سليم سوزه
كتب الفيلسوف السلوفيني سلاڤوي ژيژك ثلاثة مقالات في الفترة الاخيرة عن وضع العالم في ظل تهديد فايروس كورونا، وكتبت المفكرة الامريكية جوديث باتلر مقالة في هذا الصدد ايضاً، بل ان العديد من المفكرين والباحثين البارزين في العالم ركزوا اهتمامهم في كتاباتهم الاخيرة على مواضيع تخص هذا الفايروس وفشل النظام الصحي العالمي في مواجهته.
رغم ان هذه الكتابات جاءت من مفكرين هربوا من انظمة شيوعية شمولية كانت تحسب عليهم عدد الكلمات المسموح بنشرها حتى، الا انها كانت كتابات عميقة وذكية ولماحة، مزجت بين نقد عميق لبنية النظام الرأسمالي وبين سخرية لاذعة لمآلات الحال في اوروبا الليبرالية هذه الايام.
وفي ظل هذا النقد العميق للنظام الرأسمالي من مفكرين يعيشون تحت سقفه ولا يمكن لهم مغادرته حتى لو أُعطيوا نصف روسيا ومعها بلدان شرقنا الاوسط، "تناوش" بعض كتاب بلداننا العربية تلك "القفشات" ووظفوها كالعادة في اطار دعائي ليعقدوا مقارنات مضحكة بين نظامنا الصحي العربي ونظام الغرب الرأسمالي. انهم تصوروا بعد قراءة مقالات هؤلاء المفكرين ان جثث الموتى في الشوارع وان النظام الصحي الغربي قد فشل وانهار تماماً، وسقط معه ستايل الحياة الغربية وبنية اقتصاد السوق في توفير الخبز والرز ومنتجات الالبان في الاسواق! هذه الانتقائية في اخذ بعض الاخبار واهمال الاخرى هي ممارسة ايديولوجية امتدادا لفكر الدراسات ما بعد الكولنيالية والعقلية الادوارد-سعيدية التي تتجاهل الاحصاءات والارقام والداتا التوثيقية من مؤسسات شفافة لا وجود لمثيلاتها في انظمتنا الشرق اوسطية لتوظفها سياسياً في اطار التشفي وزيادة الاحتقان بين الشرق والغرب. تصنع من حدث كورونا فرصة مقارنة غير صالحة بين نظامنا الصحي ونظام الغرب في عملية ايديولوجية مستمرة لا تنتهي ابداً.
يقول لي طبيب عراقي صديق ان العراق تفوق على الولايات المتحدة الامريكية بتعامله مع الفايروس، اذ انه حتى الان لم تتجاوز الاصابات حاجز ال ٣٠٠ اصابة في العراق، فيما وصلت الاعداد في الولايات المتحدة الامريكية الى ٣٠ الف مصاباً. اولاً انا افرح لهذه الاخبار لان اهلي وناسي واصدقائي في العراق. لكنني في ذات الوقت لا اقبل ان يتحول المثقف الى سياسي. وظيفة الاول النقد والنقد المستمر في محاولة للوصول الى المجتمع المثالي، واما وظيفة السياسي فهي وظيفة دعائية هدفها تحسين سمعة ادائه واداء المسؤولين تحت امرته. نسي هذا الطبيب ان المختبرات العراقية الوحيدة الموجودة في البلد هي مختبرات الصحة المركزية في الاندلس، وهذه لها القدرة على فحص ١٠٠ عينة باليوم الواحد فقط حسب قوله هو، فيما تفحص امريكا يوميا بحدود ال ١٠٠ الف الى ٢٠٠ الف مشتبهاً به! المئة فرد لا تظهر نتائج بقدر المئة او المئتي الف قطعاً! لذا تجد هذا التفاوت الكبير في عدد الاصابات احياناً. اتمنى ان اكون مخطئاً واتمنى فعلا الا تظهر اصابات كثيرة في العراق، اذ ليس ثمة شريف في العالم يتمنى تدمير بلده الاصلي لمجرد ان يثبت ان رأيه صحيح. ابداً، ليس هذا ما اعنيه لكني اجيب على مقارنة مغلوطة مبنية على مقدمات غير سليمة لا يسقط فيها ذو عقل لمّاح.
ثانياً، لا يمكن مقارنة بلد مثل الولايات المتحدة الامريكية صاحبة ال ٣٠٠ مليون نسمة والتي تنزل في كل مطار من مطاراتها خمسة طائرات في كل دقيقة مع بلد مثل العراق من حيث حركة الملاحة الجوية والبحرية والتواصل التجاري العالمي. قطعاً عدد الاصابات في هذا البلد ستكون اكبر بكثير من اصابات دولة مثل العراق.
لا يقيّم النظام الصحي في اي بلد في العالم بعدد الاصابات (على اهمية هذه النقطة سياسياً)، لانه في وقت الازمات والاوبئة الخطيرة لن يستطيع اي نظام صحي بالعالم احتواء الملايين من المرضى. في الولايات المتحدة الامريكية، هناك بحدود ٦٠٠٠ مستشفى كبيرة، وبحدود ٤٠٠٠ مستوصفا ومستشفى صغير غير مخصص لحالات المرض طويلة الامد. ثمة ما يقارب مليون سريراً في تلك المستشفيات جاهزة لاستقبال حالات العناية المركزة. المشكلة ليست في فايروس كورونا بل بتعبات هذا المرض اقتصاديا ولوجستيا وطبياً. فلو تجاوز عدد المصابين بكورونا حاجز المليون مريضاً، اين ستضع الدولة هولاء المرضى وهي لا تملك سوى مليون سريراً فقط؟
الان لنقارن عدد الاسرة في مستشفيات امريكا بعدد اسرة مستشفياتنا في العراق؟ كم عدد الاسرة الجاهزة في بلدنا العراق يا ترى؟ وكيف هي العناية الطبية في هذه المستشفيات العراقية؟
النظام الصحي لا يعني اعداد المستشفيات والكوادر فقط، لان هذه الاشياء تخضع لدراسات الجدوى وحسابات الربح والخسارة كما كلنا نعرف، بل في مستوى العناية الطبية التي تقدمها تلك المستشفيات بالدرجة الاساس. اضافة الى المختبرات والدراسات والاكتشافات العلمية وصناعة الادوية واللقاحات.
ان كان ثمة فشل في النظام الصحي الغربي فهو في تحوّل مستشفيات الغرب الى سوق استثمار كبير ارهق كاهل المواطن الفقير الذي لا يملك تأميناً صحياً جيداً بكلفة العناية الطبية او العمليات الجراحية. هذه هي النقطة المهمة التي تشير لها جوديث باتلر وتعتبرها الاساس في خيارها التصويت للمرشح بيرني ساندرز في الانتخابات التمهيدية التي حصلت في ولايتها، ولاية كاليفورنيا، قبل اسابيع.
باتلر وژيژك وآخرون ينتقدون النظام الرأسمالي من داخله وباستخدام ادواته ومعارفه وليس مثل اولئك الكتاب العرب الذين يعتقدون ان "الانظمة السيسية" في بلداننا الشرقية اوقفت كورونا افضل من الانظمة التي يحكمها كونتي وميركل وجونسون وترمپ. ومع ذلك، يجري نقد واسع لهذه الانظمة الغربية ومن طبقة اكاديمية واعلامية كبيرة تدرك وظيفتها الثقافية تماماً، تلك الوظيفة التي تحتم عليهم البحث عن المثالية في كل حقل معرفي امامهم، لا ان تحوّلهم الى دعاة سلطة بشعارات "وطننا فخرنا" بحجة الوقوف ضد ظاهرة "جلد الذات" لذوات هي أصلاً "مجلودة" بلا سياط.
اترك تعليقك