزان الرجال (قصص)، البشارة، التمثال، عالم النساء الوحيدات، من يرث الفردوس، موسيقى صوفية (قصص) ، حديقة حياة- (رواية)، يوميات المدن، سيدات زحل، عُشّاق وفونوغراف وأزمنة... وغيرها. 

ومن الأعمال المترجمة عن الإنكليزية: بلاد الثلوج (رواية)، ياسونارى كواباتا، ضوء نهار مشرق (رواية)، من يوميات أناييس نن، فيزياء الرواية وموسيقى الفلسفة، الثقافة ، لتيري إيغلتون ،وغيرها

كما كتبت عدداً من المسرحيات، بالإضافة الى إسهامها في إعداد الندوات الثقافية ومن الندوات التي أسهمت بأعدادها وأشرفت عليها وشاركت في أعمالها من 2003 إلى 2006 منها ندوة عن تدمير وسرقة المواقع الثقافية والآثار –لمركز شبعاد -2004، ندوة وسيمينار عن عالم الاجتماع علي الوردي – المنبر الثقافي العراقي ، 2005. وندوة عن المنجز الثقافي للمرأة العراقية في القرن العشرين - مركز شبعاد لدراسات حرية المرأة - سنة 2004.

 كتبتِ شهادة عن المؤثرات الأدبية وأول الكتب المؤثرة فيكِ في كتابك (عصيان الوصايا) المنشور حديثاً . كيف صيغت النشأة الأولى وأسهمت في نمو الموهبة التي طرقت آفاقاً جديدة لكثرة الروافد المعرفية من التراث الى الحداثة؟

- تشكّلت نشأتي الأولى بفعل مؤثرات البيئة والتعليم والقراءة الذاتية المتحرّرة من الكوابح الثقيلة؛ لكني أزعمُ أنّ الدافع الذاتي في استكشاف العالم والتأثير في تشكّله يبقى العنصر الأكثر تأثيراً من سواه. قد يميلُ البعض لإعلاء شأن مؤثر ما أو أناسٍ ما في مقطعٍ زمني مبكّر من حياته؛ لكني أرى أنّ الجهد الذاتي المقترن برؤية وشغف ومثابرة لاتفتر أو تخمد جذوتها مع السنوات أو المعيقات هي العناصر الأكثر فعالية في تشكيل صورة الإنسان المستقبلية، وأراني في هذا الشأن متماهية مع أحد الموسيقيين (أذكر أن إسمه هو خودروفسكي) الذين عزفوا الكمان أمام ملكة بلجيكا، وعندما إنتهى من عزفه اللامع تقدّمت منه الملكة وقالت: " أنت عبقري سيّد خودروفسكي "؛ فأجابها الموسيقي: " سيّدتي الملكة، كنتُ كادحاً قبل أن أصير عبقرياً !! ". هذه هي خلاصة الحكاية البشرية لكلّ فردٍ مبدعٍ: أن تكون كادحاً ومضحّياً في السعي وراء المعرفة وتوظيفها في إعادة تشكيل صورة العالم وصناعته ليكون أكثر جمالاً ونزاهة وعدالة ورحمة.

 تقولين في كتابكِ (عصيان الوصايا) أنكِ من سلالة مائية. هلّا حدثتِنا عن هذه السلالة؟

- ثمة عنصرين ساهما في إنماء شعوري - الذي إستحال قناعة راسخة لاحقاً - بكوني إنسانة تحدّرت من سلالةٍ مائية. العنصر الأوّل حسّي مرئي على الأرض تلبّسني بسبب نشأتي الأولى في (بهرز) ذات البساتين الجميلة التي يمكن وصفها بأنها مستوطنةٌ مائية لكلّ الأحياء الرائعة من فراشات وأزاهير ونخل وطيور،، إلخ؛ إذن سيكون أمراً طبيعياً أن يتملّكني حنين أزلي لِـ (مستوطنة الماء والخضرة والجمال) البهرزية حدّ أن أمنح ذاتي عضوية سلالة مائية كونية الإنتماء. أولّ ماأفعله عند إنتقالي لسكنٍ جديد هو أن أحيط نفسي بمجموعة منتخبة من الأزاهير والنباتات في إشارة رمزية تؤكّد توقي النفسي لتثبيت كينونتي المائية. 

أما العنصر الثاني فهو فكري خالص أرى بموجبه أنّ العراق تشكيل حضاري يستمدُّ دوافع البقاء والمطاولة من جذوره الرافدينية، وكنتُ أتطلّعُ منذ البدايات إلى ترسيخ فكرة (الرافدينية العراقية) لكي تكون الرافعة الحضارية التي يمكن عبرها إعادة تشكيل العراق بعيداً عن الطائفيات الضيقة والعنصريات القاتلة والعصبويات المافيوية، ومن الطبيعي أنّ من تتوق لصياغة عراق رافديني - هوية وثقافة - لابدّ أن ترى في ذاتها سليلة حضارة مائية. أليس الماء قرين الحضارة الرافدينية، وسرّ قوّتها ومبتدعاتها الثرية؟ ضاع الحلم الرافديني وتبدّد في زحمة دخان مؤامرات العسكر ومآسي الحروب وجشع العصابات المافيوية التي تناهبت العراق؛ لكنّ جذوري المائية الرافدينية باقية تقاوم الفناء.

 درستِ الموسيقى والرسم على يد أساتذة أكفاء. لماذا إخترتِ الكتابة، وهل أسهمت هذه الأجناس في تشكّل ملامح الكتابة عندك؟

- هذا صحيح. درستُ الموسيقى في المرحلة الثانوية منتصف خمسينيات القرن الماضي على يد الأستاذة المبدعة (بياتريس أوهانيسيان) التي كانت تدهشنا بمحاضرتين ممتعتين أسبوعياً، وأذكر كيف دعتنا لحضور عرضها الموسيقي المبهر على قاعة (بهو الأمانة) التي صارت قاعة الشعب فيما بعد. تألقت أوهانسيان في عزفها وهي ترتدي فستاناً بالغ الاناقة بلا أكمام، وراحت تلاعبُ مفاتيح البيانو أمامها مثلما يفعل أي عازف عالمي عبقري. هكذا كان حال العراق في تلك الأيام: عراق الأحلام النازع بثقة تجاه الغد مثلما كانت (تايتانك) سفينة الأحلام الموعودة. 

حصل ذات الشيء مع مادة الرسم؛ فقد إعتادت الفنانة الراحلة (نزيهة سليم) على تدريسنا حصتين أسبوعياً. لم تكن الدروس تقلداً روتينياً لسدّ فراغٍ أو رفع العتب؛ بل كان درساً ثقافياً يتغلغل فيه الرسم إلى ثنايا عقولنا ويسائل تفاصيل صغيرة مسكوتاً عنها في حياتنا اليومية. 

هكذا كان حال العراق: كبارُ أستاذاته وأساتذته يدرّسون في مدارسه الثانوية !!. كان عراقاً يبشّر بتجربة ليبرالية - وإن كانت صغيرة - لكنها تنبئ بمستقبل يمكن البناء عليه وتطويره في المستقبل بحسب تطوّر الوضع الإقتصادي والبنية التحتية والترسيمة الثقافية بعامة. كان ثمة أخطاء بالتأكيد؛ لكنّ التطوّر الحضاري المتواتر كان كفيلاً بتصغير الأخطاء - على المستوى السياسي بخاصة - بعد أن تكبر العقول وتتوسّع منافذ الرؤى والتطلّعات الإنسانية. تبدّد كل شيء تحت وقع جزمات العسكرتاريا والمناكفات الحزبية البائسة التي أضاعت العراق وقصفت أعمار الجميع - متحزّبين أم لم يتحزّبوا على السواء -. 

