محمد جبار العبدلي
قد تواجه الدول ظروفاً معينة تتهدد خلالها حياة ومصالح شعوبها وكذلك نظامها العام، لذا تعمد إلى وضع تشريعات خاصة لمواجهة الظروف غير الطبيعية، ويعد وجود وباء كما يحصل حالياً بانتشار فيروس كورونا أبرز الأمثلة عما تسبب به من ضرورة اتخاذ خطوات واجراءات سريعة لا يمكن اعتمادها في الظروف الاعتيادية.
ونتيجة تلك الظروف نَشأ ما يُعرف في التشريعات الدولية والداخلية بنظرية الظروف "الاستثنائية" أو "الطارئة" أو "الضرورة" ومضمونها بشكل مختصر: عند تعرض أيّة دولة لخطر جسيم نتيجة غير متوقع يهدد كيانها او يهدد وجود شعبها، يكون التعامل بآلية تنظمها التشريعات لتتناسب مع تلك الظروف ودرئها باقل خسائر ممكنة، وقد تصل إلى مرحلة التضحية بمبدأ المشروعية لغاية انجلاء الضرر، وهذه النظرية ليست حديثة فهي موجودة في الشريعة الاسلامية من خلال عدة مبادئ مثل: (الضرورات تبيح المحظورات) وأن(الضرورة تقدر بقدرها).
كما تبنتها عدة دول في تشريعاتها لتكون تصرفاتها مشروعة في مواجهة الظروف الاستثنائية، إذ في المادة (١٦) من الدستور الفرنسي لعام ١٩٥٨ والتي تمنح السلطة التنفيذية صلاحيات عامة تمكنها من مواجهة تلك الظروف والخروج بأقل الخسائر، رغم معارضة بعض المختصين في القانون الدستوري للمادة المذكورة ونقدهم لها كونها تتعارض مع العديد من المبادئ الدستورية وفي مقدمتها مبدأ الفصل بين السلطات، ونعتقد أن هذه الانتقادات تصبح غير ذات قيمة أمام الحفاظ على حياة الشعوب والنظام العام للدولة، فسلامة الشعب فوق جميع التشريعات.
وهناك مسائل دستورية لم تنظمها تشريعات الدول خلال الظروف الاستثنائية، خاصة المتضمنة توقيتات زمنية، إلا أن تلك المدد قد تصبح من المستحيل الالتزام أو التقيّد بها، حيث لم تضع الدول في حساباتها التعرض لهكذا مسائل خلال تلك الظروف. فالعراق مثلاً، لم ينظم حتى المسائل غير الدستورية اللازمة للحفاظ على ارواح الناس، فقانون السلامة الوطنية منذ عام ٢٠٠٤ لم يتضمن اجراءات فاعلة لمواجهة الكوارث الطبيعية كالوباء الحالي، وانما تضمن الاجراءات المتعلقة بمعالجة مشاكل الإرهاب: كالقبض والتفتيش وحظر التجوال وتقييد اجازات الاسلحة، وحتى بعد نفاذ الدستور الحالي لم يشرّع قانون بحالة الطوارئ رغم نص الدستور في المادة ٦١/تاسعاً على آلية اعلان حالة الطوارئ.
ونتيجة عدم وجود تشريعات فاعلة، يكون الجميع ملزمين بتطبيق التشريعات والاجراءات المشرّعة للظروف العادية، وبالتالي سيتعرض من يخالفها للمساءلة القانونية، لذلك نجد الكثير من المحافظات لا تستطيع تدارك النقص في الايرادات لشراء التجهيزات الطبية ومساعدات اصحاب الدخول المحدودة لضمان التزامهم بحظر التجوال وغيرها من المسائل التي تحتاج مبالغ مالية، وكذلك يحول دون شراء بعض المواد الطبية وغيرها دون المرور بالاجراءات المعقدة والبطيئة السابقة.
المشكلة الأخرى تتعلق بالتوقيتات المحددة بموجب الدستور، فهي كذلك لم تتعرض للتنظيم خلال الظروف الاستثنائية، فالعراق يمر حالياً بفترات مليئة بالمخاضات العسيرة التي ربما قد تصل لمرحلة الإجهاض للنظام المفترض فيه الديمقراطية وكذلك لمطالب المتظاهرين الذين التزموا ساحاتهم منذ تشرين الاول للعام الماضي وقدموا خلالها مئات الشهداء وآلاف الجرحى والمعوقين، صدحت فيها اصواتهم وبتأييد واضح من مرجعية النجف الأشرف للمطالبة بحكومة غير جدلية تمثل إرادة الشعب دون تدخل خارجي يكون واجبها الأساس ضمان إجراء انتخابات مبكرة، إلا أن أحزاب السلطة لم تكترث بذلك كله، وذهبت نحو الإبقاء على رئيس الحكومة المستقيل أطول فترة ممكنة رغم تغيبه الطوعي عن واجباته الوظيفية والأخلاقية خلال أصعب فترة قد تكون مرت على جميع دول العالم، لكنه لم يتطوع في استلام الرواتب والامتيازات والمنافع والحمايات وغيرها.
وللأسف ان الظرف الوبائي الحالي يساعد تلك الأحزاب في تحقيق استمرار مطامعها، نتيجة عدم وجود تشريعات لتنظيمها خلال الظروف الطارئة، كالتوقيتات التي منحها الدستور لرئيس الجمهورية لاختيار مرشح لتشكيل الحكومة وكذلك مدة تقديم المرشح لحكومته وفقاً للمادة (٧٦) من الدستور، حيث ان عدم تقديم المرشح السيد (عدنان الزرفي) لحكومته الى مجلس النواب خلال المدة الدستورية (٣٠ يوم) قد يعد إخفاقاً يستدعي تكليف رئيس الجمهورية لمرشح آخر، وكذلك في حال تقديمه لوزراء حكومته وبرنامجه الحكومي إلى مجلس النواب خلال المدة الدستورية فمن المتوقع جداً عدم عقد جلسة لمجلس النواب وتفويت الفرصة على المرشح، في حين ان عدم الانعقاد قد يكون سببه عدم قدرة النواب على الحضور في ظل الوضع الراهن نتيجة الوباء المنتشر وما تصاحبه من اجراءات تعيق وصولهم قبة البرلمان كحظر التجوال ووقف المطارات وقطع الطرق بين المحافظات، فهناك من يرى أن عدم عقد مجلس النواب لجلسة يفصح خلالها النواب عن قبول حكومة المرشح او رفضها يعد بحكم الرفض، وذلك نتيجة عدم تمكن المرشح من إقناع النواب بحكومته وبرنامجها، الأمر الذي أفضى الى عدم حضورهم وعدم عقد الجلسة.
وهناك فريق آخر يرى أن المرشح قد أنهى ماعليه بتقديمه حكومته وبرنامجها للبرلمان خلال المدة المحددة له، وبعدها يأتي الدور على مجلس النواب ليفصح عن قبول اعضائه بحكومة المرشح او رفضهم لها بشكل صريح، ونعتقد أن حجة الفريق الثاني أقرب للمنطق والدستور في ظل توجهات المحكمة الاتحادية العليا الأخيرة الخاصة بآلية تكليف المرشح من قبل رئيس الجمهورية دون الرجوع للكتلةالبرلمانية الأكبر، وما يسند هذا الرأي ما جاء في المادة (٧٦) من الدستور، حيث أشارت الفقرة (ثانياً) منها إلى مهام المرشح بتسمية وزرائه خلال المدة المحددة، واشارت الفقرة (رابعاً) من المادة المذكورة إلى عرض تلك التسمية مع برنامجه الحكومي على مجلس النواب لنيل ثقتهم بالاغلبية المطلقة للنواب.
بالتالي تنتهي مسؤولية المرشح بتسليم الكابينة والبرنامج لرئاسة مجلس النواب لتتولى الأخيرة المباشرة بإجراءات عقد الجلسة ليعبّر النواب خلالها عن قبولهم او رفضهم للحكومة بشكل صريح، حيث ليس للمرشح التدخل في إجراءات الدعوة لعقد جلسة لمجلس النواب.
ورغم ذلك، فإن الواقع يجعل جميع الخيارات محتملة في ظل غياب التشريعات المنظمة للمدد الدستورية المذكورة خلال الظروف الطارئة الحالية، خاصة إذا ما تحققت توافقات سياسية جديدة بين قادة الكتل، فضلاً عن استمرار التدخلات الخارجية في هذا الشأن.
تعليقات الزوار
احسنت دكتور رؤية موفقة