سلام حربه
يمتاز العراق عن باقي شعوب المنطقة العربية بأنه متعدد الأعراق والأديان ويحلو للبعض أن يسمي الواقع العراقي بالفسيفساء لأنه يشتمل على كل التراكيب والألوان الدينية والعرقية وهذه ميزة تاريخية فريدة لهذا البلد.
لكن يبقى السؤال كم استفاد العراقي من هذا التنوع الثقافي والتلاقح بين المكونات وهل أن هذا التنوع خدم العراق أم أضره..؟ هذا السؤال يحتاج الى توقف ودراسة تاريخ العراق قديماً وحاضراً. العراق محاط ببلدي جوار تركيا وإيران. هذان البلدان مختلفان مذهبياً ويتنافسان منذ قرون على سيادة المنطقة ومنها العراق لما يشكل هذا البلد من أهمية لهما من ناحية موقعه الجغرافي وموارده البشرية والمادية والفكرية، فهو مركز للشيعة وهم الأغلبية في المجتمع ويشكلون أكثر من نصف السكان وغالبيتهم قبائل عربية تقطن مناطق وسط وجنوبي العراق وهنا يرقد ستة من أئمة الشيعة المعصومين عندهم، كما أن فيه الحوزة الدينية العلمية في محافظة النجف المسؤولة عن الشيعة في كل أرجاء العالم ومنها إيران وفيه أيضاً المدارس الفقهية والحوزوية ولا يعترف بالفقيه أو عالم الدين الشيعي إن لم يكن قد تخرج من إحدى المدارس الدينية العراقية. وعليه فإن إيران تعتبر العراق جزءاً من منظومتها المذهبية والسياسية لا بل تصرح أحياناً بأنه تابع الى إيران خاصة بعد أن اعتنقت إيران المذهب الشيعي قبل عدة قرون وهذا ما يؤكده قادتها السياسيون حد هذا اليوم. تركيا تدين بالمذهب السنّي وفي العراق مرقد إمام ومؤسس المذهب السنّي ابي حنيفة النعمان وفي العراق أيضاً المدارس الفقهية السنّية التي تخرج منها أيضاً كبار علماء وفقهاء السنّة عبد القادر الكيلاني والحنابلة وابن الجوزي والأشعري والصوفيون والمئات من الذين أثروا المذاهب السنّية الأربعة بحيث لا يتصور السنّة يوما أن تكون قيادة هذا المذهب خارج هذا البلد. سنّة العراق في وسط وغرب وشمالي العراق وتكون نسبتهم ما يقرب من ربع سكان العراق اكثريتهم من العرب وبعض الأقوام المغولية التي نزحت الى العراق من إيران والقفقاس والمناطق التركية قبل عدة قرون واستوطنت هذه المناطق. تركيا تعتبر أن هؤلاء هي المسؤولة عنهم وقد احتلت الامبراطورية التركية العراق قروناً من السنين ساعدها في ذلك بعض البلدان العربية والخليجية التي تلتقي مذهبياً مع تركيا، سكان العراق الآخرون أقليات كالكرد، وهم سنّة، والتركمان والمسيحيون والايزيدون والشبك وبعض الملل والأقوام الصغيرة. هذا الصراع التاريخي بين الفرس والعثمانيين كان يجري على أرض العراق، إيران تستغل شيعة العراق في صراعها مع الأتراك، والسنّة أداة الاتراك في هذا الصراع المذهبي بين الامبراطوريتين، أي أن العراقي كرة تتقاذفها أقدامهم ، هذا الامر استمر من العصر العباسي وحتى يومنا هذا. ما جناه العراق من هذه الحرب المذهبية التي لا ناقة له فيها ولا جمل أن العراقي لم يذق يوماً طعماً للراحة ومشروع للقتل دائماً، بلده مخرب وبين ليلة وضحاها تشتعل ألف فتنة وفتنة وكلنا