د. نادية هناوي
اعتاد النقد الغربي على ظهور دعوات ومقولات تُكرر ذات النسق وهي تبزغ حيناً وتتوارى أحياناً، وعادة ما تكون هذه المقولات أقرب إلى المناكدة والاستفزاز منها إلى المعارضة والاحتجاج كالقول بالما بعدية والميتاتالية والماورائية والإماتية أو التمويت وغيرها مما يصب في باب الأدب ونقده بخاصة والثقافة والفكر بعامة.
وقد يكون المسعى المتوخى تحقيقه من وراء هكذا مقولات هو إبطال مشروع ما أو إفشاله؛ غير أن الرغبة في الزعزعة الجدلية بقصد التحديث في النظر والتجديد في العمل قد تكون من ضمن ذاك المسعى أيضاً.
وتظل مقولات الموت والما بعدية والنهايات الافتراضية في كل الأحوال حالة صحية، فلا يفهم مثلاً من ما بعد الحداثة وما بعد العقل إلغاء الحداثة والعقل كما أن القول بالميتالسانية والميتاسردية لا تعني انتفاء اللسانية أو لا جدوى السردية، ولا الادعاء بموت المؤلف أو التاريخ أو النقد الأدبي ينفي الحاجة إلى هذه المسميات الثلاثة.
وتظل الإشكالية فيما بين الحداثة وما بعدها وما بين الموت وما وراءه عبارة عن جدلية تخليق واستفاضة، ليس فيها خسارة ولا كسب لكن فيها تحريكاً للرواكد وتصفية للشوائب.
وفي مطلع القرن الحالي تبنى تيري ايغلتون Terry Eagleton واحدة من تلك المقولات في كتابه( بعد النظرية after theory) 2003 وقد توشح غلافه الأمامي بتعريف بالمؤلف( ايغلتون مؤلف نظرية الأدب في انجلترا ) كما ثبتت في أسفل هذا الغلاف مقولة فرانك كيرمود( لم يكن تيري ايغلتون عميقا وبارعاً أيضاً )
ويعد كيرمود أهم منظري الأدب، وله أربعون كتاباً في النظرية الأدبية وهو أستاذ ايغلتون، وقد ألف في ستينيات القرن الماضي كتابه( الإحساس بالانتهاء دراسات في نظرية التخييل ) وفيه ربط الأدب بالسياسة.
وتيري ايغلتون ناقد ومنظر ما بعد حداثي، اسمه الحقيقي تيرانس فرانسيس، رسّخ في معظم كتاباته مفاهيم النظرية الأدبية والنقد الثقافي، وهو القائل: " اعتقد أنني معروف أكثر من أي شيء آخر بأنني منظر أدبي وناقد سياسي"( كيف تقرأ الأدب، ص14) ومن كتبه ( ضد الذوق 1986 والجسد بوصفه لغة صورة موجزة للاهوت اليساري الجديد 1970 )
وصرح في سيرته الذاتية أن في داخله فيلسوفاً تقليدياً جداً وفيلسوفاً آخر يكافح للظهور إلى العلن (حارس البوابة، ص65) وهذا حال الفلاسفة عموماً، فسقراط الذي يعد أبا الفلسفة كان قد بدأ مهرجاً يدعي الجهالة كما أن أشد المفكرين إبداعاً هم الذين اقروا بزيف العقل كما فعل فيتغشتاين.
وأغلب كتب ايغلتون مترجمة إلى اللغة العربية، أما كتابه( بعد النظرية ) فلم يترجم، ربما بسبب الروح الساخرة التي بها عالج ايغلتون مسائل كانت إشكالية زمن التأليف عام 2003 لكنها اليوم ليست كذلك وخصوصاً مع المتغيرات الفكرية التي حرك راكدها اجتياح وباء كورونا العالم فاتضح افتراء بعض الطروحات الفلسفية وخطأ بعض التفسيرات الثقافية.
وملامح تجربة ايغلتون في النقد أخذت تتشكل منذ كتابه( أوهام ما بعد الحداثة) 1996 ومن تلك الملامح اجتماع البعد السلبي في النظر إلى نواحي القصور في المادة المنقودة سخرية وانتقاداً بالبعد الايجابي الذي ينطوي على التوضيح والمعالجة وإزالة الفواصل بين الثقافتين العالية والشعبية.
ولا يرى ايغلتون مجالاً لدفع الانحطاط واستعادة الازدهار إلا بالثقافة التي لا يختلف التنظير لها أن كان النظر إلى الإمام أو كان النظر إلى الوراء تهيئة للحركة إلى الأمام. وعن ذلك يقول:" وبحسب هذه النظرة أدارت الحداثة تروس عجلة الزمان إلى عكس الاتجاه لتكتشف في الماضي صورة عن المستقبل" (أوهام ما بعد الحداثة، ص46)
والسؤال المطروح هنا لماذا اهتم ايغلتون بما بعد النظرية ؟ وأية نظرية قصدها أهي الأدبية أم الثقافية أم كلتاهما ؟ وما الدوافع التي حرضت ايغلتون على هذا التوجه ؟
إن غالبية كتب ايغلتون النقدية تميل إلى النظرية الثقافية، فهو لم يعن مثلاً بقضايا الأدب الصرفة كالأجناس والمناهج والتقنيات بل عني بمسائل نقدية ثقافية كالأيدولوجيا والذوق وما بعد الحداثة والذاكرة والثقافة والحقيقة والفضيلة والموضوعية والموت والشر وغيرها؛ مع ضرورة التأكيد هنا أن حديث ايغلتون في كتابه ( بعد النظرية) قد تخصص في النظرية الثقافية التي عرف باهتمامه بها ولم يتعد إلى النظرية الأدبية كما لم يعمم على النظريات كلها.
لا عجب أن يكون ايغلتون ناقداً ما بعد حداثي، نظراً لما يتمتع به من روح معرفية منفتحة ترى الأدب ميدانا إبداعياً ينفتح على الثقافة كلها بل هو الثقافة عينها.
وقد عبر عن هذه الانفتاحية في كتابه موضع الرصد وهو يرى أن العصر الذهبي للنظرية الثقافية صار في خبر كان، بظهور مرحلة( ما بعد الكارثة) ولعله يقصد بها أحداث 11 أيلول 2001، مؤكداً أن الريادة التي حققها لاكان وشتراوس والتوسير وبارت وفوكو وما قام به بعض المفكرين مثل رولاند ويليمز ولوسي اريجاري وبيير بورديو وجوليا كرستيفيا ودريدا وهيلين سيسو ويورغان هابرماس وفرانك جيمسون وادوارد سعيد من كسر للمسار المعتاد قد صار بلا قيمة مكتملة. الأمر الذي يتوجب معه العودة إلى عصر ما قبل النظرية إلى عصر يوتوبي لم يظهر في أفقه فرنادرد سوسير، عصر بريء لا خيبة أمل فيه من استعادة لذة كيتس أو روح الأرواح لملتون.
ولا يفهم من هذا الرأي أن ايغلتون يفنِّد بأحادية وانغلاقية وتحاملية النظريات كلها التي وصلت إلينا منذ النصف الثاني من القرن العشرين إلى مفتتح القرن الحادي والعشرين، بل العكس تماماً فهو يجادل بانفتاح رافضا أولا القول إن المشروع النظري بأكمله كان خطأ مروعاً تسببت في إطلاق صافرته روح وهمية ومؤكداً ثانياً أن النظريات الآن لا غنى عنها من أي وقت مضى ( It remains as indispensable as ever)
بيد أن الذي يمقته ايغلتون في النظرية هو تعاليها والذي يدهشه فيها هو غناها ونموها بالتبصر الذي عرف به مفكرو القرن العشرين مثل التوسير ورولان بارت ودريدا. فأما تعالي النظرية فيتمثل في الأبوة النقدية التي تجعل جيلاً ما مكملاً للجيل الذي سبقه فتكون للسابق المركزية وللاحق التبعية. وأما غنى النظرية فيتمثل في اللاأبوية التي بها يمتلك الجيل شرعية الولادة من دون آباء أو أمهات ولا مراكز ولا أطراف، بمعنى أنهم عصاميو النشأة.
وإذا كان هذا الطرح ما بعد الحداثي يقف في صف التابع والمهمل فإنه ليس بالطرح الجديد، فأدبيا تناولت أعمال روائية كثيرة هذه الموضوعة متحدثة عن الظهور المفاجئ للمثقف الشاب الحديث الذي يمثل قوة جديدة على مسرح الحياة كرواية (صورة الفنان في شبابه) لجويس و( التربية العاطفية) لفلوبير و( آباء وأبناء) لتورجنيف.
وفلسفياً أفاض المنظرون ما بعد الحداثيين بالقول في الأبوية وآثارها الاستبدادية والسلطوية، ومنهم ادوارد سعيد الذي أكد في كتابه( المثقف والسلطة ) أن المثقفين الذين كانوا آباء الحركات وأمهاتها كانوا هم الأبناء والبنات أيضاً، وأن الإقرار بالبطريركية هو الذي يولد جماعات مغيبة ومحرومة ليس لها في دوائر السلطة من يمثلها.
وكان ميشيل فوكو قد تخلى عن فكرة المثقف العالمي ودعا إلى المثقف المتخصص بوصفه شخصاً يمارس عمله داخل مبحثه الخاص وهو قادر على استعمال خبرته كمثقف كوني.
وبحسب ايغلتون فإن أي جيل جديد من حقه أن يكون له جهازه الفكري الخاص والأصيل ليكون هو نفسه معلم ذاته، ولا يعني هذا الحق وتلك الخصوصية الانقطاع عن السابق ومقاطعة اللاحق وإنما هو مسار يتم كسره حينا وجبره حينا آخر، فمنظرو البنيوية أو النسوية كسروا المسار نقداً وتطبيقاً لكنهم لم يلغوا من سبقوهم بل انطلقوا من رؤية نظرية معينة ليعززوها بالممارسة العملية على الأدب الذي تظل إبداعيته متاحة دائما للتبصر كروايتي( موبي ديك) و( القط في القبعة) اللتين بهما ضرب ايغلتون المثل على ذلك.
وإذ يرى ايغلتون أننا ما زلنا نتاجر بالماضي بينما العالم تغير دراماتيكيا منذ فوكو ولاكان، مردفاً رؤيته بتساؤل جوهري حول أي نوع من الفكر الطري مطلوب تكونه ؟ فإن أجابته تظل متحيرة وهو يرى أن حقيقة ذلك الفكر تكمن في أننا لا نعرف أين نحن الآن بنيوياً أم ماركسياً أم ما بعد بنيوي.
ولأن هناك حقولاً معرفية ينبغي سبرها تنأى عن الأحادية وتتقارب مع بعضها بينياً بالتداخل والاندماج جامعة الثقافة بالأدب والسياسة بالتاريخ والدين بالميثولوجيا، تغدو ( الجنسانية والجندرية ) أهم الحقول التي وجد فيهما ايغلتون ميداناً رحباً للانفتاح النظري الذي شبهه بالفلسفة في فرنسا وهي تجمع الطريق إلى الاستقامة بالقبلة الفرنسية.
وايغلتون ناقد كوزموبوليتي، استرعى نظره ما وجده في بعض الدوائر الثقافية من سياسات تجمع الشذوذ بالاستقامة في التعامل مع سياسات الشرق الأوسط, فضلاً عما لمسه اجتماعياً من سادية وماسوشية في التعامل مع ثقافة الجسد( لا بالمعنى الايروتيكي التطبيقي الشبق بالاستمتاع المتحمس لاقتران الأجساد؛ بل كموضوع عصري للغاية يجذب طلاب المراحل المتوسطة، فيتراسلون بجد وهم في المكتبات عاملين على موضوعات مثيرة كمصاصي الدماء والتلاعب بالعين والسايبورغ والأفلام الإباحية).
ليقترح على طريقته في السخرية موضوعات للماستر تقوم على مقارنة سلوك شارب الشعير بشارب الويسكي أو فينومينولوجية الاستلقاء على السرير طوال اليوم، ومؤشراً أيضاً على فوائد كتابة أطروحة دكتوراه بتقليب جهاز التلفاز أو عن عالم الميديا والتبضع من المولات أو في موسيقى الروك التي كانت فيما مضى تلهي الطلاب بينما هي الآن مما يجب أن يُدرَّس.
وقصد ايغلتون من وراء ذلك تأكيد مطاطية النظرية الثقافية أدباً وسياسات، فلا مواضعات تقننها ولا تقييدات تحكمها؛ منتقدا ما سماه( الاستهتار بالجنس) واجداً فيه أمراً مثيراً للسخرية بشكل خاص لتكون واحدة من انجازات النظرية الثقافية( أنها تؤسس لموضوعات الجندر والجنسانية وتعطيها الشرعية للدراسة كقضية سياسية ملحة ومهمة).
وقد مثَّل ايغلتون على تلك المطاطية بالفيلسوف ايمانوئيل ليفنز الذي وجد في عناصر الدايزن ـ الذي نظر له هيدجر ـ نوعاً من الانقراض الغريب للوجود البشري ( دايزن لا يأكل) وكذلك قول فردريك نيتشه ( أنه متى ما تكلم الجسد بقسوة سيتمكن من إدراك أكثر من حاجتين لا حاجة واحدة).
وما أراد ايغلتون انجازه في النظرية الثقافية هو الجمع بين الثقافة العالية وثقافة العموم الشعبي وما فيها من ظواهر ومسائل قريبة منا لكنها غير مرئية. واهتم ايغلتون بواحدة من تلك اللامرئيات الشعبية وهي الجنسانية التي يراها السبب في جعل الطالب اليوم يفيد من صديقه بدلاً من أن يفيد من فلوبير أو أن الجنتلمانية الانجليزية في نظر الطلاب اليوم قديمة وهي تتعهد بأن تكون فاضلة وتعمل بطيبة وعفوية بحتة بينما هي الآن متضمنة في العمل لكن بلا بلادة ولا نرجسية انجليزية مسمياً هؤلاء الطلاب بـ( طلاب ما بعد الكولونيالية)
ومما قاله ايغلتون:( إن الثقافة الشعبية تدفع نحو الأسطورة بقوة خطابها الذي لم يعد أخلاقياً كما كان في الماضي عند التجار والكتبة وإنما هو اليوم خطاب مسيس. وهو ما يجعل الجنسانية والجندر إنجازاً ثميناً في النظرية الثقافية أكثر من إنجاز الحرب على الإرهاب).
ولا يخفى ما تتضمنه كتب ايغلتون من نزوع واضح نحو أعلاء ثقافة الجسد ومنها كتابه" أوهام ما بعد الحداثة" وفيه قال: (هناك نوع من المادية البراقة في لغة الجسد body talk ) ص120
ولم يزعم ايغلتون في أي من كتبه السابقة فضلاً عن كتابه موضع الرصد( بعد النظرية) أن الحاجة إلى وجود النظرية قد انتفت أو أن نجمها أفل وعصرها ولى وانقضى، فمثل هذه الدعوات برأيه جوفاء ولا أصل لها ولا مصداقية، وأن أشباه رسائل النعي هذه صدرت مرات كثيرة منذ العهد الجديد حتى هيجل، وأن في إعلان موت التاريخ ما يساعد على الإبقاء على حيوية التاريخ ناقلا عن أوسكار وايلد قوله "إن الخطأ بشأن نهاية التاريخ مرة واحدة مصيبة أما الخطأ بشأن ذلك مرتين فمجرد إهمال" (حارس البوابة، ص111)
وفي بحثه عن مسائل جديدة في الثقافة الشعبية دليل على أن النظرية الثقافية قادرة على استيعاب موضوعات جديدة تساهم في توعية الباحثين بأهمية التعامل الفينومينولوجي مع ما هو مهمل وغير متجانس أكاديميا وإعطائه الشرعية التي تجعله متجانسا.
وأن الموضوعات التي كانت الثقافة المتعالية تهتم بها تحت تأثير المعيارية والمركزية ملتزمة بوجهة نظر أحادية، هي التي جعلت النظرية الثقافية تتعامل معها بسلبية.
وغدت موضوعات الجندر والجنسانية والجسد والسعادة والبيئة والقوة والطاقة والاختلاف والتجانس في النظر للظواهر الفنية والجمالية هي الرائجة اليوم في النظرية الثقافية.
وما دام القارئ مشاركاً في إنتاج النص؛ فلا قراءة واحدة لتفسير أي عمل إبداعي، بل هي تعددية قرائية اتسمت بها المرحلة ما بعد الحداثية، وبسببها ترك الانجليز تعاليهم الأكاديمي واهتموا بأدب العالم الثالث المكتوب بالانجليزية مما سمي أولا بأدب الكومنويلث وعرف فيما بعد بـ( أدب ما بعد الكولونيالية)
فحلَّ التعايش والتعدد والتنوع والاعتراف بالأقليات وحقوق المهاجرين واللاجئين والمنفيين وغيرهم من الهوامش الذين ما عادوا مواطنين من الدرجة الثانية منبوذين غير متجانسين مع المركز بل أتيحت لهم الآن حقوق المواطنة كالتصويت والتملك والعمل والتعليم والصحة والسياسة والتدين واللغة وغيرها.
وجدير بالذكر أن هذا الذي تريده النظرية الثقافية يتعارض تماماً مع ما تريده النظرية المناهضة للثقافة والقيم الثقافية ذات الأصول الدينية التي ظهرت في الولايات المتحدة أبان التسعينيات وأساس عملها المجادلة الثقافية غير المبنية على قاعدة العقل ومن دعاتها ريشارد رورتي الذي دعا إلى دمج البراغماتية الأمريكية بالطبيعة الدارونية وستانلي فش الذي سمى نفسه مناهض الثقافة anti- theorist of culture. والثقافة بالنسبة لهما لا تحتاج مبرراً خارجياً لأنها هي التي تبرر نفسها بنفسها. وهو ما يمنع هذه النظرية من أن تنظر لنفسها عن بعد.
ومبدئيا نرى أن لا نظرية من دون عمل به يغدو النظر الثقافي مقروناً بالممارسة التي تتجاوز التقليد إلى التجديد، ومن ثم يصبح احتجاج النظرية المناهضة للثقافة بأنها لا تصل بشكل مباشر إلى المعلومات حول العالم بينما العالم نفسه هو المعلومات بمثابة ارتكاب للخطأ الذي يجعلها لا تملك ما تقوله عن العولمة وهيمنة وسائل التواصل على أنماط الحياة.
ومما ناقشه ايغلتون في كتابه (بعد النظرية) قضايا الحقيقة، الأخلاق، الفضيلة، الموضوعية، الثورة، الأصولية، الشر، العدم وغيرها، شاعرا بالقلق من قضية الحقيقة، فالنظرية الثقافية مثل الحقيقة غير نقية بعكس الثقافة المتعالية التي هي دغمائية واستبدادية. أما قضية الأخلاق فتعني أنك إذا أردت أن تعيش حياة أخلاقية فعليك أن تعيشها بالتضحية والمثال المعتاد (السمكة طازجة fish is fresh ) قابله ايغلتون بمثاله الخاص وهو( العنصرية هي الشرRacism is evil)
وعلى الرغم من الأشواط البعيدة التي قطعتها النظرية الثقافية؛ فإننا ما زلنا ننظر للنقد الثقافي منهجاً للتحليل حسب وللدراسات الثقافية نظرية بديلة عن النقد الأدبي، غير مستوعبين فضاءاتهما البينية الاندماجية، واصفين العمل عليها( بالهوس والاهتمام بالنظرية في قراءة الظاهرات الثقافية أمراً سلبياً يختص به النقّاد والباحثون العرب أو كتاب العالم التابع وحدهم) كما جاء في مقال الدكتورة فاطمة المحسن المعنون( نهاية عصر النظريات) المنشور في جريدة المدى بتاريخ 20 آيار 2020 الذي نناقشه لحساسية ما طرحه من آراء، هي على قلتها ذات بعد خطير يحتاج فحصا علميا وتمحيصا معرفيا.
وما دمنا في النظرية الثقافية فإن من الوهم الاعتقاد بوجود فارق في الممارسة النقدية بين ناقد داخل وطنه وآخر خارجه، أولاً لأن الناقد القاطن بعيداً في أقصى الشرق قد يكون أكثر احتكاكاً ومماحكة مع النقد الغربي من ناقد قاطن لعقود في لب البلاد الغربية. وثانياً أن المرجعية الفكرية والتركيبة الجينالوجية تظل واحدة بوصفها مواضعات ثقافية تؤثر في تشكل الذات العربية وتحدد هويتها التي يمكن للمرء أن يطورها وليس بإمكانه أن يشطب عليها أو يمحي وجودها، نظراً لتجذرها في تلافيف وعيه ولا وعيه.
ولو كان هناك اختلاف في الممارسة بين نقد عربي يكتب في بلاد الغرب وآخر يكتب في بلاد العرب لما وجدنا نقدنا العربي قد وقع في أزمة نظرية ولما صرنا اتباعيين للنقد الغربي، هذا إذا لم نفترض أن الاختلاف مصدره نفسي وبسببه يتعالى مثقف الخارج على مثقف الداخل ليصف ابن جلدته بأنه تابع ينتمي إلى دول عالم ثالث، أما هو فمهيمن يعيش في قلب المركز الغربي وينتمي إلى العالم الأول.
ولا نلقي باللائمة في هذا الفهم النقدي للنظرية الثقافية على الدكتور عبد الله الغذامي الذي كان تطبيقيا أكثر منه منظراً وهو يبشر بالنظرية الثقافية ويمثل لها إجرائياً ببعض المرتكزات المفاهيمية كالمجاز الكلي والتورية الثقافية والمؤلف المزدوج وغيرها؛ وإنما نلقيها على النقاد العرب الذين اغتروا بالثقافة ولم يستوعبوا نظريتها فحللوا وفسروا مستندين إليها بوصفها منهجاً لا نظرية.
وبدلا من تحدي النظريات ومواجهتها بالاجتهاد والاحتشاد راحوا يتباكون على نقدنا العربي الذي لا نظرية له؛ بل هو في أزمة نظرية طارحين مقولات الموت والانتهاء والأفول بمعناها السلبي لا الايجابي ومنها موت النقد وموت الرواية والشعر والنظريات والمناهج وهلم جرا.
ومن ثم لا تغدو ـ من منظورهم طبعاً ـ أية جدوى من وجود فكر نظري به نكمل نظرية غربية أو نطرح مفاهيم أو نستعيض بغيرها، مطورين ممارساتنا الإجرائية بتقديم قراءات جديدة إزاء قضايانا الفنية والأدبية وظواهرها المختلفة.
وهذه النمطية الفكرية هي بلية ابتلي بها العقل العربي الذي يميل إلى التمثيل الحسي، وينفر من التأمل النظري، أي أننا نقتنع بما هو واقعي ماثل ولا ننزع إلى تجريديه إلا إذا كان في التجريد ما يحقق التعالي والخيلاء التي تبوئ صاحبها قمة البرج العاجي وعندها لا نفع في تجريده لانعزاله عن عموم الظواهر الحياتية.
ولقد عمل كثير من النقاد العرب داخل الوطن العربي وخارجه على تجاوز هذه العقلية النمطية متحلين بوعي ثقافي عال وبممارسات تنطوي على خبرة ودراية كبيرتين، مؤمنين ألا انفصال بين النظرية والممارسة لأنهما عماد أي بحث أو دراسة أكاديمية.
هذه الأكاديمية التي سبقنا الغرب فيها كثيراً وقد أفادنا منها كثيراً أيضا حتى شيدنا لنقدنا أكاديميته الخاصة..فكيف نرضى بعد ذلك كله أن ينهار هذا الذي شيّدناه ونحن ندعي أن( عصر التنظير أوشك على الأفول) وأن لا(مكان في ثقافة المستقبل للمنظّر التجريدي) ؟!
وإذا أقررنا أن النظريات تحد من إمكانيات الناقد كنمط من أنماط الهيمنة؛ فإن الوعي بأهمية النظريات هو الذي يجعل الوعي حراً وهو يتشكل من خلالها، ومثلما أن لا نظرية من دون تقعيد كذلك لا حرية من دون وعي ولا وعي من دون نظرية.
والخطورة ليست في النظريات نفسها وإنما في كيفيات الارتكان إليها وطبيعة فهم مرجعياتها وإدراك ممارساتها التي ينبغي أن تكون الخبرة فيها حرة وواعية.
ولا عجب أن تكون النظرية الأدبية منذ التنوير إلى يومنا هذا مكتوبة بالانجليزية ومن ثم لا سبيل إلى جعلها عربية إلا إذا حاولنا التخلص من عقدة التابعية وأقررنا بالتعدد واللامركزية في النظرية الأدبية موقنين أن بإمكان الهامش أن يقدم إلى المركز النظرية كدورة ثقافية منطقية ليس فيها هامش ولا مركز.
ولا عجب أن تكون في كتابات تيري ايغلتون كثير من المسائل التي تصب في هذا الباب وهي تتطلب منا وقوفا متأنيا، لا بسبب النزعة الجدلية التي تحلى بها هذا المنظر وإنما أيضاً الروح الانفتاحية التي تجعله ينفر وهو ينجذب ويتيقن وهو مرتاب ويشخص وهو متحير ويعلل وهو يستنتج ويبني على القاعدة وهو يدك الأساسات.
ومثلما أن أية قراءة سريعة لايغلتون ستكون ظالمة له ومتجنية عليه كذلك يغدو أي حديث عن أزمة في أدبنا ونقدنا حديثاً منحرفاً وسطحياً أن لم يستند إلى مرجعية ثقافية تنتسب إلى التاريخ الثقافي العربي، متنازلة عن الاتباعية الكولونيالية، معترفة بأحقية الدرس النقدي في أن يتمركز وهو يشرعن لنفسه النظرية التي فيها يستند لا مركزياً إلى الآخر الغربي وفي الآن نفسه يتجاوزه بطريقة منطقية وعلمية.
لا لكي نتجاوز الأزمة بل لنؤكد النظرية ونعالج بعضا من فوضى واقعنا الثقافي والمعرفي وما أهدر بسببها من خصوصية عربية. تلك الخصوصية التي يراها بعضهم منتمية إلى العالم التابع وتردد ببغاويا ما يقوله الآخر المهيمن، أو أن ( الثقافة العربية تتمثل حقباً تعتبر منتهية في حياة الغرب في ميدان النظرية الأدبية أو النظريات الثقافية عموماً.) وكأن لا خبرة نظرية وممارساتية تزخر بالحقيقة وهي تميز الأصيل عن الغث وتفصل المنهجي عن غير المنهجي.
وأنّى للمثقف العربي أن يظفر بالنظرية خاصته وثقافته العامة والنقدية ما زالت متمسكة بالتطبيق غير مقتنعة بجدوى التنظير وقبل هذا وذاك مصابة بسوء الفهم ووهم التعالي ؟ ثم كيف ( يتحقق للعرب ابتكار أنفسهم ) والنظرية بالنسبة إليهم بعبع ينعق خذلاناً وانكساراً مثبطاً العزائم شاكياً باكياً وهو يعض على أصبع الندم إحباطاً وتشاؤماً وضجراً وخيبة أمل ؟!.
اترك تعليقك