اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > الرأي > باليت المدى: القط فِنسنت

باليت المدى: القط فِنسنت

نشر في: 16 فبراير, 2020: 07:31 م

 ستار كاووش

لستُ مولعاً بالقطط ولا أملك وقتاً كافياً لتربيتها، لكني مع ذلك أنظر اليها ككائنات جميلة دافئة تعيش بيننا بمودة، وتحتاج في أحيان كثيرة لبعض اللطف والعناية والإهتمام،

لذا كان إهتمامي بذلك القط الأحمر نابعاً من هذا السبب، يضاف لذلك سبب جمالي ربما، كوني في بداياتي الفنية كنتُ محباً للوحات الرسام كورنيه، الذي رسم الكثير من القطط بوضعيات منسابة بشاعرية صحبة نساءه الغامضات، وقد نبهني من خلال تلك اللوحات الـى أشكال القطط وإيقاع حركاتها وهي تداعب قماشات الرسم، كما فعل بعده الرسام بالتوس أو كما يسميه النقاد ملك القطط، حيث جعلها حاضرة أيضاً في ذاكرتي. 

كان وجود ذلك القط غريب الأطوار في مرسمي القديم شيئاً غير مألوفاً لي، لكن بما أني كنت وحيداً، لذا صرتُ أعامله وانظر اليه كإنسان، وربما ذلك هو ما دعاني الى منحه في اللوحات وجهاً شبيهاً بوجه الانسان، مثلما منحته إسم فنسنت تيمناً برسامي المفضل فنسنت فان غوخ، وكان ذلك ملائماً له بسبب لونه المائل الـى اللون البرتقالي حيث يعيدني الى لون شعر الرسام العظيم. 

كان القط فنسنت يقبع بعض الوقت في الزاوية البعيدة للمرسم وهو يراقبني بهدوء وأنا أرسم، لكنه مع ذلك كان يقضي أوقاتاً طويلة في الخارج حيث المزرعة الكبيرة التي إستأجرتُ فيها المرسم. وبما أن صاحبة البيت والمزرعة كانت ترقد في المستشفـى لذلك لم أكن الشخص الوحيد في المرسم فقط، بل في كل المزرعة، وطوال الوقت كنت اخشى ان يقترب فنسنت من اللوحات غير المكتملة أو يتماحك مع باليت الرسم أو ربما يقلب علب الألوان عن غير قصد، لذا كنت أراقب تحركاته. وحتى حين يأتي وقت التسوق كنت أضعه في الحديقة الخلفية الواسعة وأذهبُ بدراجتي الهوائية لشراء طعام يكفينا معاً لبضعة أيام، فكنت أعود بحقيبتي المليئة بالطعام والنبيذ ومجموعة من علب الأكل المخصصة للقطط، وبهذا نكون مطمئنين لأن بحوزتنا طعام يكفينا لأيام. وفي كل مرة أهِمُّ بفتح علبة أكلٍ له، وقبل أن انحني لوضعها في طبقه المخصص في الحديقة المطلة على المرسم، يبدأ بالتقافز وكأنه يحاول تسلق ساقي للوصول الى علبته المفضلة، لكنه رغم كل ما يبدو عليه من نشاط وإقدام فهو يفقد هيبته بسرعة ولا يتجلد بما فيه الكفاية أمام معتركات الحياة، فذات مرة وضعت له الأكل في الطبق ومضيتُ بإتجاه المرسم، لكني نسيت شيئاً ما، فعدتُ أدراجي، لأرى من خلال النافذة الصغيرة المحاذية للباب الخلفي للحديقة ثلاثة من غربان العقعق (غربان وقحة، سوداء من الأعلى وبيضاء عند منطقة الصدر، وتسرق الطعام عادة) وهي تقترب منه شيئاً فشيئاً من ثلاث جهات، وهو ينظر اليها ويعاود الأكل بسرعة، ثم ينظر نحوها ثانية محاولاً الثبات والأكل، فتدنوا منه أكثر، فيتردد بالأكل لكنه يتجلد بعض الشيء، وحين تتأكد له نوايا الغربان جيداً يهمُّ بالتراجع قليلاً لكن يُبقي رأسه قريباً من حافة الطبق، وبعد أن تصبح هذه الطيور الوقحة على مشارف طَبَقِهِ، يفرُّ فنسنت فاسحاً لها االمجال كي تلتهم طعامه الذي وفرته له من نقودي القليلة. يالِقُطِّي المسكين الذي يبدو كأنه صاحب شخصية قوية في المرسم، لكنه في الحقيقة بسيطاً ومسالماً مثلي، وفوق هذا يترك طعامه لثلاثة طيور غريبة!! بعد هذه الواقعة صرتُ أتعاطف معه أكثر، وبدأتُ أراقبه وهو يأكل لأحرس له طعامه بطريقة غير مباشرة، كأن أتظاهر بالقيام بعمل ما في الخارج وقت تناوله الطعام أو أنشغل بإخراج بعض اللوحات التي أضعها على طاولة الحديقة لتجف تحت الشمس. لقد رسمت الكثير من القطط، لكن فِنسنت الذي تقاسمتُ معه الكثير من اليوميات، سيعيش في ذاكرتي مثلما عاش على قماشات الرسم. 

لقد تركتُ ذلك المرسم بعد أن قضيتُ هناك ثلاث سنوات. كنتُ مرغماً على الإنتقال الى مرسم جديد، بينما فَضَّلَ فنسنت البقاء في ذات المزرعة التي عرفها جيداً وترعرع بين شجيراتها وطيورها الوقحة. وفي اليوم الأخير لي هناك قلتُ له بعد أن سلمته لصاحبة المزرعة (إحذر الطيور ياصديقي ولا تدعها تستولي على طعامك، دافع عن ممتلكاتك جيداً أزاء الغرباء والمتطفلين ياقطي الأحمر الجميل). 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملاحق المدى

!!العمود الثامن: وثيقةعالية نصيف

 علي حسين كنت أتمنى أن لا أعود إلى الكتابة عن النائبة عالية نصيف ، لكن ماذا أفعل ياسادة والسيدة النائبة خرجت علينا مؤخراً لتتقمص شخصية الفنان الراحل توفيق الدقن وهو يردد لازمته الشهيرة...
علي حسين

باليت المدى: الأمل الأخير

 ستار كاووش كان مروري في الشارع الأخضر بمدينتي القديمة كافياً لإعادتي لتلك الأيام البعيدة، فها أنا بعد هذه السنوات الطويلة أقف بمحاذاة المقهى القديمة التي كنتُ أرتادها صحبة أصدقائي. مازالت رابضة في مكانها...
ستار كاووش

قناديل: لقطات!

 لطفية الدليمي لقطة أولى بعد أيام قلائل من 9 نيسان 2003 خرج أحد العراقيين ليبحث عن فرن صمون يبتاع منه بعض ما يقيتُ به عائلته في تلك الايام المشحونة بالفوضى والخراب.
لطفية الدليمي

قناطر: الأمل.. جرعة المورفين التي لا تدوم طويلاً

طالب عبد العزيز أولئك الذين يأكل أرواحَهم الاملُ ما اشفق الرَّبُّ عليهم! وما الطفه بهم، وإن لا يبدو الاملُ متحققاً في المدى القريب. تلتقط الكاميرا على الجادة بفلسطين وجه شيخ، طاعنَ السنوات كثيراً، أشيبَ...
طالب عبد العزيز
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram