التاريخ ومفارقة التراجيدي ـ الملحمي

التاريخ ومفارقة التراجيدي ـ الملحمي

د. نادية هناوي

لعل أهم ما في الأدب هو الإنسان وتراجيدية موقعه في التاريخ الذي فيه فتش كثيراً عن مصيره منذ جلجامش واخيليوس وسيزيف.

والتاريخ البشري حافل بأمثلة إنسانية لأبطال عاشوا وماتوا وهم يحملون آمال المجموع الإنساني، معبرين عن أبعاد أخلاقية قيمية، فيها موت الإنسان هو ولادته، وقد تحولت صيرورة البطولة من بعدها الجسدي إلى بعد مثالي رمزي يجعل التاريخ نفسه عبارة عن ملحمة تراجيدية.

وما مشكلة الإنسان سوى تاريخه الذي فيه يتجلى حاضره ومستقبله، ومهما كانت نهايات التراجيديات والملاحم قاسية ودموية غير أنها ترسم صورة مستقبلية فيها الإنسان سيرورة دائمة، حيث سموه هو جوهر ثورته وأساس إنسانيته على مدى التاريخ. والذي يجعل التاريخ درامياً هو البطولة الملحمية التي باعثها وازع عقائدي، به يغدو الإنسان هو التاريخ. 

ولقد ربط أرسطو الفعلين التراجيدي والملحمي بالمحاكاة؛ فوجد أن ما يميز الفعل التراجيدي هو اشتماله على الوحدة العضوية بعكس الفعل الملحم الذي يفتقر الى الوحدة. والسبب طول هذا الفعل واتساع مساحة عرضه، ولأن الملحمة تروى ولا تمثل أمام عيون النظارة. ولم يكن العصر الذي عاش فيه أرسطو عصر بطوليات خارقة ملحمية، وإنما عصر صراعات أبدية تراجيدية لا نهاية لها، لذا أهتم ارسطو بالمسرحيات التراجيدية والكوميدية وحلل مستويات بنائها واضعاً نظريتي المحاكاة والتطهير، مقدّماً الشعر فيها على التاريخ على أساس أن الشعر يعالج صراع الإنسان مع نفسه وما حوله، معالجة كلية بعكس التاريخ الذي يعالجها معالجة جزئية تفصيلية. 

وهذه الكلية هي التي جعلت جورج لوكاش يجد في الملحمة والتراجيديا تحقيقاً يعرض العالم الموضوعي عرضاً كلياً لكن كلية التراجيديا تتقدم على كلية الملحمة انطلاقاً من نظرية الانعكاس التي بها تصبح كلية الملحمة كلية أهداف، بينما كلية التراجيديا كلية حركة متمركزة حول مركز صلب أي حول التصادم المسرحي. والحركة تعني الصراع الذي عادة ما ينتهي بالسقوط المأساوي، ولا يمكن تمثيل صراعات المجتمع الإنساني بكليتها ما لم تمثل أيضاً الأسس التي تحتوي عالم الأشياء المحيط به الذي يؤلف هدف نشاطه.

وصحيح أن في الملحمة صراعاً، لكنه في التراجيديا أكثر وضوحاً، لأنه صراع متمركز من أجل الحياة كشرط من شروط وجودها، ولهذا يوصف البطل المسرحي بأنه الفرد التاريخي العالمي، أو بتعبير هيجل هو إرادة الروح العالمي. وأن التمثيل لهذه الإرادة هو الذي يكشف عن الأزمات التاريخية. ولا تصبح الشخصيات المسرحية عظيمة وحية تراجيديا، لأن كاتبها امتلك قدرة على خلق شخصية بحد ذاتها؛ بل لما يتوافر لديه من قدرة ذاتيا وموضوعيا على اكتشاف الشخوص والصدمات في الواقع الذي سيتطابق مع متطلبات الشكل الدرامي الداخلية هذه.

وإذا كان الافتراق الفني والموضوعي بين الملحمة والتراجيديا متحققاَ بهذه الصورة، فما بالنا إذن بالتلاقي بينهما ؟ أمن الممكن الحديث عن اجتماع الملحمة بالتراجيديا في صورة دراما مادتها التاريخ البشري بوصف البشر هم مركز العالم ؟ وهل يعضد الفعل الملحمي الإطار التراجيدي أو يضعفه ؟ 

وفقاً لنظرية هيجل الجمالية؛ تتحقق بالدراما المفارقة التاريخية الضرورية، ومن هنا تبدو لا مفارقة من دون دراما، كما لا دراما ضرورية من دون أن تكون ذات حقيقة تاريخية مرتبطة ببطل مقدس، ولقد وجد لوكاش عند شكسبير دراما تاريخية كما وجد أن لفلوبير في روايته( العرافة الكهرمانية) لغة ملحمية حتى يخيل للقارئ انه يقرأ لا قصة عن الماضي، بل ملاحظات عن وثيقة حقيقية معاصرة. وحينما ندمج الملحمة بالتراجيديا فذلك لا يعني البحث عن فعل بطولي يصاغ في شكل درامي، وإنما هو البحث عن التحدي الروحي والقيمي الذي يجعل البطولة الفردية ترتقي لتكون بطولة جماعية وفيها تكمن الحقيقة التاريخية.

وهذا التحدي الروحي هو الذي يطوع المأساة تاريخيا لان تستمر دراميا في هيأة بطل هو أكبر من التاريخ، فيه تتجلى العظمة الإنسانية. وما دوامية سيرورة الأبطال الملحميين والتراجيديين سوى روحية الفعل الإنساني الذي حققوه تاريخيا، ليظل من بعدهم ممتداً أدبياً وفكرياً.

وإذا كان الفعل الملحمي يحمل صفات فردية؛ فإن الفعل التراجيدي يرتفع بالفردية إلى ما هو إنساني عام. ويظل الفعلان الملحمي والتراجيدي تاريخيين بالمفهوم ما بعد الكولونيالي، فيغدو المؤرخ كالروائي، كلاهما يلتقيان في زاوية النظر للواقعة، والمستوى الفني المطلوب من السارد القيام به.

أن للسرد التاريخي غايات متنوعة، وواحدة من تلك الغايات الاستدلال على قدرة المؤرخ في تمثيل الوقائع تمثيلاً درامياً، وبالشكل الذي يجعل فواعل الواقعة أحياءً في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم. 

وإذا كان النقد الأرسطي بشقيه الكلاسيكي والحداثي قد فَصَلَ بين الأنواع الأدبية بحدود اجناسية، فانه سمح للرواية الواقعية أن تكون مأساوية بوصفها ملحمة العصر البرجوازي، وهذا التلاقي بين واقعية المعطى المأساوي وتاريخية الفعل الملحمي هو الأكثر وضوحاً وتجلياً مع نظريات ما بعد الحداثة وتحديدا نظرية التداخل الاجناسي التي معها زال أي نقاء نوعي في الأجناس الأدبية. ولم يعد التداخل متحققاً على مستوى الأدب حسب بل تعداه إلى مختلف العلوم والفنون، فتهشَّمت المركزيات وألغيت الأقطاب وفتت النخب وسُمح للأطراف أن تكون مراكز، وهذا ما شهدته مرحلة ما بعد الكولونيالية وتشهده اليوم المرحلة الراهنة ما بعد العولمية.

إن هذا الاندماج وذاك الانفتاح أمد الباحثين بالمنهجيات النقدية التي باستطاعتها تفكيك التاريخ الرسمي لتعاد عملية كتابته من جديد، ليكون هذا الجديد هو ما وراء التاريخ، أو التاريخ الجديد أو الميتاخرافة التاريخية او الهستوغرافيا أو ميتا التاريخ أو رواية التاريخ..الخ.

فملحمية السرد لواقعة تاريخية ما هي التي تمنح الفعل التاريخي بعداً دراماتيكياً، وتجعله مستمرا لا انتهاء فيه، ليس على مستوى التمثيل الإبداعي الذي به تصبح الواقعة صالحة لمختلف أنواع التمثيل الاجناسي من شعر وقصة ومسرحية؛ وإنما على مستوى السيرورة الزمانية، ولا تعني الملحمية اسطرة الواقع ليصبح فنتازيا أو غرائبيا حسب؛ بل هي تعني تدعيم البعد الواقعي بالبعد السردي، الذي به تتحول الامثولة إلى أحدوثة ذات مبنى تحبيكي ومحتوى بطولي ـ تراجيدي. 

وأهم تجليات توظيف الملحمة في السرد هي الغرائبية التي بها يتحول الضعف إلى قوة، والانهزام إلى انتصار، والسقوط الى استعلاء، والفاجعة إلى سعادة.

وما يمنح السرد الملحمية انزواء المؤلف واحتجابه عن نصه، تاركا النص لوحده أمام المتلقي كسارد ومسرودات. وهذا ما يولِّد نوعا من التوحد الإبداعي، يصبح البطل بموجبه هو الربان الذي يوجه السفينة التي هي الكتابة، داخلاً بحراً متلاطم الأمواج. وفي ظل هذا التوحد الإبداعي، لا يكون أمام المتلقي بد سوى أن يشاطر الشخصيات معاناتها ويتزيا بزيها. وبهذا تذوب ماضوية التاريخ فكأنها لا زمانية أو كأنها اللاتاريخ.

ومن دون الملحمية والتراجيدية يغدو التاريخ مخترقا من قبل الايديولوجيا التي تتسلل إلى سطوره من هنا أو هناك، وهذا ما يجعل النص التاريخي نصا متهما في بنائه، قابلا للتأييد كما هو قابل للتفنيد، بحسب المؤرخين وتوجهاتهم في الكتابة التاريخية التي قد توصف بأنها متعصبة حدية أو مريبة تحاملا أو مناصرة. 

بيد أن ملحمية تسريد الكتابة التاريخية تجعل للمعنى الواحد معنى المعنى، فيغدو النص متعدداً في تأويلاته مختلفا في مروياته غير مسيّس للتاريخ بإيديولوجية، ولا معبرا عن وجهة نظر المؤرخ، لأن هذا المؤرخ هو في الأساس غائب عن الكتابة التاريخية، بسبب اللاتوافق في الرواية الواحدة، الذي يجعله يكتفي بالنقل والإخبار، تاركا العهدة بيد سارد عليم او مراقب او مشارك، مستعيضا بهم عن نفسه في السرد والتمثيل، ومن ثم ما من منظور ايديولوجي يُنسب إليه ولا مهمة فكرية يتوقف أداؤها عليه. صفوة القول إن إضفاء الملحمية على السرد التاريخي هي التي تجعله ذا أوجه متعددة من التنوع القرائي وألوان شتى من التفسير والتأويل، مع ضرورة التذكير هنا أن ليس كل الوقائع التاريخية قابلة لأن تكون سرودا ملحمية، فالقليل منها فقط يصلح لهذا التمثيل.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top