لماذا إخترتُ الكتابة عوضاً عن الموسيقى أو الرسم؟ الجواب بسيط: لأنني إنسانةُ خُلِقت لتكون كاتبة بحسب مؤشرات النشأة الأولى التي أملت عليّ أوامرها الملزِمة: لطفية، كوني كاتبة، فكنتُ كاتبة!!. أوظّفُ الموسيقى بخاصة في سردياتي الروائية، وقد كتبتُ الكثير بشأن دور الموسيقى في تشكيل جملتي الروائية. أنا موسيقية وتشكيلية طبيعية متقنّعة في صورة الروائية التي يعرفها الناس.

 سعةُ قراءاتك وثقافتك جعلتكِ تختارين أسماءً لأدباء عالميين (هسّه، كازنتراكي، ماركيز) في كتابك (مملكة الروائيين العظام) لتشاركي القارئ متعة الإحساس بالجمال من خلال القراءة المنتجة لهؤلاء. لماذا هؤلاء الكُتّابُ دون غيرهم؟

- كتبتُ الكثير حول كُتّابٍ عديدين من مختلف الجغرافيات البشرية واللغوية؛ لكن كتابي (مملكة الكّتّاب العظام) يتفرّد بأنّه الكتاب الكامل الذي خصّصتهُ لعظماء الأساتذة وكبار المعلّمين. هسّه، كازانتزاكي، ماركيز هم ثلاثة أضلاعٍ في مثلّث من الغوروهات (على نسق معلّمي الحكمة المشرقيين في البوذية)، وتحفل كتاباتهم بكوكتيل معتّق من الفلسفة والخبرات البشرية والرؤى المتفرّدة، وأرى أنهم سيبقون معلمين كباراً للأجيال القادمة.

 وثّقت (سيدات زحل) الفوضى المدمرة، والخراب، وكيف أوقظت كراهيةً دفينة هي كشف مؤسس لتداعيات حروب ثلاثة. ماذا تقولين؟

- رواية (سيّدات زحل) هي الرواية الأولى التي كتبتُها بعد غزو العراق عام 2003، وقد جعلتها ملعباً مارستُ فيه حريتي الكاملة في تطبيق رؤيتي الجديدة بشأن كون الرواية كشفاً معرفياً مقدّماً في إطار مسرودة حكائية تنطوي على ماينبغي من عناصر الإمتاع القادرة على الإمساك بانتباهة القارئ وجعله غوّاصاً يتشارك الروائي في مساءلة موروثات التأريخ ووقائع الحياة الحاضرة. 

أردتُ من رواية (سيدات زحل) أن تكون مساءلة عسيرة لتأريخ العراق بكلّ إشكالياته المسكوت عنها والتي قادت إلى خراب العراق الذي شهدنا ذروته بعد الإحتلال الأميركي للعراق عام 2003. العراق كتلة حرجة (بالمعنى الإستعاري المستخدم في الفيزياء النووية)؛ فهو بقدر مايضمّ عناصر حضارية يمكن أن تجعل منه ياباناً في الشرق الأوسط (كما كتبتُ في إحدى مقالاتي المنشورة في المدى) لكنه في الوقت ذاته يمكن أن يتمزّق كرداء بالٍ إذا ماارتكن أبناؤه إلى المرويات التأريخية القاتلة التي تعلي شأن الخرافة الطائفية وتضعها في مقامٍ أرفع من الخصيصة العراقية الرافدينية. كشفت (سيدات زحل)، ومن خلال شواهد إنسانية محدّدة، عن المسكوت عنه في تأريخنا العراقي القريب والبعيد، ويمكن لتلك الشواهد أن تكون نقطة شروع في بناء حضاري جديد للعراق متى ماخلصت النوايا وطرحت السرديات الفرعية التي تسعى لجعل العراق حصة حصرية لبعض مكوناته البشرية.