يذكر آخر الحروب المدمرة وهي الحرب العراقية الإيرانية التي كان محركها مذهبياً وجزءاً من هذا الصراع الطويل. ما بعد 2003 والاحتلال الامريكي للعراق واشتعال الحرب الطائفية بين السنّة والشيعة بين عامي 2006 و2007 التي أججها تنظيم القاعدة والبعث والنقشبندية وداعش ضد الشعب العراقي والحكومات التي يرأسها الشيعة والتي تشكلت بعد الاحتلال، هذه الحروب التي ما زال العراقي ينزف دما منها وخربت بلده وسرقت أمواله هي امتداد لهذا الصراع المذهبي والسيادة على العراق والمنطقة بين الفرس والأتراك ودخول بعض الأطراف الدولية مناصراً هذا الطرف أو ذاك من أجل نيل المغانم.. عند تأسيس الدولة العراقية عام 1921 كانت هذه الدولة ذات طابع سنّي ولم يحضَ الشيعة إلا على مناصب وزارية قليلة لأن علماء الشيعة افتوا بحرمة التعيين في دوائر الدولة والانخراط في الجيش العراقي، كما أن اكثر الشيعة كانوا لا يجيدون القراءة والكتابة لأن هناك فتوى في نهاية القرن التاسع عشر تحرم التعليم عليهم لأنه مفسدة للدين والأخلاق، لكن هذا الصراع المذهبي لم يأخذ بعداً عميقاً بسبب وجود الاحتلال البريطاني الذي كان يرسم سياسة البلد الاقتصادية والاجتماعية وهو الحاكم الفعلي للبلد، لكن المذهبية تفجرت مع ثورة 14 تموز عام 1958 وكل الحكومات التي تلت هذا التاريخ وعند الطبقة السياسية وليس بين أبناء الشعب العراقي. لم يكن الصراع المذهبي هو من يشعل الفتنة فقط بل الصراع العرقي بين من يدعون تمثيل العرب وأحزابهم القومية الشوفينية مع الأقليات الأخرى وخاصة الكرد وهذا الأمر لا يخص العراق فقط بل يرتبط أيضاً بواقع بلدي الجوار تركيا وإيران البنيوي واحتوائهما الأقليات وخاصة القومية الكردية وحلمها ببناء دولة كردستان الكبرى من أجزاء العراق وإيران وتركيا وسوريا. الكرد في العراق حصلوا على بعض الحقوق كالحكم الذاتي والإقليم بعد ذلك لكن حلمهم الكبير في إقامة الدولة الكردية ما زال قائماً وقد عملت الحكومات المتعاقبة على تحطيم هذا الحلم الذي يداعب خيالات الكرد في تركيا وإيران وسوريا للالتحاق بهذه النواة لتتشكل دولة كبيرة على أطراف هذه البلدان الأربعة. ما أسهل خلق الفتنة في هذا البلد، بعد عام 2003 تم طرد المسيحيين من البلد ومعاقبة الأيزيديين وسبي نسائهم على يد داعش وإهمال الحكومات المركزية وعدم مد يد العون لهم والبقاء متفرجة على مشاكلهم وهذا ما ولّد قطيعة وكراهية بين أبناء الشعب العراقي وتمزق للنسيج الاجتماعي واعتماد كل كيان على دولة قوية تحميه من بطش المكونات الاخرى ، حكام الشيعة التصقوا بايران وحكام السنّة ارتموا بأحضان تركيا وبلدان الخليج والدول السنّية، وقادة الكرد حاولوا استمالة كل الأطراف وامريكا والغرب ولم يفكروا بمعاداة أي بلد وعملوا على تقوية إقليمهم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وعمل البعض من قادتهم الشوفينيين على إضعاف الدولة العراقية وانهاكها بعد عام 2003 وفرض أجندتهم المريبة على السياسة العراقية