المسرح: دير الكاهن، و سوط الجلاد

المسرح: دير الكاهن، و سوط الجلاد

أحمد شرجي

المسرح ظاهرة تعيش مع المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في البلد، هناك فترات يتوهج بها المسرح في بلد ما، لأنه يرتبط بكل ذلك، وبالتأكيد ما يقدم من عروض مسرحية الآن لا يمكن مقارنته بما قدم سابقاً،

بحكم تواجد أجيال مهمة مسرحياً، ولم يكن آنذاك تطور تكنولوجي و وسائل التواصل الاجتماعية، لأن لو تطرقنا عن مرحلة النظام السابق ستجد المسرح في طليعة بقية الفنون، ليس بدعم النظام له، بل لأن المسرح ظل مشاكساً للسلطة ولم يهادن، اقترح نظام عرض مشفر يدين به السلطة ويسخر من نظامها، وهنا كان المسرح أشبه بدير الكهان، المسرحي بوصفه كاهناً، وبالتأكيد ليس كل المسرح لأن هناك مسرح تعبوي و:إنه سوط الجلاد، ساهمت السلطة بالترويج له ودعمته بالأموال، وهناك أعمال انتجتها دائرة المخابرات العامة، ولا ننسى هناك المسرح الاستهلاكي الذي روجت له السلطة وحافظت على ديمومته،على حساب المسرح الجاد، لم تمتلك السلطة مشروعاً تسويقياً أو دعم للمسرح والفن العراقي، وأغلب النجاحات كانت مشاريع فردية. ما الذي يضيفه العرض المسرحي على بشاعة اليومي وتداعاياته السياسية، للأسف الشديد ارتبط المسرح في منطقتنا كثيراً بتداعيات السياسي، بل أصبح ملتصقاً به، رغم أن المسرح فعل جمالي وإنساني بالمقام الأول، كذلك علينا أن لاننسى بأن الأجيال الجديدة لها خصوصيتها الثقافية والاجتماعية، وما يقدم الآن، ليس بالضرورة بأنه نكوص، بل وفق ثقافة هذا الجيل وهويته، المسرح أبعد من كونه خطاباً سياسياً، أصبح متساوقاً بالوسائطية والتكنولوجيا، توهج المسرح العراقي في العقود الماضية ليست فترة وانتهت الآن، بل بداية فترة جديدة وفق متغيرات المرحلة، لأن المسرح تراكم معرفي واشتغالي.

ولكن السؤال المهم حسب وجهة نظري ؛هل هناك هوية للمسرح العراقيّ يمكن تلمّس ملامحها بعد هذه المسيرة الطويلة؟ هل المسرح العراقي الآن يحتل ـ عربياً على الأقل ـ المكانة التي يستحقها؟ عندما نبحث للمسرح عن هوية جغرافية كأننا نبحث عن مرجعية حزبية أو عشائرية، هوية المسرح بشكل عام بعدم هويته، المسرح عابر للهوية بحكم خطابه الإنساني والجمالي، في كل الإرث المسرحي العالمي لا توجد هوية لمسرح ما، وهوية المسرح العراقي الحقيقية في أصالته واشتغالاته النوعية المختلفة عبر تاريخه الطويل، حضوره الفاعل في الوطن العربي بحكم التقادم الزمني ورسوخه واستمراريته…لكل تجربة مسرحية خصوصيتها في التعاطي مع العرض المسرحي، العراق خصوصيته في الثمانينيات والتسعينيات امتاز بالمشاكسة لكل ما ينتمي للسلطة، وتونس تميزت باشتغلاتها الجمالية على مستوى السينغرافيا والاداء التمثيلي، وهكذا.. العرض المسرحي العراقي له حضور وازن في المنطقة العربية وهذا لا يمكن إنكاره، لكن المشكل الكبير – حسب وجهة نظري- ليس المهم (المكانة) بقدر أهمية الاختلاف القصدي في التجربة المسرحية، تجربة تبحث عن الارتقاء بالذائقة الجمعية داخل المجتمع، وتكون مؤثرة أولاً في ثقافتها. ولكن

هل نعاني من غياب التنظير المسرحي؟

هناك خلل كبير في الجانب التنظيري للمسرح في العراق، وتكاد تخلو الساحة في القرن الماضي من منظر مسرحي، هناك محاولات خجولة تفتقر للمنهجية والعلمية، لا يوجد تنظير للتجربة بحد ذاتها، وقد يكون مرجع ذلك إلى الضعف النقدي منهجياً والذي يقترب من الانطباعات الشخصية والإنشائية، لم يعد النقد مقالة عن عرض مسرحي، بل كتابة إبداعية مجاورة بعيداً عن الكتابة المعيارية، في العقد الأخير بدأت تظهر ملامح منهجية وتنظيرية عند جيل جديد، ولا أعرف حقيقة ما جدوى الكم الهائل من طلبة الدراسات العليا وحملة (الدال) في المسرح وهم لا يستطيعون كتابة مقالة نقدية منهجية؟ لم يتساوق النقد والتنظير مع فاعلية وديناميكية التجربة المسرحية العملية، اختفى التنظير بخجل خلف كواليس العرض المسرحي، انصب الاهتمام بالتجربة العملية فقط، ونسينا التنظير لها. 

امتازت التجربة المسرحية العراقية بمراحل انتقالية منذ تأسيسيها وفق المتغير السياسي والاجتماعي للبلد، في السبعينيات تخلص من المباشرة والخطابية، وفي الثمانينيات تخلص من عشوائية الإخراج وهواية التمثيل، وبدا بتشكيل تجربته المميزة من خلال عروض مشاكسة خلقت علاماتها المسرحية بعيداً عن فهم السلطة وخطابها التعبوي، عبر عروض إدانة الحرب وغطرسة السلطة، عروض ابتعدت عن تعبوية السلطة ورجالاتها، ومؤكد هذا لا ينطبق على كل العروض، فللسلطة رجالاتها الفنية، لكننا نقصد العروض التي سادت في تلك المرحلة، وفي التسعينيات استمرت العروض المشاكسة والمناهضة للسلطة وفق خطاب مسرحي جمالي ويحتفي بالإنسان العراقي وتداعيات الحروب والحصار وحماقات السلطة، وما بعد 2003 اختلف العرض المسرحي العراقي شكلاً ومضموناً، ساد فيه استخدام اللهجة المحلية لإيصال الوجع اليومي بدلاً من لغة متعالية تهتم بالشكل والصرف والنحو، جيل جديد ذو ثقافة جديدة لا تنتمي الى أي جيل من الأجيال التي سبقتها ولا تنتمي إلا لزمن وجودها، وبالتالي تشكل سمة مهمة في مسيرة المسرح العراقي، بالإضافة إلى تجربة صلاح القصب في مسرح الصورة لأنها تجربة منفلتة في زمنها عن ماهو سائد آنذاك، ولعل السمة الأبرز استمرار وديمومة المسرح العراقي ورجالاته رغم كل الظروف التي يمر بها البلد، وتواصل الكثير منهم بالعمل رغم العمر مثل استاذنا الكبير الراحل سامي عبد الحميد، لكن ما يؤسف توقف الكثير من المسرحيين الذين نشطوا مسرحياً قبل 2003، ولكن بعد التغير توقفوا نهائياً وتحت أسباب غير مقنعة، وكأن نشاطهم مقترن بفترة زمنية محددة. وبدأ نرسخ الوهم بأهمية وجودنا، وتتضخم نرجسية مقيتة، لا يمكن أن تصنع مسرحاً متطورا ومائزاً.

هل نحن صناع الوهم؟ نعم نحن صناع الوهم بامتياز، نتوهم نجاحات، نعطي أهمية لجوائز سطحية، ندافع عن الفاسدين بضراوة وفق علاقتنا الشخصية بهم، نسقط بعضنا البعض، نهمش منجز بعضنا البعض، تسود بيننا اللامحبة، عندنا فائض كبير من الكراهية…نتوهم بأننا نتقدم، ونتطور، بينما العكس صحيح، نتوهم بأن ما نقدمه لم يسبقنا إليه أحد، وأن عروضنا متقدمة ومبهرة، نتوهم بأننا أصحاب مشاريع ريادية في المنطقة، بينما نحن في المؤخرة، نرجسية مقيتة، نتوسل بطاقات الدعوة للمهرجانات، ونتحدث عن مكانة وإرث وتاريخ المسرح العراقي، لكننا نتوسل برؤساء المهرجانات والصغار من أجل دعوتنا، نتحدث عن احترام الفنان العراقي واهميته، نحمي الفاسدين والسراق والصداميين، ونخرج نتظاهر ضد الفساد والمفسدين، نساهم بخراب المسرح والثقافة، بسكوتنا عن اللصوص والفوضى، وهذه شراكة حقيقية بالخراب، ومع ذلك نخرج في الفضائيات نتحدث عن المثالية … نقيم مهرجانات ضعيفة فنياً وجمالياً، ونصرح بأننا أسياد المنطقة…نتبجح بالتقشف ونطفئ أضواء المسرح الوطني، وتذهب وفود لإقامة اسبوع ثقافي بائس وفاشل فنياً يصرف عليه الآلاف الدولارات .. نصرخ بالتقشف، ويتحدثون سراً وعلناً عن السراق والفاسدين، يتحدثون عن أهمية البناء والإعمار، ولكن في بيوتهم ومشاريعهم الشخصية فقط، وليس الفن والثقافة، عن أي مسرح نتحدث؟ مازال هناك بعض المجانيين بالصدق والنبل يحلمون بتغير هذا الواقع المؤلم، لكنهم بلا داعم من أجل تغير ذلك وتحقيق مطالبهم، علينا أن نفكر كيف نتطور، ومن ثم نفكر بالجوائز، الجائزة لا تعطي أهمية لمشروعك، لأنها مزاج وذائقة مجموعة أشخاص، بل الجائزة الحقيقية عندما نقدم تجارب مختلفة، مشاكسة وعياً وجمالاً وثقافة، علينا أن نعترف بأننا نتراجع، وهذا ليس عيباً، بل العيب أن نستمر بصناعة الوهم.

بعد تغير النظام عام 2003 سعت السلطة الجديدة لتهميش وإقصاء الفن من اجندتها كونها سلطة ببدلة وربطت عنق ولكن بمرجعية دينية ولهذا واجبها الشرعي لا يعطيها الحق بدعم الفن والفنانين، ولهذا ميزانية وزارة الثقافة صفرية، وهي وزارة غير سيادية، و وزيرها يأتي عبر المحاصصة الطائفية، لم تقدم للفن والثقافة شيء يذكر، مشروعها الوحيد ( بغداد عاصمة للثقافة العربية) مرغمة عليه كونه يعيد تأهيلها سياسياً داخل المنطقة العربية، وبحجة هذا المشروع سُرقت الملايين من الدولارات من قبل رجالات السلطة وأحزابها، لم تبنِ مسرحا أو مكتبة أو دار عرض سينمائية، سلطات عاشت على الهامش وفجأة وجدت نفسها تمتلك العراق كله، مهزلة حقيقة، ولكن الشيء الاكثر أهمية هو الحرية، التي تمسكنا بها بعد التغيير والتي لا يمكن المساس بها، الكثير من الأعمال المسرحية التي تقدم في العراق لا يمكن تقديمها في الكثير من البلدان العربية، وخير دليل على ذلك مسرحية ( ستربتيز) ومسرحية ( يارب)، و كنتُ ممثلاً بالأولى، الحرية التي من خلالها سيعيد الشعب ترميم بيته السياسي، عبر جيل سياسي جديد يحمل الهم الوطني ولا يشبه نظام صدام ورجالاته، ولا الأحزاب الدينية الحاكمة الآن والتي ارجعت البلد عقود إلى الوراء، كيف تريد للفن أن ينهض في بلد ما، ورئيس وزرائه يغادر القاعة بعد بدء الفرقة السمفونية بالعزف؟ كيف تريد لمسرح أن يتطور ولا يحضر عروضه وزير ثقافة جاء الى الوزارة عن طريق المحاصصة الحزبية والطائفية؟

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top