 في روايتكِ (سيّدات زحل) منحتِ النماذج النسائية مكانة تستحقها. نشير في هذا الشأن إلى حياة البابلي. من هي حياة البابلي؟

- حياة البابلي، باختصار، هي كناية إستعارية عن المرأة العراقية. ليس من إمرأة عراقية إلا وفيها شيء من حياة البابلي: المرأة التي أدامت حياة الأسرة عندما غاب الرجل واختطفته آلة الحرب الجائعة، والمرأة التي تحمّلت مالايطاق من المعاناة والمصابرة وهي تحلم برجلها المشتهى، والمرأة التي حافظت على مصدر دخلها الوحيد رغم تعرّضها لمضايقات ربّ العمل الذي يحمل سطوة حزبية أو وظيفية جعلته قيّماً على أرزاق الناس ومعاشاتهم. حياة البابلي هي المرأة العراقية البطلة، سليلة المجد الحقيقي لا الفلكلوري، البطلة صانعة البطولة ومورثة جينات البطولة التي تعاندُ كلّ المعيقات المحبِطة.

 (عُشّاق وفونوغراف وأزمنة) هل نصنفها كرواية تأريخية، ذلك أنها تتناول تأريخ العراق من بدايات القرن العشرين وحتى الوقت الحاضر؟ هل كان للوثيقة دور بارز في كتابة الرواية، وماذا تقولين عن استخدام الوثيقة في الرواية؟

- هذا سؤال ينطوي على عنصر مميز صار أحد الموضوعات الأثيرة في نظرية الرواية في العقود الأخيرة، وأعني بذلك (الرواية التأريخية) التي ترسّخت قواعدها ومفاهيمها منذ أن نشر المُنظّر الأدبي والثقافي (جورج لوكاتش) كتابه المهمَ - وإن جاء مثقلاً بالحمولات الآيديولوجية اليسارية - في الرواية التأريخية والملحمة. إنّ الإتجاه السائد الآن يعضّدُ شكلاً من الكتابة الروائية يمكن توصيفه بأنه رواية (تخييل تأريخي Historical Imagination (- تلك الرواية التي لاتعيد كتابة التأريخ بعد ضخّ عناصر من التشويق والمتعة فيه فحسب بل تعيد تشكيل التأريخ وتضمّنه عناصر مجاوزة للواقع البشري (سحرية أو أسطورية) بقصد فهم أكبر للحالة البشرية. قد تبلغ رواية (التخييل التأريخي) مبلغ إعادة مساءلة المسرودات التأريخية عن طريق طرح مسارات تأريخية مغايرة للحقائق التأريخية، والغرض من هذا الجهد الروائي واضحٌ: إمتلاك فهم أكبر لحقيقة الواقع البشري على كلّ الأصعدة. 

روايتي (عشّاقٌ وفونوغراف وأزمنة) هي رواية تخييل تأريخي، وقد أردتها أن تكون مختبراً تخليقياً أدخلتُ فيه عناصر من العلم والتقنية والتأريخ والأسطورة والفيزياء والرياضيات والملاحم والسايكولوجيا البشرية والغزوات العسكرية والسياسات الثقافية ومشهديات منتخبة من الحياة العراقية،،، إلخ، وكلّ ذلك بقصد إبتداع مُنتجٍ واحد من هذا المختبر السردي: فهمٌ راكزٌ ودقيق ومنضبط للحالة العراقية الراهنة بعيداً عن التنظيرات الشعبوية والرؤى السياسية أو الحزبية الضيقة. 

أما بشأن الوثيقة في الرواية فقد إعتمدتها في روايتي هذه، ويمكن أن تلعب الوثيقة دوراً مزدوجاً عظيم الأهمية في السرد الروائي؛ فهي من جانب تتيحُ للروائي التنقّل الحرّ غير المقيّد في الزمن الروائي، وتقدّم في الوقت ذاته خلفية مرجعية يمكن من خلالها مقارنة عناصر من الحاضر مع مع نظائرها في أزمان سابقة، وهذه المقارنة قد يلجأ لها الروائي في أحيان خاصة ولأغراض خاصة هي الأخرى.

الوثيقة بالتأكيد مصدر روائي ثري في الكتابة الروائية متى ماوظفت بطريقة مناسبة.

 إصداراتك في التأليف والترجمة تجاوزت الخمسين مؤلفاً. لماذا هذا الإصرار على الترجمة رغم أن ما عُرِف عنك أنكِ من كُتّاب السرد؟ وهل هذه الإهتمامات المتعدّدة هي أقنعة متعددة لشخصيتك؟ وهل هذا العدد الوافر من المؤلفات هو (ردٌّ إبداعي على الإقتلاع والنفي) كما قلتِ مرة؟

- العقل البشري الخلاق مصهرٌ لفروع معرفية متعددة بقصد إعادة تخليقها في هيأة مركّب عضوي واحد. ليس مِنْ عقلٍ يسعى ليكون خلاقاً في أي حقل معرفي إلا ويُبدي نفوراً طبيعياً من أية محاولة للفرز والعزل والتقييد والتنميط والرؤية المحدودة؛ بل يتوق إلى استكشاف تلك الروابط الخفية Hidden Links التي تربط كلّ الإجتهادات المعرفية البشرية.

تخصصت في دراستي الجامعية باللغة العربية؛ لكن عشقي للغة العربية - التي لاأزال أراها لغة ساحرة مفعمة بأفانين القول وطرائق السرد وطيّب الكلِم - لم يقف حاجزاً أمامي في إتقان الإنكليزية وتشرّب ثقافتها وآدابها بعد أن أتيحت لي فرصةٌ دراسية قصيرة لتعلّم الإنكليزية في إحدى الجامعات البريطانية عام 1978، ومنذ ذلك الحين وأنا منكبّة على قراءة منتخبات من الإصدارات الإنكليزية في شتى ضروب المعرفة، وقد تطوّرت لغتي الثانية تطوراً كبيراً بالقراءة المتواصلة والكدح اليومي. من الطبيعي أن يلجأ القارئ الشغوف للإنكليزية - إذا ماانطوت بصمته السايكولوجية على خصلة من كرم الروح وحبّ الخير والسعي لإشاعة المعرفة الجميلة - إلى الترجمة ليتشارك مع الآخرين الجمال والمعرفة وعشق العقل البشري الخلاق والروح المتطلّعة للحافات الطليعية في الفهم البشري للإنسان والكون. 

قد يرى بعض القرّاء في أعمالي السردية والترجمية توليفة مشتبكة من المعارف والأهواء والمُصنّفات التجنيسية. هذه هي أنا: أحبُ الفلسفة والفيزياء والسرد الروائي وتأريخ الحضارات والأفكار والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، ولاأطيق المكوث في نطاق معرفي واحد. 

فيما يختصّ بالمنفى وتأثيره فيّ، أقول: نعم، ساهم المنفى مساهمة كبرى في إعادة تشكيل رؤيتي لعراقيتي وعملي الإبداعي، وجعلني أعيد التفكّر في الكثير من المواضعات الثقافية. أهمّ مافي تجربة المنفى هو أنه يجعلنا نزدري صورة المواطنة الفلكلورية السائدة، ويعيدُ صياغة مفاهيمنا للفردانية والإبداع وضرورة الإمساك بناصية الزمن وعدم تركه يتفلّتُ من أيدينا. (الإبداعُ في المنفى وطنٌ): هكذا أرى كينونة التجربة الخلاقة في المنفى. هي وطنٌ إفتراضي مؤقّت بديلٌ عن الوطن الحقيقي.