والانتقام من بعض خصومهم التاريخيين. هذا الوضع الملتبس سيستمر الى ما لا نهاية فالصراع ما زال محتدماً وأرض العراق هي ساحة النزال ومن تسلط على رقاب العراقيين من سياسيين جاءوا بالانتخابات المزيفة وبمباركة المؤسسة الدينية وبلدان الجوار لم يعمل واحد منهم على تخليص العراق من هذه التبعية الدولية بل عملوا على تنفيذ أحلام الاستعماريين التوسعية وإن اقتضى الأمر في النهاية تقسيم البلد الى أقاليم تمثل المكونات الاساسية الثلاثة للشعب. لم يقف الشعب مكتوف الأيدي أمام هذه المؤامرات وهذا الخراب المتعمد والسرقة الجنونية للمال العام ، لقد أصبح قادة هذه المكونات دولاً داخل الدولة العراقية الهزيلة، وكل قائد منهم يمتلك المليارات من الدولارات، كانوا يعيشون على الإعانات في الخارج، وبيده مفاصل مهمة من الدولة العراقية لا يقبل التخلي عنها. بقيت حصة المواطن البسيط ضياع الحاضر والمستقبل وبلا حول ولا قوة ولا يمتلك إلا صوته وهو يرى بأم عينيه أن البلد في الجحيم ومنزلق كل يوم الى قعره صقر، فخرج في تظاهرات احتجاج على هذا النظام السياسي الطائفي والعرقي منذ 2010 وحتى ما قبل هذا التاريخ واستمر رفضه لهذه العملية ( الديمقراطية ) حتى انبثقت من هذه الحركة الاحتجاجية ثورة شبابية بركانية في الأول من اكتوبر عام 2019 لم يعهدها العراقيون من قبل، اشترك بها كل الشباب ومن الجنسين، طلبة وموظفون وعاطلون عن العمل ويائسون من الحياة، في محافظات وسط وجنوبي العراق الشيعية ليقفوا بوجه هذه المؤامرة وهذه الأجندات التي تمتد لقرون من السنين، كان شعار هؤلاء الشباب ( نريد وطن ) لأنهم يعلمون أن هذا الوطن أضاعته بلدان الجوار وأذنابها في العراق ولا نصيب للعراقي فيه ، كما طالبوا بتغيير نظامه السياسي الطائفي التوافقي وطالبوا بإقامة نظام مدني يحفظ حقوق العراقيين جميعا شيعة وسنة وكرد وتركمان ومسيح وإيزيديون وباقي الطوائف وإسقاط الأجندات الغريبة وطالب المتظاهرون بخروج ايران وتركيا وامريكا واسرائيل وكل البلدان الكارهة لهذا البلد من أرض العراق وأن يحكم العراقيون أنفسهم بأنفسهم على أساس المواطنة والولاء للعراق وليس للأجندات المذهبية والعرقية الثانوية ومحاسبة كل الخونة من ذيول الاحتلالات. لقد أسقطوا حكومة عادل عبد المهدي وفرضوا على من يخلفه أن تكون حكومته من التكنوقراط ومن خارج الأحزاب السياسية ومشهود لهم بالنزاهة والكفاءة دون النظر الى هويته الثانوية..الصراع لم ينته بعد وأحزاب الإسلام السياسي الشيعية والسنّية وميلشياتها القاتلة كبدت الثوار الشباب أكثر من 600 شهيد وما يقرب من 25 ألف جريح والمعركة مستمرة لكن بشائر النصر جلية واضحة والثوار مصرون على أكمال طريق الحرية، والعملاء المهزمون لم يلقوا أسلحتهم، ستكون هناك خسائر إضافية لدى الثوار العزل لكن بإراداتهم سيكون هناك عراق مستقلاً بلا تبعية لأحد ويثبت هؤلاء الثوار بصمودهم إنهم أحفاد حمورابي ونبوخذ نصر وسرجون الأكدي وإن الشعوب أقوى من الطغاة..
اترك تعليقك