حسام الآلوسي ونسبية الأخلاق

آراء وأفكار 2020/04/04 05:55:12 م

حسام الآلوسي ونسبية الأخلاق

 د. حسين الهنداوي

كنت في مطلع السنة الثانية بقسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة بغداد، عندما وقف أمامنا ظهيرة ذلك اليوم من نهاية ايلول 1967،

استاذنا الجديد الدكتور حسام محي الدين الآلوسي القادم للتو من بريطانيا بعد أن حصل من جامعة كامبردج في عام 1966 على شهادة الدكتوراه في الفلسفة عن أطروحته " مشكلة الخلق في الفكر الإسلامي" وتحت إشراف المستشرق الألماني الشهير ارفن روزنتال Erwin Rosenthal 1904 - 1991.

ندر أن أقام طلاب فلسفة صداقة مدرسية مع استاذهم كما كانت صداقتنا مع حسام الآلوسي ولم أكن أعرف إنه عمل بعد تخرجه من الكلية مدرساً في متوسطة مسقط رأسي مدينة الهندية - طويريج. صرنا ننتظر دروسه بشوق لنتجادل أمامه بحماس ينطوي على سذاجة منا غالباً، بيد أنه كان يأخذنا مأخذ الجد دائماً، ظاهريا في الأقل، دون أن يرف له جفنٌ، أو تغيب ابتسامته الخفية عن وجهه السمح أبداً. كان نقدياً وجدلياً صارماً كلما استرسلت وتشابكت بين الشرق والغرب أسئلة الفلسفة.. لكنه ظل جاداً وتربوياً ومتواضعاً الى أبعد حد في آن حتى يوم وفاته في السابع من تشرين الأول من عام 2013. كما كان سعيداً بعودته للتدريس في نفس جامعة تخرجه قبل عشر سنوات من ذلك. 

"حوار بين الفلاسفة والمتكلمين" الصادر بجزئه الأول في بغداد عام 1967 كان مؤلفه الأهم الذي درسناه خلال العام الأول والذي فتح أعيننا على عمق تيارات الفلسفة الإسلامية وإشكالاتها لا سيما في تناولها لمشكلة الوجود والعدم. ولا ريب فقد كانت حيوية النزعة المادية الجدلية في ذلك التناول عاملاً فعالاً الى جانب ثراء المادة المعرفية التي يقدمها المؤلف في ذلك الكتاب الأهم في نظرنا ضمن سلسلة مؤلفات مهمة كثيرة من بينها كتاب "من الميثولوجيا إلى الفلسفة" (1973)، و"الزمان في الفكر الديني والفلسفي القديم" (1980)، و"دراسات في الفكر الفلسفي العربي الإسلامي" (1980)، و"فلسفة الكندي، وآراء القدامى والمحدثين فيه" (1985)، و"التطور والنسبية في الأخلاق" (1989)، و"الفلسفة والإنسان" (1990)، و"الفلسفة اليونانية قبل أرسطو" (1990)، ومدخل إلى الفلسفة" (2005)، و"حول العقل والعقلانية العربية، طبيعة ومستقبلاً وتناولاً" (2005)، و"ابن رشد، دراسة نقدية" (2005)، و"تقييم العقل العربي ودوره من خلال نقاده ومنتقديه" (2007)، و"الفن، البعد الثالث لفهم الإنسان" (2008)، و"في الحرية، مقاربات نظرية وتطبيقية" (2010)، و"نقد المناهج المعاصرة لدراسة التراث الفلسفي العربي الإسلامي" (2011)، وتحقيق "كتاب الأسرار الخفية في العلوم العقلية" للعلامة الحلي بالتشارك مع المرحوم الدكتور صالح مهدي الهاشم (2005)، و"التقويمان الهجري والميلادي"، ترجمة عن الانجليزية، طبع في بغداد عام 1968، وأعيد طبعه عام 1986. 

ويخبرنا الأستاذ حسن مجيد العبيدي في أكثر من دراسة مهمة حول أستاذنا الراحل أن للآلوسي مؤلفات أخرى ما زالت مخطوطة وتنتظر التحقيق والنشر، كتبها في أوقات متفاوتة، مشيراً الى أن من هذه الكتب المخطوطة، موسوعته في الفكر الفلسفي الإسلامي، الكلامي منه والفلسفي حتى ابن رشد، وتقع هذه الموسوعة في ثلاثة أجزاء كبرى، وكتاب بحوث نقدية على ضوء المنهج التكاملي، وكتاب مواجهات في فلسفة الوجود و المجتمع والأدب، وكتاب فلسفة التطور، وكتاب نظرية التطور. فضلاً عن كتاب له لا يتذكر اسمه، أخبره عنه الآلوسي في حياته، وقال إنه ضاع في أروقة جريدة طريق الشعب البغدادية، بعد عام 1974، بسبب المضايقات التي نالتها تلك الصحيفة أبان النظام السابق، فضلاً عن جملة أبحاث ومقالات صحفية في صحف عراقية، ومشاركات في مؤتمرات وندوات فلسفية عراقية وعربية، تتجاوز الثمانين بحثاً، أنجزها منذ بداية اشتغاله الأكاديمي في قسم الفلسفة بجامعة بغداد، ونشر معظمها في مجلات عراقية وعربية عدة، بدءاً من عام 1967، وحتى وفاته.

على الصعيد الشخصي ظل العثور على كتابات استاذي الالوسي حدثاً استثنائياً بعد اضطراري على الهرب من الوطن العراقي الى المنفى بسبب القمع البعثي. كانت هناك بعض المقالات الفلسفية العراقية النادرة تصلنا منشورة في صحف ومجلات عربية بين حين وحين, إلا أن كتاباً أصدرته دار الطليعة ببيروت عام 1989، بعنوان "التطور والنسبية في الأخلاق" نكأ فرحي وانتباهي من جديد الى أهمية الآلوسي الكبيرة بين مفكري الفلسفة في العالم العربي في فترة كانت الأنشطة الفلسفية في العراق في خفوت ملموس. فمقارنة بالحيوية الملحوظة التي كنا نرصدها بيسر، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، في الوسط الفلسفي العربي لا سيما في المغرب (الحبابي، العروي، الجابري، الخطيبي...)، أو في مصر (زكي نجيب محمود، عبد الرحمن بدوي، زكريا ابراهيم، حسن حنفي...)، أو في لبنان (حسين مروة، علي حرب، ناصيف نصّار...)، أو في سوريا (صادق العظم، طيب تيزيني، جورج طرابيشي..)، عانى الفكر الفلسفي في العراق غياباً مدهشاً، حيث لم نكن نسمع شيئاً عنه كما لو أنه غير موجود بعد. ولم يقتصر مصدر الدهشة على غرابة ظاهرة كتلك في ثقافة عرفت ان تكون حيوية في ميادين أخرى برغم كل الصعوبات والحصار والقمع، إنما تأتّى أيضاً من أن أواسط الستينيات شهدت ولادة جيل من المشتغلين في الفلسفة لم يلبث بعض ممثليه من إنتاج مؤلفات سرعان ما حققت أصداء لها حتى خارج العراق رغم أن ذلك العطاء ظل محدوداً بشكل عام ومحصوراً في نطاق تأريخ الفلسفة. دون اقتحام ميدان التفلسف المحض. لهذا بدا كتاب "التطور والنسبية في الأخلاق" لحسام الآلوسي خرقاً في ذلك التيار ما استدعى وقفة خاصة أمامه هنا.

يقترح الآلوسي في كتابه هذا، جملة من الأفكار تطمح الى المساهمة في تأسيس فلسفة أخلاقية معاصرة إنسانية المحتوى. وهذه الفلسفة الاخلاقية لا تطرح نفسها خارج التاريخ الفعلي للانسان وتطوره. وإنما كضرورة تاريخية واستجابة موضوعية لسيرورة الحياة الملموسة ذاتها. بيد أن الكتاب بقسمه الأعظم هو دراسة لتطور الأخلاق الإنسانية عبر التاريخ من وجهة نظر مادية ديالكتيكية بحتة على الرغم من أن المؤلف لم يستخدم هذه العبارة مطلقاً في ثنايا النص.

ولتكوين صورة واضحة عن هذا الكتاب يمكن الإبانة عن القضايا الرئيسة التي تطرحها فصوله التسعة ثم الاستنتاجات النهائية التي يخرج بها هي مايلي قبل أن نسجل بعض ملاحظاتنا النقدية العامة حول المنهج والأسلوب اللذين يوظفهما الآلوسي فيه.

يكرس المؤلف وقفات مطولة ومتأنية عن مختلف المفاهيم التي يوظفها أو يتبناها، وهي تتعلق بماهية ومراحل وتعقيدات التطور التاريخي للأخلاق وذلك بهدف خلق أرضية صلبة تمكنه من أرساء منظوره الخاص لفلسفة أخلاقية بديلة. هذه الوقفات التي تستغرق معظم النصف الاول من الكتاب، نكتشف عبرها سعة وشمولية المعرفة الفلسفية للمؤلف ومثابرة متابعاته للفكر في ميادين لا تقتصر على الفلسفة وأنما تمتد الى علم الاجتماع وعلم النفس والانتربولوجيا. أما على الصعيد الفلسفي البحت، فبعد أن يناقش موضوعة التمايز السلوكي وتباين درجاته لدى الانسان ولدى الحيوان، ويثبت أن الأخلاق هي ظاهرة يتفرد بها الإنسان بسبب اجتماعية السلوك البشري، ينتقل حسام الآلوسي الى تقديم عرض نقدي لمختلف وجهات النظر حول هذه الظواهر، ونستنتج من هذا العرض أن تطور الاخلاق لديه ليس سوى انعكاس لتطور الحياة المادية نفسها وهذا يعني أن هناك ارتباطاً عميقاً بين نوع الاخلاق السائدة وما يوازيها من أنماط وعلاقات الانتاج الرئيسية.

على هذا الأساس، يرى الآلوسي أن التاريخ العام لتطور الأخلاق ينقسم الى خمس مراحل كبرى وهذه المراحل تتميز فيما بينها كانعكاس لتميز نمط وعي العلاقات الاجتماعية الخاصة بكل منها. فالمرحلة الاولى هي مرحلة الحس المشترك، تليها مرحلة التصورات والتفكير التأملي المنتظم، ثم مرحلة إعادة تكوين الخبرة على أساس تجريبي، وهذه المرحلة يعتبرها الآلوسي خاصة بالعصر الحديث. أما المرحلة الخامسة فهي مرحلة مستقبلية تقوم معرفياً على تكوين الخبرة على أساس عقلي.

والاستنتاج الذي يخرج به المؤلف هو أن نسبية الأخلاق مسألة بديهية في التاريخ البشري وكذلك تطورها، وإن الأخلاق في المجتمعات السابقة على العصر الحديث لم تكن عشوائية وإنما نتيجة حتمية للظروف الاقتصادية والاجتماعية، وإن رغبات الناس في المحبة والمساواة والحرية والسعادة كانت مشروطة، في محتواها وأبعادها من جهة، وفي تحقيقها من جهة اخرى، بإمكاناتهم الملموسة ومدى انسجامها مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشون فيها.

انطلاقاً من هذه الاستنتاجات، يكرس المؤلف القسم الثاني بأكمله للرد على المفهوم القائل بمطلقية الأخلاق مبيّناً في سياق ذلك معنى فكرة المطلق في الاخلاق واصولها، ثم يقدم انتقاداته الخاصة للفسلفة الاخلاقية عند عمانوئيل كانت الذي يقول بمطلقية الضمير. بيد أن أهمية هذا القسم تتمثل في سعيه الى اعداد الانتقال الى القسم الثالث الذي يظل في رأينا الأكثر أهمية في الكتاب، إذ إنه يتضمن المكونات العامة، «للفلسفة الاخلاقية البديلة». فما هي هذه المكونات؟

إن رفض الآلوسي لمطلقية القيم والأخلاق لا يقوده الى تبني موقف مضاد. أي إنه لا يتبنى نسبيتها بشكل مطلق. وهذا يعني أن نسبية الاخلاق هي أيضاً نسبية. فهو يعتقد أن تقدم المعرفة الإنسانية هو تقدم مطلق لأنه انعكاس لتقدم الحياة المادية ذاتها، وهو يرفض أفكار هيغل وهردر وتوينبي وليون بونشفيك وبرودون ودوركهايم وكل الذين يقولون بعصور ذهبية في الماضي السحيق، ويحاولون تفسير التقدم تفسيرات ماورائية. إلا أن موقفه هذا لا يعني أن تقدم الأخلاق هو تقدم مطلق كذلك، على أساس إنه انعكاس لتقدم المعرفة. فليس من الضروري أن يتطابق تقدم الأخلاق مع تقدم المعرفة. فالأخلاق لديه شكل من أشكال الوعي الاجتماعي وصدى غير مباشر للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية السائدة، لذا تعكس بالضرورة سلبيات أو إيجابيات هذه العلاقات أكثر مما تعكس درجة التقدم في المعرفة.

هذه هي بعض الأفكار الرئيسة التي يطرحها حسام الآلوسي في كتابه المذكور معروضة هنا بشكل سريع جداً. ومن أبرز ملاحظاتنا الانتقادية على هذا العمل اسراف المؤلف في ايراد الاستشهادات التي تدعم آراءه خصوصاً في الفصول الستة الاولى. إننا لا ننكر أهمية ذلك أحياناً، لكن الأمر يتعدى هنا الضروري أحياناً وبشكل أثقل النص، وأربك قوة الأفكار التي يدافع عنها المؤلف. ومما زاد الأمر تعقيداً هو أن الكثير من الاستشهادات مأخوذة من مفكرين محدودي الأهمية العلمية أو الفلسفية برأينا.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top