 هل أسهم المنفى بوصفه تجربة كبيرة في مؤثراته على طبيعة ما تبدعين، أو بمعنى آخر: ما الذي أفادك به المنفى؟

- المنفى تجربة حقيقية يختبر فيها المرء العولمة بصورة عيانية بعيداً عن التنظيرات السياسية أو الإقتصادية، ويتشارك المنفى مع السفر في قدرته على حثّ الحسّ البصري والمحاكمة العقلية لأنماط عيش الآخرين ورؤاهم، وتهشيم الفكرة الراسخة (الأصحّ أن نقول أريد لها أن تكون راسخة) في كون البشر جزراً معزولة تعيش تحت رحمة من يقودها من حكّامٍ لطالما كانوا - لسوء حظّ مستحكم، وبخاصة في العراق - قساةً ذوي غلظة بشعة. الحرية روح الحياة، والدافع المحرّك الحقيقي لكلّ إبداع خلّاق، والفرق بين المنفى والسفر أنّ المنفى يحصل بدافعٍ قسري في الأغلب، وهنا تكمن فرادة تجربة المنفى واختلاف التحديات: أنت تغادرُ من اللاحرية إلى الحرية الكاملة. ليس المنفى -بالطبع -نعيماً وشهداً؛ فالحرية الكاملة قرينة المسؤولية الكاملة التي قد تبلغ بك تخوماً شاقة على النفس وبخاصة أنّ هذا التدريب على عيش هذه الثنائية الإشكالية (حرية كاملة / مسؤولية كاملة) لم يكن متاحاً لنا منذ نشأتنا الأولى. 

المنفى تجربة شاقة وقاسية لكنها مطلوبة لتعزيز قدراتنا في مواجهة التحديات الكبيرة وهي تجربة مهمة لكل مبدع اختار الإبداع نهجا للحياة.

 يلحظ القارئ لترجماتك الأخيرة تركيزاً على الأعمال العلمية والتقنية فضلاً عن المفهومات المرتبطة بالفكر العلمي الحديث والسياسات الثقافية السائدة (مثل مفهوم الثقافة الثالثة). كيف تعلّقين على هذه الموضوعة؟

- إنتبهتُ في العشر سنواتٍ الاخيرة، وبفضل قراءاتي المتعددة، إلى حقيقة أنّ العلم والتقنية لدينا ليسا سوى منتجٍ فوقي لم يتغلغل في ثنايا ثقافتنا فضلاً عن سياساتنا الثقافية الراكدة؛ إذ لازالت الثقافة عندما هياكل تقليدية أدمنت الإعتياش في مستوطنة تبدو غريبة عن روح العصر - تلك الروح التي يمثل العلم والتقنية عناصر جوهرية فاعلة في تشكيل صورة العصر الذي نعيش فيه، وماعادت هذه الحقيقة موضع مساءلة أو رغبات شخصية لصانع القرار السياسي أو المواطن معاً. 

غادرنا منذ زمن ليس بالقصير نموذج المثقف الكلاسيكي الذي لطالما عُدّ النموذج الأعلى للمثقف الموسوعي، ولم يَعُدْ صالحاً ليكون النموذج المرتجى في عصر الثورات العلمية والتقنية، ولم تعُد الثقافة تمتلك دلالاتها المرجعية بمقدار التمرّس في الدراسات الإغريقية واللاتينية والسرديات المحلية الشاملة، وكذلك لم تعد الثقافة دلالة على الإنعطافات الثقافية المبتكرة حتى لو تلبّست بمسوح الثورية المتطرفة التي شهدنا آثارها في حركات الحداثة ومابعد الحداثة إلى جانب الحركات الفرعية التي تفرّعت منها أو اعتاشت على نسغها مثل: البنيوية واللسانيات والسيميوطيقا وتحليل الخطاب،،، الخ من مفردات السلسلة الطويلة؛ بل صار العلم وعناصره المؤثرة في تشكيل الحياة البشرية وغير البشرية هو العنصر الحاسم في الثقافة الإنسانية بعد أن غادر العلم مملكة الأفكار والرؤى الفردية والآيديولوجيات وصار قوة مرئية على الأرض بفعل مُصنّعاته التي وصلت أدقّ تفاصيل الحياة البشرية. 

لم يعُد من اعتبار يذكر للرطانات اللغوية والفكرية المتعجرفة التي تدّعي السعي وراء الأفكار الكبيرة؛ بل صار المقياس الحاسم هو التأثير الإجرائي في طبيعة الحياة المعاشة، وفي الوقت ذاته لاينبغي أن نتوقّع سهولة الدخول في عصر الثقافة الثالثة فلعصرنا الراهن مريدوه المنافحون عن سطوتهم الفكرية ومكانتهم الإعتبارية فيه، وهؤلاء عناصر إرتكاسية شرسة تستطيب القتال بدلاً من التحاور الثقافي المتحضّر. 

إنّ أقطاب الثقافة العالمية (الثقافة الثالثة) المؤثرين في تشكيل صورة العالم هم علماء مشتغلون في حقول الذكاء الإصطناعي أو الوعي البشري أو تقنية المصغرات (النانوتكنولوجي) أو الروبوتيات أو الفيزياء الكمومية أو الكوسمولوجيا أو الجينوم البشري أو النظم الخبيرة أو الأوتار الفائقة أو رياضيات النظم الفوضوية أو الفضاء المعلوماتي السايبيري؛ وعليه فقد شرعتُ في قراءة وترجمة البعض المنتخب من نتاجات هذه الثقافة. 

أميلُ - بشكل عام - إلى صورة الروائي المتجسّدة في كلّ من: مارغريت آتوود، إيان ماكيوان، ديفيد ميتشل، كازو إيشيغورو وأجدهم ممثلين معياريين لمفهوم الثقافة الثالثة.

 قلتِ مرة أن الجوائز الروائية هي تكريس للثقافة الروائية، وتنطوي على مقاصد نبيلة في جوهرها رغم كلّ المآخذ. كيف ترين هذا الأمر؟

- جوابي بسيط ومختصرٌ: إذا كان ثمة العديد من الجوائز (المليونية) للمطربين والمطربات؛ فلماذا لايكون شيء من تلك الجوائز لكُتّاب الرواية - مخضرمين ومبتدئين -؟ أنا من جانبي لاأعوّلُ على جائزة روائية ما، وأعرف الخفايا المخجلة والمعيبة التي تحصل في الدهاليز المظلمة ووراء الأبواب المغلقة؛ لكن إذا كانت الجائزة النوبلية للأدب لم تسلم من الألاعيب التي نسفت سمعتها فهل نتوقّعُ النبالة الكاملة في أوساطٍ عربية تشيع فيها المحسوبيات العشائرية والثقافة المناطقية والمحليات الناشزة؟ 

يُعابُ على الجوائز الأدبية أيضاً انها أشاعت نمطاً من الإستسهال والميوعة في الكتابة الروائية وأطلقت تفاعلاً تسلسلياً كدّس ركاماً من المنشورات الروائية التي جعلت الثمين يضيع بين أكوام المحاولات البدائية الفجّة وبخاصة بعد أن ساد وهمٌ جائح بإمكانية ولوج عالم الكتابة الروائية من غير إعداداتٍ مسبقة، وقد عزّز هذا الوهم بعضُ المبشّرين بالفصاحة الجديدة وأنماط مستحدثة من السرديات الديستوبية. لكن برغم كلّ المثالب تبقى الجوائز الأدبية عنصراً دافعاً - ولو في عوالم الخيال فحسب- لمن يمتلك الموهبة الحقيقية والمثابرة الجدية في التجريب الروائي المغاير للسرديات السائدة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملاحق المدى

مقالات ذات صلة

16-04-2024

مثقفون: الجامعة مطالبة بامتلاك رؤية علمية تكفل لها شراكة حقيقية بالمشهد الثقافي

علاء المفرجي تحرص الجامعات الكبرى في العالم على منح قيمة كبيرة للمنجز الثقافي في بلدانها، مثلما تحرص الى تضييف كبار الرموز الثقافية في البلد لإلقاء محاضرات على الطلبة كل في اختصاصه، ولإغناء تجربتهم معرفتهم واكسابهم خبرات مضافة، فضلا على خلق نموذج يستحق ان يقتدى من قبل هؤلاء الطلبة في المستقبل.السؤال الذي توجهنا به لعدد من […]
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram