أمواج عبد الله إبراهيم.. السيرة حين تكون نصّاً

أمواج عبد الله إبراهيم.. السيرة حين تكون نصّاً

عارف الساعدي

لا أظنُّ أنَّ ناقداً غامر وكتب سيرةً ذاتيةً له، فليس فيها ـ في العادة ـ ما يُغري لكتابة أحداثها، وهذا ما ذكره الدكتور "علي جواد الطاهر" في أولى صفحات مذكراته،

فقد اعتدنا أنْ نقرأ مذكرات لفنانين، وشعراء، وسياسيين، وإعلاميين مشهورين، ولكنْ أنْ نقرأ سيرة لناقدٍ ومفكرٍ وأستاذٍ جامعي، اجتمعت فيه الصرامةُ ملقحةً بالمناهج النقدية الحديثة، والتي تتسم بالحدة أيضاً، مما أضفت على شخصية صاحب الأمواج الدكتور "عبدالله إبراهيم" كثيراً من الجدية والحدة والصرامة، وهو نفسه يقول عن شخصيته (لم يلمس أبي خديَّ بتحنان، وما ضمَّني إليه، وما تسرب إليَّ منه أيُّ عطف، فربما أكون ظلاً له، بل أنا كذلك)ص21. 

لهذا فإنَّ المتلقي سيصطدم ويتفاجأ بأنَّ خلف هذه الصرامة شخصيةً في غاية الوضوح، وإنَّ الأستاذ الجامعي الذي يتحرك ويتحدَّث بالمثاقيل، ويحسب لكل شيءٍ حساباً، ها هو الآن في مذكراته، يتحدث عن غزواته الجنسية، وعلاقاته المشتبكة مع النساء، والأدهى من ذلك تعداده لأسماء من أحبَّ وارتبط بهن ــ وربما كانت بعض الأسماء وهمية ــ لهذا شكَّلت هذه السيرة نقلةً مهمةً في اعترافات المثقفين العراقيين، فأممواج ذلك الكتاب الذي ذيَّله عبدالله إبراهيم بـ "سيرة عراقية" يشكل ــ كما أظن ــ أحد أهم مصادرنا الحديثة حول ما جرى في حقبة من حقب العراق المعاصر، ففيه يطلع القارئ بشكلٍ واضحٍ وجليٍ على رؤية المثقف العراقي للمناخ السياسي، وما يدور حوله سابقاً وحالياً، دون أنْ يشعرك كاتبُ الأمواج أنَّه يميل إلى جهةٍ دون أخرى.

كما تعالج هذه المذكرات بوضوح أيضاً ودون مواربة، أو خجل، ما دار من صراعٍ طائفيٍ وقوميٍ في البلاد قبل خمسين عاماً، وإلى الآن، لأنَّ المثقفين ــ عادة ــ ما يغضَّون النظر بحياءٍ حول موضوعة الطائفية، إلَّا إنَّ عبدالله إبراهيم مرَّ عليها بشفافية عالية، فضلاً عن رؤيته للوسط الثقافي شعراً، وسرداً، ونقداً، وتعليماً جامعياً، إذ تتضح رؤية عبدالله إبراهيم من خلال أمواج أكثر من أيٍّ من كتاباته التي ناهزت الخمسين كتاباً، فجلُّ كتبه التي استنطق التاريخ، والمدونة السردية العربية، وغاص فيها محللاً ومنظراً، وكاشفاً عن أنماط وآليات السرد العربي، ومفككاً المنظومة الثقافية العربية وفاتحاً شبابيك المركزيات المهيمنة وهيمنتها على الهامش، من خلال المدونة الدينية والسردية، أقول كل ذلك حسنٌ ومهمٌ، وقد حصل على جوائز كبيرة، ومهمة حول أعماله النقدية والفكرية، إلَّا إنَّ أمواج اتخذت مساراً آخر أكثر حميميةً وصدقاً، فأنت أمام عبدالله إبراهيم الطفل، واليتيم، والفلاح، والطالب المنسيُّ، والمتعب، الذي ترك المدرسة بسبب عضة كلب (وجدتني في أول خريف عام 1963 التحق بحفنة من الطلاب متوجهين إلى مدرسة طينية في قرية "المرة" وفي اليوم التالي أرسلتني أمي إلى بيتٍ في طرف قريتنا فيه طالب متقدم ليرشدني إلى ما يجب فعله، وما إنْ غادرت بيتهم حتى دهمني كلبهم الخلاسي، وحاصرني في زاوية، ثم اقتحمني هائجاً، فإذا بالدم يغمر بطني، وحُملت إلى الببيت فزعاً، فقررت أمَّي إيقافي عن شيء تفترسني الكلاب من أجله، فانتهت تجربتي المدرسيةية الأولى بعد يوم واحد)ص33، ولأول مرة يظهر الإعتراف وكأنَّه جالسٌ أمام كرسيه، لتندلق لغتُه بحميمية الهارب من ضغط أربعين عاماً من البنيوية، والأسلوبية، والتفكيك، والتأويل، والتلقي، والنقد الثقافي، إلى نظريات السرد، وكأنَّه وصل مرحلة ا الإنفجار الحميمي الذي ظهر فيه عبدالله إبراهيم عارياً أمام لغته، فانسكب كلُّ شيءٍ بلغةٍ عاليةٍ، وهنا تتحول "أمواج" من كونها كتاب مذكرات إلى نصٍ لغويٍ فخمٍ وحميمٍ ــ في الوقت نفسه ــ بحيث تضيع الحدود الإجناسية لشكل الكتاب. 

ذلك إنَّ الكتاب تداخلت فيه أجناسٌ عدة، ففيه السرد الروائي، وكأنَّ عبدالله إبراهيم أراد أنْ يعوَّض ما فاته من كتابة القصة والرواية، وفشله فيهما كما يذكر هو نفسه في أمواج، وهو الذي كتب أول رواية في حياته، ولكنَّها كانت من صفحة واحدة، فجوبه بالطرد والتعليقات المؤذية ، إذاً السردية تتجلى واضحةً في الكتاب، بأحداثها، وشخوصها الحقيقيين، من دم ولحم، فقد برم عبدالله إبراهيم ـــ كما يبدو ــ من الشخصيات الورقية التي حلَّلها وقرأها، وكتب آلآف الصفحات عن شخصيات ورقية، لهذا فقد احتشدت أمواج بعشرات الشخصيات الحقيقية، التي تكتب، وتشرب الخمر، وترقص، وتبحث عن النساء، وتقتل، وتكتب الشعر، وتكذب، وكل شيء، ومعظم تلك الشخصيات معروفة خصوصاً الكتاب والشعراء والسياسيين، الذين يرد ذكرُهم في أمواج، فضلاً عن تداخل الأزمنة فيه، فهو لم يكن مخلصاً للتسلسل الزمني، إذ يتحدث عن طفولته ولكنَّه فجأة يربطك بمزرعته التي قُصفت، ومكتبته التي أحترقت، وبميليشيات كوردية هيمنت على أراضيه، وأراضي أهله وأجداده.

وفي أمواج آراء نقدية غاية في الدقة والإنضباط، ولكنَّه انضباطٌ غيرُ منهجيٍ، إنَّما جاء عفو الخاطر، حيث ترد آراء نقدية لعبد الله إبراهيم وفيها أحكام معيارية، وهو الهارب دائماً من الأحكام المعيارية، إلَّا إنَّ طبيعة تأليف هذا الكتاب، فتحت الكوى له في أنْ يُطلق أحكامه بكل أريحية، وأنْ نتلقى تلك الأحكام دون أنْ نشعر أنَّه قد ظلم ذاك الشاعر، أو أطلق حكماً في غير محله، فبكل رشاقة يسرد ــ مثلاً ــ حياة "جان دمو" ويورد شتائمه البذيئة، وسرقاته للكتب، ومن ثم يعرَّج على شعره، وهنا لا يتنازل عبدالله إبراهيم عن مهمة الناقد، ولكنه الناقد الذي يطلق صرخته دون قيود (أصبح جان دمو ظاهرةً في الثقافة العراقية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وقرأت ما كتب وترجم فلم أجد فيه قيمة أدبية مميزة، وهو على أية حال لم ينخرط في الإدعاءات الشعرية)ص90.

فضلاً عن آراءه في جماعة كركوك الأولى والثانية، علماً إنَّه ينتصر للأولولى إبداعياً، وإنَّ حظَّها من الشهرة والإبداع فاق الثانية، ففي هذه الأمواج وقد كان الاسم مشابهاً تماماً لما كُتب في المتن، حيث تموجت الرحلة، وتداخلت الأحداث، وعرفنا الصبي الذي عشق فشرح لنا طعم القبلة الأولى، دون خوفٍ، أو قيود اجتماعية، أو دينية، إنَّ هذا البوح الحميم دفعه أنْ يُعلن تمرده على كل الأنساق التي كان يدور في تحليلها في كتبه النقدية، فالقبيلة قد تمرد عليها، وعلى عاداتها، ولم تعد تشكل له أيَّ حافزٍ، بل يعدُّها عاراً، والدين والطائفة لا تشكلَّان لديه أيَّ أهميةٍ تُذكر، بقيت مسألة واحدة يلح في ذكرها وهي مسألة العروبة والقومية العربية، ذلك أنه يورد بأكثر من نصف الكتاب مذكرات مدينة كركوك تلك الخلطة العراقية من التركمان والكورد والعرب والسريان والآثوريين، فعبدالله إبراهيم ابن الرياض والحويجة، في أطراف كركوك، حيث القرى العربية المزارعة، يشدد على أهمية كونه عربياً وغير نازحٍ لكركوك، بوصفه إبناً أصيلاً، أو ركناً مهماً من أركان هذه المدينة، التي يتبرم منها الآن، ومن سيطرة الكورد عليها، دون أنْ يغفل ما فعله نظام "صدام" في نهاية الثمانينيات، حين فتح كركوك للعرب من الوسط والجنوب، وأغراهم بالبيوت، والمنح، والقروض، وكل شيء ليُسهم بتغيير ديموغرافية المدينة، وهاهم الكورد يفعلون ما فعله صدام بتغيير ديموغرافية كركوك، ونقل قرى بكاملها، وتحويلها إلى كوردية، كما يورد عبدالله إبراهيم في أمواجه، فالسياسة تنهش المدينة، وتخرب كل شيء فيها، تلك المدينة القابعة على بحار من النفط، والبشر المتنوعين ما بين الأديان والقوميات والطوائف.

تأتي أهمية هذا المذكرات في أنها لم تكن مذكرات خالصة لسيرة كاتب أومفكر أو أستاذ جامعي، إنما هي سيرة أي شخصٍ منَّا، وربما مرَّ بنفس الأحداث التي مر بها عبدالله إبراهيم، ولكن هنا تكمن الأهمية في أنَّ اللغة التي يمتلكها بإمكانها أنْ تتصنع من الهوامش والأحداث العادية مادة في غاية المتعة، وكأنَّك تتابع رواية محبكة بخيطٍ سرديٍ هائل، وهذه واحدة من المذكرات التي تبث الفكر والمعرفة والرأي الواضح، وقد كتبت مذكرات أخرى تقع قريباً من هذه الزاوية في تحولها ومعالجتها للأحداث، فقد كتب فلاح الجواهري كتابه (ما ترك الشاعر للريح) وكتب أيضاً الدكتور المفكر عبدالجبار الرفاعي كتابه (الدين والظمأ الأنطولوجي) حيث يسرد آراءه في الدين والحياة من خلال مذكراته، وأعتقد ان مثل هذه الطريقة في الكتابة والتأليف تكون أقرب إلى القلب وبإمكان الكاتب أن يبث آراءه من خلال تلك المذكرات بطريقة تلقائية وعفوية فتكون أكثر تقبلاً من بثها في كتب ذات منهجيات معقدة ربما. 

أعود الى امواج فأمواج ليست مذكرات فقط انما هي عبارة عن سرد مرتبط بخيط شيق فيه من غواية الرواية ومتعتها ما يسحب القارىء خلف اللغة وسرودها، وفي الكتاب ايضا نقد كثير، نقد أدبي للرواية العراقية والقصة والشعر من خلال المرور بشخصيات أدبية والتعليق على منجزهم بأريحية عالية، وفي أمواج آراء سياسية في ما حل بالعراق من سيطرة البعث إلى الحروب إلى الحصار إلى الاحتلال، إلى صعود الأحزاب الدينية إلى الإرهاب ومقاومته، ففي كل ذكرى يوردها عبدالله إبراهيم هناك رأي نقدي واضح دون مواربة ازاء ما يدور حوله، وفي أمواج اعترافات لأول مرة يتضح إنَّ الأكاديمي المنضبط والمنهجي الحريص يغوص ويدور خلف السينمات وأفلام المراهقين، وحالات الحب، ويمر على ذكر الصبايا اللواتي مر عليهن وقبَّل شفاههن بكل أريحية، كماما في أمواج اعترافات بجملة اخفاقات مر بها في كتابة الشعر وكتابة القصة والرواية، وها هو أحد المتربعين على عرش النقد الأدبي، ممسكاً بالسرد العربي قديمه ومعاصره، ومفككا كل مغاليقه وسردياته، لينتج أكثر من خمسين كتاباً في حقل المعرفة والنقد والأدب، وها هي أمواج تشبه الخيط الذي يضم مسبحة عبدالله إبراهيم الثقافية. 

تعليقات الزوار

  • حميد أكرم

    ابداع مختصر سيرة هل يوجد نسخة من الكتاب على شكل bdf

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top