اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > حدود الغربة

حدود الغربة

نشر في: 9 يوليو, 2020: 08:14 م

د. فلاح الحسن

يراودني شعورٌ غريبٌ بالانعتاقِ غير المكتمل أو بالأحرى الحرية المنقوصة، شعورٌ بالخلاصِ يشوبه توجسٌ وخيفة. هل خرجتُ من زنزانتي ومدن خَيّمَ عليها الألمُ والحسرة، ام هو وهمٌ للإفصاحِ عن هواجسِنا الداخلية ثم نُعادُ اليها؟ 

تتوجه الحافلةُ الى النقطةِ الحدوديةِ الأردنية بعد أن انتهتْ إجراءاتُ الخروجِ في الجانبِ العراقي. المطباتُ والحفرُ في الشارعِ الرابط بين الحدين يجعَلَها تتحركُ ببطءٍ ملحوظ، يتصاعدُ صوتُ المحركِ مُعلناً عن كثرتها وحاجته لِعزمٍ أكبر لتجاوزها فيحتضنُ الغبارُ الحافلةَ وكأننا ندخلُ عاصفةً ترابيةً بسبب عدمِ وجودِ الاسفلت. 

ما بين ألم الفراقِ وفرحةِ الخلاص والشعور الوهمي بالحريةِ التَفِتُ خلفي مودعاً الحد العراقي فلم أرى سوى صورة الرئيسِ التي تَطغى على كل المباني المجاورة حتى أكثرها ارتفاعاً، مشهد الصورة الأخير الذي بقي عالقاً في الذاكرة بعد أن لازمتنا عشرات السنين، كنا نراها في كلِ مكان، على أغلفة الكتب المدرسية وفي الصفحة الأولى لكل الجرائد والمجلات كما أنها معلقة في المؤسسات الحكومية وعند بوابات الدخول إليها ، تستقبلك في كل الممرات والقاعات وغرف الاجتماعات حتى في رياض الاطفال. أما الشوارع فالصور فيها تزدادُ حجماً وتأخذُ فراغاً أوسع وتتركُ في الروحِ شرخاً يكتمُ الأنفاس، تُلغيك من الجذور، تلتَهِمُ أيامَك كلها، فالحياة كُلها تَدورُ حولها! أنها تختصرُ كل شيء، الماضي المسروق والآتي المظلم وخطواتك التي تَعتقدُ انها تأخذك الى المستقبل لكنها في الحقيقة تعودُ بك الى الصورةِ ذاتها، ساعة تراهُ مرسوماً على جداريةٍ مبتسماً ضاحكاً عليك ومنك، كالقضاء المحتوم وفي أخرى لابساً قبعته الافرنجية رافعاً يمينه كخنجرٍ يَختَرقُك من أخمصِ قدميك صعوداً مُقَطِعاً أيَ أملٍ يُمكنُ أن يُعيدَ هذه الأرض الى عهدِها السابق، بعدما اختطفها ماردُ الظلام وأصبحت بلقعاً تُنذر بالانفجار المر.

أستديرُ الى واجهةِ الحافلة فيزدادُ ألألمُ كسكينٍ تخترقُ أحشائي وتُصدر حشرجة موتي المعنوي. نترجلُ من الحافلة ونتجهُ الى شباك القادمين بعد أن وصلنا نقطة الحدود المقابلة، ننتظرُ تأشيرةَ الدخولِ التي يضعها موظف الحدود ليبدأ مشواري متعدد الأشكال والألوان، تمتدُ يده كأخطبوطٍ تَسحبُ جوازي من فتحةٍ أسفل النافذة، ينظرُ محدقاً ومدققاً فاتحاً عينيه على وسعِهما وهو يُقلبُ صفحاته:

- كم ستبقى في البلد؟

- مجرد عبور، أياماً معدودات أُكمل فيها أوراقي ثم أُغادر

- أغلب القادمين يقولون هذا.

يُقلبُ الصفحات البيضاء الخالية إلا من أرقامِها في أسفلِ كل صفحةٍ

- زيارتك الأولى؟

- نعم

يضعُ ختمه على الجواز ويدفعه نحوي وفيه إقامة لمدةِ ثلاثة أشهر تُمنح لكلِ الوافدين من أرض السواد. كم استوقفتني هذه العبارة- الاقتران الدائم بين اللون الأسود وهذه الأرض!!! سُميت أرض السواد لكثرةِ أشجارها ونخيلها. بقيتْ الأرضُ ذاتها وتغيرتْ أسبابُ السوادِ، فلا نخيل يُغطيها ولا سعف يُظللُ أديمَها ولا تمر يُحلي أغانيها ولياليها حتى فسائله بيعت، وطغى الأسود الفاحمُ على تفاصيلِ الحياةِ ووسماً مُلازماً لأهلِها وأكثرَ قرباً من أي وقتٍ مضى . وأضحتْ أرضُ السوادِ لقلةِ نخيلها وكثرة الموتِ فيها . أصبحَ هذا اللون يطرزُ حياتَنا ، يَعيشُ معنا، يَنتظرُ كلَ لحظة ليكونَ حاضراً مع أولِ صرخةِ ثكلى فَقَدتْ زهرتَها على أعوادِ المشانق أو على جبهاتِ القتالِ المتعددةِ والمستمرة لِتَبتَلِعَهُ تحت ثراها لِيُزهرَ ورداً لم يره أحد من قبل! يتقاسمُ معنا أجسادَنا الذابلة يَعتاشُ على المتبقي من أرواحِنا المهشمة، مع خفقانِ القلوب الموجوعة المرتعشة.

كلُ شيء أسود يَعنيني ولا يَعني غيري، هو لي، وأنا الوحيدُ الذي يعرفُ لغته وشكلَه الحقيقي بين الألوان، لن أهربَ منه فهو ملاصقٌ لي متغلغلاً في كلِ خلايا الجسدِ حدَ النخاع .

فيا أيها الأسود الموروث ماتَ الوارثُ على اعتابك المشؤومة ولم يَعُد إلا بقايا روحٍ أفرغت صبرها جيلاً فجيلاً وهي تنشدُ السلامَ على هذه الأرض التي اقتَرَنتَ بها. 

نعم، أرضُ السوادِ بمعناها الجديد، بعد أن تجردتْ من زينتِها ولونِها الأخضر المفقود والمغروس في أبعدِ حبةِ رملٍ رستْ عليها سفينةُ نوح وارتدتْ الأسودَ الموغلَ في الحزنِ والجاثمِ على صدرِها يَسنُ سكينه الصدئة برقبتِها البيضاء كالثلج. يَستَصرخُ فيها سنيها العجاف والدم المسفوك على أديمِها عبثاً، نَخِيلُها الشامخ باعهُ خَزنَتُها الى صحراء الخليج مقابلَ حفنةٍ من الدولارات، باكياً يمطرُ تمراً وهو محمول على ظهرِ الشاحنات متوجهاً الى المنفى جنوباً. 

أخرجُ من الصفِ مبتعداً بَعدَ أن أخذتُ جوازي وسرتُ أقلبُ بصري في الدكاكين الصغيرةِ على جانبي النقطة الحدودية. ها هي المشروبات الغازية والحلويات والمعجنات التي أصبحتْ من علاماتِ الترف لدينا يعلوها التراب على رفوف المحلات! اقتربتُ من تلٍ صغير من أكياس حليب الأطفال على جانب الطريق ويقف قربه عددٌ من المسافرين مع ضابط الجمارك:

- أطفالكم أحوجُ الى هذا الحليب فأنتم تعيشونَ الحصار فلماذا تهربونه وتَحرِمونَهم منه؟ 

دوتْ كلماتُه كرصاصٍ يخترقُ سمعي وشعرتُ بضحالةِ الواقفين أمامه مُطأطئي رؤوسهم دون رد، لم يتفوهوا بشيء. كانت كمية الحليب المصادرة من السواق والمهربين تحت مسمى مسافرين كبيرة.

احترقَ وجهَ الطفلِ المرسومِ على كيسِ الحليب وغابت ضحكته وصارت رماداً بسببِ النار المشتعلة في البضاعة المصادرة، بعد أن أشعلَ الضابطُ عودَ ثقابٍ ورماه فيها بعد وضِعها في حاويةٍ حديديةٍ وذهبتْ أدراجَ الريحِ محاولاتهم لإغرائه بما يُمكنُ أن يحصلَ عليه من أموال مقابلَ أن يَغُضَ الطرفَ عن الكمية المهربة ، أساليبٌ اعتادوا عليها في الجانب العراقي من الحدود، لكنها فشلتْ في الجانب الثاني منه ، أضاءتْ النارُ المشتعلةُ وجوههم الكالحة ونظراتهم المتوسلة وهم يقفونَ مذلولونَ أمام ابتسامةِ الطفلِ على كيس الحليب والنار تنقض عليه. 

عدتُ إلى الحافلةِ كمن حققَ نصراً على عدوٍ غير مرئي، لتنطلقَ تاركةً خلفها بقايا الروح منتشرة على أسوارِ الوطن المُختَزلِ بكمٍ هائلٍ من الصور!!! يُحيطُ الظلامُ بنا وتختفي الأصواتُ الهامسةُ هنا وهناك ويَلتَهمُ هديرُ محركِ السيارة آخِر التنهدات وأنامُ بنصفِ عينٍ مغمضةٍ ونصفِ وعيٍ أفقدُ معه إحساسي بالمكانِ والزمانِ وأنتقلُ إلى عالمٍ ثانٍ. 

توقظني أشعةُ الشمسِ الساقطة على وجهي من النافذة، فتحتُ عيني على أحجارٍ صخريةٍ سوداءٍ صغيرةٍ تُحيطُ بجانبي الطريق ذي المسار الواحد، الطريق تختلفُ عنها في العراق حيثُ كانت بثلاثةِ مساراتٍ لكلِ أتجاه مع صحراء مُنبسطةٍ على الجانبين، وهذه بمسار لكل أتجاه ذهاباً واياباً ، سوادُ الصخورِ وَلّدَ عندي تساؤلات اعادتني الى التاريخِ الموغلِ في القِدم، بَعضُها مضحك مثلَ إمكانية أن تكون هي الصخور نفسها التي نزلتْ من السماء على قومِ لوط لذلك هي سوداء بعد أن كانت ناراً حامية!!!

البيوتُ العاريةُ المتباعدةُ والمطاعم المهلهلة مع بعض الشجيرات الخضراء تجعلُ الطريقَ الى العاصمة أكثرَ طولاً ومللاً ورتابةً.

*****

توقفتْ الحافلةُ وأحاطَ بها عددٌ من الأشخاصِ الذين يمتهنون تجارةِ الموادِ المهربةِ التي يَجلِبُها المسافرون، بَعدَ أن وصلنا محطتنا الأخيرة في قلب العاصمة عمان. تَرجلنا وأخذنا حقائبَنا شبه الفارغة إلا من ملابسِ النومِ وأدوات الحلاقةِ. 

- أين البحارة؟

نادي أحد المجتمعين عند باب الحافلة بصوتٍ شبهِ مرتفعٍ باحثاً عن السائق ومساعده ، عن أي بحارة يبحث ولم نرَ قطرةَ ماءٍ على طول الطريق الذي قضينا فيه ليلنا كله وأكثر من نصف النهار! فضولي جعلني أسألُ أحدَ المسافرين:

- عن أي بحارة يسأل ، ونحن وسط العاصمة؟

أجابني ضاحكاً:

- البحارة هم مهربو الوقود، يعني سواق الشاحنات وكل أنواع السيارات الأخرى الذين قاموا بتحوير خزانات الوقود وجعلوها تتسعُ لكمياتٍ أكثر من حاجتِهم الفعلية ليبيعوا المتبقي منها في السوق المحلية. 

ابتسمت بوجهه مبتعداً بعد أن شرد ذهني باحثاً عن سببِ اختيارِ هذه المفردة دون سواها لتكونَ كلمة السرِ لتُميزَ مهربي الوقودِ عن غيرهم! هل كون العراق عائماً على بحرٍ من النفطِ هي السببُ وراء هذه التسمية؟، وهم بحارته وقراصنته وصناع القرار فيه بعد أن غادره المتبقي من مثقفيه ومبدعيه ومفكريه الى المنافي! لم يدمْ تفكيري طويلاً بعد أن بادرني أبو أدهم بسؤاله:

- إلى أين نذهب الآن؟

لم أجدْ رداً على سؤاله، وجلسنا على رصيفِ الشارع بعد أن انفضَ المسافرون و (البحارة) والوسطاء وتجار المواد المهربة الأخرى وهم يَجرونَ حقائبَهم الممتلئة، نُفكرُ بإيجاد مخرجٍ لما نحنُ فيه. أين نقضي ليلتنا الأولى هي شغلنا الشاغل، لا مال نمتلكه لنسكنَ في فندق أو نستأجرَ شقةً سكنية! 

قررنا الذهابَ الى أحدِ اصدقائي من أيامِ الجامعة وَصَلَ قَبلنا، ويسكن في منطقة "الوحدات" أحد الاحياء الفقيرة في العاصمة.

*****

غرفةٌ واحدةٌ يَسكنُ فيها مجموعة من الشباب العراقيين المقبلين على الحياة والهاربين من مدن الخوفِ والجوعِ والحزنِ المتوارثِ لعقود. كلُ واحد لديه قصة، هذا يريدُ اللجوءَ الى بلدٍ أوروبي وذاك يبحثُ عن عملٍ ليؤمّنَ لِأهلهِ ما يسدون به الرمق وثالث لا يعرفُ بالضبط ما يفعل فجاء باحثاً عن بصيصِ أملٍ للخلاصِ. تنوعتْ واختلفتْ أهدافهم وجمعتهم الغربة، تَعرفنا على بعض دونَ الدخولِ في تفاصيل إضافية، بعد أن استقبلنا صديقي بصدرٍ رحبٍ وتناولنا معه العشاء وقضينا عندهم ليلتنا الأولى. 

نَزَلنا الى مركزِ المدينة صباحَ يومِنا الأول لمُشاهدةِ معالمها. لا أنسى ازقتها فما رأيت وما سكنتُ قبل اليوم مدينةً تقعُ على مرتفعٍ أو سفحِ جبلٍ فكيف بي وأنا أسيرُ في شوارعِها المتعرجة نزولاً الى وسطِ المدينة. كنت أشعرُ وكأن أحداً يركلني على مؤخرتي وأنا أهبطُ من أعلى الشارعِ الى أسفله!!! لم نملك ثمنَ التنقلِ بالحافلةِ أو أي واسطة نقلٍ أُخرى لذلك ذهبنا سيراً على الاقدام. لم يكن سيراً بل أشبه بالهرولةِ بسببِ المنحدرات القوية في أحيان كثيرة. كنا نضحكُ ونعلق على هذا السير غير المألوف، أحذيتنا لا تتناسب وهذه الشوارع بسببِ ارتفاع كعوبها قليلا. لم نكن نعرفُ كم من الوقت يستغرق الوصولُ الى المركز؟ 

ها هو المسرح الروماني المعروف قرب الساحة الهاشمية حيث تحيط ُ الجبالُ متوسطة الارتفاع وسطَ المدينةِ وتنتشرُ البيوتُ على سفوحِها وعندما يَحلُ الليلُ تتحولُ الى حقلٍ من المصابيح الذهبية تلتفُ عليك من كلِ جانبٍ. تَشدُني المحلاتُ المضاءةُ والمقاهي والمطاعم التي تُقدم الأكلات الشعبية، لكني لا أستطيعُ الجلوسَ فيها والاستمتاع بأكلاتها رغم رائحتها الزكية التي تشمها من مسافةٍ بعيدةٍ لتعذر دفع ثمنها. تذكرتُ حكايةَ الاعرابي الذي جلسَ قربَ بائعِ المشويات ويأكل خبزاً فارغاً فسأله البائع: 

- ماذا تفعل يا هذا؟

- أكل خبزاً مع رائحة اللحم المشوي.

- عليك أن تدفع ثمن الرائحة.

فأخذ الأعرابي قطعةَ نقودٍ ورماها على الأرض وسأل البائع:

- هل سمعتها؟

- نعم

- هذا هو ثمن رائحة اللحم المشوي في مطعمك.

ابتسمتُ وواصلتُ المسير في شوارعِ العاصمة القديمة ورائحة القهوة العربية تملأُ المكان بسبب كثرة المحلات التي تبيعها. 

كانتْ جولة استكشافية محضة، وقد أدهشني عددُ العراقيين الكبير في المدينة وحكاياتهم حيث امتزجت الغرابة والتفرد في بعضها والألم والحزن في بعضها الآخر. أغلبهم يسكنون في المناطق الشعبية لكلفتها القليلة وكذلك إمكانية أن يتجمعوا في بيتٍ واحدٍ لتقليلِها أكثر. كانتْ المناطقُ الشعبية في أغلبها مخيماتٍ يقطِنُها النازحون الفلسطينيون ليجتمعَ الهاربُ من الاحتلالِ مع الهاربِ من الموتِ بسيف القمعِ والاضطهادِ والجوعِ! رجعنا من جولتِنا الاستطلاعية كما ذهبنا سيراً على الأقدام.

تزامنَ وصولُنا العاصمة مع بداية شهرٍ جديدٍ، لذا طلبوا منا بعدَ العشاءِ أن نقررَ اما البقاء ودفع حصتنا من أجور السكن أو المغادرة الى مكان آخر. كلا الخيارين مر، ويَصعبُ علينا تنفيذ. طلبتُ من صديقي أن يمهلني الى الغد، لنجدَ حلاً للبقاء أو المغادرة. 

في صباحِ اليوم الثاني توجهتُ الى "جبل النصر" حيٍ شعبيٍ آخر برفقةِ أبي أدهم للبحثِ عن "ماجد مطشر" جاري وصديقي وزميلي في المدرسة الذي يسكنُ العاصمةَ منذ فترة. أخذنا العنوانَ وذهبنا الى هناك وبالفعل عَثرنا على المنزل لكنه كان فارغاً من شاغليه نهاراً. انتظرنا لغايةِ العصر حتى يعودَ من عمله. عرفته عندما دَخَلَ الشارعَ من مسافةٍ بعيدةٍ نوعاً ما، فرائحة الجنوبِ التي تَختزلُ العراقَ كله حيث يصبُ كل ماءه فيه ومنه الى الخليج وتلك السمرة البصرية الجميلة ومشيته تجعلني أُميزهُ من بينِ كلِ المارة فشهقت هاتفاً:

- جاء ماجد

- أين هو؟

- ذلك الشابُ الأسمرُ في بدايةِ الشارع

عانقته بحرارةٍ فانا لم أره منذ أن عادَ الى البصرةِ مع عائلته بعد توقفِ القصف المدفعي للمنطقة التي يسكنها أيام الحرب مع إيران. 

- متى وصلت ولماذا لم تخبرني قبل ذلك؟

- لم يكن الوقت كافياً وكنت في عجلةٍ من أمري ولم أخطط لهذا السفرة كما ينبغي. كان قراراً غريباً بكل تفاصيله. 

قدمتُ له صديقي أبا أدهم وعرفته عليه

- تفضلوا الى داخل البيت

دَخلنا سويةً، وكان البيتُ عبارةً عن غرفةٍ واحدةٍ مثلَ السكن السابق ومطبخ صغير مع حمامٍ إن جاز لي تسميته حماماً! تبادلنا أطرافَ الحديثِ والشجنِ والشوقِ للأيامِ الخوالي في المدرسةِ والمحلةِ ووضعِ الاهل. خَرجنا معاً وطلبتُ منه أن نتحدثَ على انفراد.

- ماجد، ليس لدينا مكان نسكنُ فيه ولا مالَ لندفعه للإيجار

- تستطيع أن تسكن معي

- وماذا عن أبي أدهم؟

- لا أستطيع... رفاقي في السكنِ سيرفضون وجدوكم دون أن تشاركوا في دفع الايجار

- يا ماجد إما نبقى أو نغادر سويةً، لا أستطيع تركه لوحده

- أعطني فرصةً لِأتحدثَ مع رفاقي، سيأتون من العملِ ليلاً وأطرحُ عليهم الأمر، وسأرد عليك غداً. 

ودعته عائداً الى مقرِنا الأول بانتظار يومِ غد.

كما توقعته وعرفته لم ولن يتخلى عن طيبته وكرمه الجنوبي:

- انقلوا حقائبكم، وافق زملائي بعد اصراري على استضافتكما.

إنزاحَ همٌ كبيرٌ عن كاهلي بعد أن استقرَ بنا الحال مؤقتاً عنده. انتقلنا الى السكنِ الجديد ولم نواجه صعوبة تُذكر في الاندماجِ مع الاخوِة والأصدقاءِ الجدد وكلهم من مدينة البصرة. 

*****

أصبح أبو أدهم محور تحركاتنا وما يمكن أن نفعله مرتبط به ونتائج اتصاله بعائلته في أوروبا ليبعثوا لنا مبلغاً من المالِ وكذلك ليجدوا لي كفيلاً حتى أحصلَ على القبولِ النهائي في الجامعة:

- هل من أخبار جديدة يا أبا أدهم؟

- أتصلتُ بأهلي وسيرسلون لنا مبلغاً (حوالة) يكفي لسدِ احتياجاتنا اليومية إلى أن ينظموا سفرَنا إليهم. 

كنا بانتظارِ الحوالة الموعودة بفارغِ الصبر، لم يكن لدينا عمل آخر سوى الانتظار، بَعدَ ثلاثةِ أيامٍ ذهبنا للاتصالِ بهم من مركز المدينة وكان هناك عدد من الأشخاص ينتظرون ليتصلوا بأهلهم أيضاً بعضهم جالس داخل المكتب وآخرين خارجه مكونين حلقات صغيرة يتحدثون عن مواضيع شتى. تهاجمني صورُ الحرمان كلما رأيتُ عراقياً جالساً على رصيفِ الشارعِ في حالةٍ يُرثى لها وها هم مجتمعين قربَ مركزِ الاتصالات الهاتفية حيثُ يأتي أغلبُهم مساءً للاتصال بذويهم. تلك المشاهد تلاحقني في منامي ويقظتي، كل ما أراه يُعيدني الى هناك. 

- هل من جديد؟ 

بادرته بالسؤال حين أكمل أبو أدهم اتصاله:

- لا أحد يرد. 

بدأ القلقُ يتسربُ إلينا مع قربِ نفادِ ما معنا من مبلغٍ صغيرٍ نستخدمه للاتصال الهاتفي. اتصلَ أبو أدهم بقريبٍ آخَر لمعرفةِ أخبارِ أهله التي انقطعتْ: 

- ماذا أخبرك؟

- تعرضتْ عائلتي لحادثٍ وتم نقلهم إلى المستشفى

نزلَ علينا الخبرُ كالصاعقةِ ولم يَعُدْ هناك أي أمل بالحصولِ على دعمٍ ماديٍ أو إيجاد كفيلٍ لي كما تطلبُ الجامعة لمنحي مقعداً مجانياً فيها. تحولَ كلُ شيء الى مأساةٍ حقيقيةٍ ودخلنا في دوامةٍ جديدةٍ بعد فَقدِنا ما كُنا نبني عليه آمالنا بالخروج. تحولتْ فرحةُ الخلاصِ الى خيبةِ أملٍ في اجتيازِ الحاجز الثاني في مضمارٍ بدا للوهلةِ الأولى اننا حققنا فيه الكثير لكن ذلك لم يكن الا سراباً حسبناه عبوراً لمستقبلٍ أفضل. 

انطفأ بصيصُ الأملِ الوحيد في رحلتِنا الى العالمِ الجديدِ مع انتقالِ عائلة أبي أدهم الى المستشفى. تحطمَ على جدران هذه الفاجعة الشيء الوحيد الذي يَجعَلنا متمسكين بضرورةِ المحاولةِ وأن أمكانية الوصولِ واردة في معجمِ مفرداتنا. 

*****

تَتَسللُ أشعةُ الشمسِ إلى الغرفةِ الوحيدةِ في البيتِ لِتُنيرَ بعضاً من أطرافِها الأقرب الى الشباك، وأنا أغط في نومٍ عميقٍ، ينسابُ إلى سمعي صوتٌ يهمسُ باذُني:

- سترتي فوقَ رأسك وفيها مبلغٌ من المالِ تستطيع أن تأخذَ ما تشاء أذا احتجت.

- شكراً جزيلاً، دمت لي. إن شاء الله لن أحتاج

كلماتٌ على بساطتِها وقلتِها لكنها كانت تمثلُ كل طيبة أهلنا وكرمِهم ونكران الذات المتأصلِ فيهم. رغم الحاجة والظروف الصعبة، تسمعُ ذلك الصوت البصري يَعرضُ عليك كلَ ما يملك! ليس بعضاً مما يملك بل كلَ ما جناه أيام غربته وما جمعه ليكونَ زاداً للأفواه التي تنتظره هناك في معتركِ الموتِ والحياة بينَ من يصنعها وبينَ مَن يخنق أي نفس في هذه الأرواح الميتة رغم إنها تتحرك أمامنا كل يوم! الأرواح الممتدة على ضفافِ شط العرب وتداعبُ أمواجَ الخليج وماءه المالح الذي غزا بساتين النخيل ودسَ ملحَه في جذورها لتموتَ وهي تتلوى ألماً معلنةً عن لحظةِ الفراقِ في سنوات القحط المر. نخيلنا يغادرُ الجنوبَ كأبنائه يبحثُ عن أرضٍ أخرى عن طينٍ لا يمتُ بصلةٍ أو وشيجةٍ لأي سلطانٍ يعتاش على بيعهِ ويتاجرُ به في أسواق الصحراء ، يهجرُ أرضه التي نما فيها وعليها منذ فجرِ التاريخِ، أرسله أبناءه الى أرضٍ لم يألفها ولا يعرفُها بعدَ أن استخدموه جداراً واقياً من شظايا القذائفِ وقصفِ الطائراتِ ورصاصِ البنادق . فرطوا به بعد أن وضعوا دباباتهم تحت سعفه فكان هدفاً لكل أنواع القذائف. كان ضحيةَ عبثِ السلطة ووقوداً لحروبها وكانت مقابر النخيل المنتشرة على ضفافِ شطِ العرب تصرخُ بصمتٍ أشبه بالعويل مع خيوط الفجر الاولى. يُغتالُ كل يوم بشتى أنواع الجحود. كلُ نخلة تَروي حكايات الفتية الذين سقطوا تحتها وعلى مشهدٍ منها وكيف ارختْ سعفَها لِتخففَ حدةَ الشمسِ الساقطةِ على أجساد الشهداء العارية. تحكي بصوتِ كلكامش المختنق قصةِ خلوده ما بين النهرين! فللنخيلِ والنهرين في بلادي آلاف الحكايات. قصةُ حبٍ أزليةٍ منذُ أن وطيء آدمُ الأرضَ وعَقَدَ الفراتُ قرانه على دجلة في الجنوب فانجبا جنةَ عدن بنخيلها ونهريها وأصبحا حكاية الأجيال فلا نخيل بلا دجلة والفرات ولا نهرين بلا نخيل ولا عراق دونهما. 

هل سمعتم يوماً نخيلاً يرثى نفسه إلا نخيلي: 

- أنا الشهيدةُ وأنا الضحية، أنا القصيدة والأغنية. مَشطتُ كل عرائس العراق لم تبقَ مني باقية، مني صنعوا متراساً وقطعوني حطباً ولم يراعوا أني أطعمتهم من جوعٍ وظللتهم من شمس، سَقَوني ماءً مالحاً بعد أن قدمتُ لهم تمراً أحلى من العسل.

لنخيل بلادي آهات يسمَعُها ويَعرِفُها أهل الجنوب ومنهم ماجد المنحدر من جينات هذا النخيل يمطرُ طيباً. 

*****

لابد من إيجادِ عملٍ ما والا سنموت جوعاً، العراقيون وعربٌ اخرون يملئون سوقَ العملِ فضلاً عن نسبةِ البطالة المرتفعة، لذلك حظوظنا شبه معدومة. وكنت قد حسمتُ أمري بأني لن أمدَ يدي الى جيبِ سترة ماجد وهناك في زوايا البيوت الجنوبية الحزينة أحقُ مني بما فيها، ينتظرون كفراخِ العصافير في أعشاشها فاغرة فاها.

بعد مرورِ أسبوعٍ من البحثِ وجدتُ عملاً قربَ الحي السكني الذي أقطن فيه. لم احدد ما أتقاضاه ولم أناقشَ ذلك مع صاحبِ المحل فكل ما أريده أن أجد ما أقتات منه. المحزن المبكي أنه استغل حاجتي بطريقةٍ بشعةٍ وغير إنسانية وكنت أعملُ من الساعةِ التاسعةِ صباحاً الى الساعة الحادية عشرة مساءً وكل ما أستلمه لم يتجاوز أجرةَ زبونٍ واحدٍ من زبائنه. كنت مضطراً للقبول فلا خيار لدي، لكني واصلتُ البحثَ عن فرصةٍ أخرى بالتزامن مع عملي هذا. أخبرت كل معارفي وأصدقائي ومن ألتقيهم صدفةً عن حاجتي الى العمل. 

كنا نقضي الأماسي نجترُ الذكرياتَ ونستعيدُ المفرحَ منها على قلتهِ لنقللَ من ألم الحاضر. في أحيان اخرى نبثُ ما نعانيه في عملِنا اليومي ونتبادل ما مرَ بنا من الاحباطات والمنغصات. وللحبِ مكان خاص بين هذه الأحاديث رغم ندرته فمنا من استطاع أن يجد متسعاً من الوقتِ ليبادلَ احدى بنات المحلةِ العشقَ وأن يعيشَ لحظات من الفرحِ الحقيقي والنشوة وهو يروي لنا كيف أنها ابتسمتْ له عندما التقتْ عيناه عينيها وهي تخرجُ من البيت الى ركن الشارع القريب. يسردُ لنا التفاصيلَ التي استمرتْ لثوانٍ بأكثرِ من ذلك أضعافاً مضاعفةً. كيف استدارتْ ورسمتْ بسمتَها؟، ماذا ترتدي؟، كيف تُمسِكُ حقيبتَها؟، من معها من أهلها، كيف خففتْ من سرعةِ خطواتِها عندما رأته كما هو يعتقدُ ذلك! بشرتُها البيضاء مع احمرارِ الوجنتين، غنجها، شبابها المتفتح، إنها أميرته التي ينتظر!

- هذه ليست الابتسامة الأولى كما تعتقدون، أنها معجبةٌ بي، تخرجُ عندما أكون واقفاً في بابِ البيت كي تراني، وأنا اتابعها إلى أن تغيب عن ناظري وأتصلبُ في مكاني منتظراً عودتها لأودعها وهي تدخل منزلها، أعرف أنكم لا تصدقون ما أقول لكنها الحقيقة.

- أنها تفعلُ الشيء نفسه معي، أنها معجبةٌ بي لا بك. 

يقولُ آخر مع ابتسامةٍ خبيثةٍ ليستمرَ المزاحُ والضحكاتُ البريئة، إلى أن يفرضَ النومُ نفسه علينا بسرعةٍ كبيرةٍ بعد يومٍ طويلٍ شاق، وفي الصباحِ ننطلقُ كلٌ الى عمله رغم اعتراضنا الشديد على المبالغِ الزهيدةِ التي نتلقاها لقاءَ الجهدِ الكبير الذي نبذله. كانوا يستغلون عدمَ امتلاكِنا رخصة العمل الرسمية وكذلك كثرة الأيدي العاملة المتوفرة فيفرضون علينا شروطَهم المجحفة كمضاعفةِ ساعاتِ العمل دون تعويض مادي. 

عثرتُ على عملٍ آخر بعد شهرٍ تقريباً مع أحد الزملاء في السكن ، تركتُ العملَ السابقَ في "جبل النصر" وتوجهتُ صبيحة اليوم الثاني إلى مقرِ عملي الجديد في منطقةٍ "صويفية" في العاصمة. كلُ شيء مختلف، الشوارع ُونظافتها ونمطِ بناء دورِ السكن فيها حتى الناس يختلفون، تشعرُ وكأنك انتقلتَ إلى بلدٍ آخر وليس في المدينةِ ذاتها. تشمُ رائحةً أخرى تأخذك الى عالمِ العطورِ والأزياء عندما تمرُ قربك احدى جميلات المنطقة رغم ندرة ذلك لأنهم يستخدمون السيارات ويمتلكون أفخَرَها.

*****

دوتْ صفعةٌ قويةٌ على وجهِ شابٍ جالسٍ على كرسيٍ متهالكٍ ارتدَّ صداها ليغطي كلَ زوايا المكتب، نزلتْ دموعهُ على خديه وأختلطتْ مع الغبار الملتصق على محياه الأسمر ومع الأثنين تهاوتْ كرامته وفَقَدَ ماءَ وجههِ وكبريائهِ وأنخرطَ باكياً. لم أتمالك نفسي:

- لماذا؟ ما الذي فعله لتضربه؟ 

- لقد قامَ بتسجيل حديثي معه هاتفياً وقدمه للشرطة وهو يدعي إنني سرقت مرتبه الشهري! 

هكذا رد عليّ مدير شركة "أبو طربوش" التي عزمت العمل فيها بعد أن دخلتُ مكتبَه المتواضع جداً لا يتناسبُ مع المستوى الاقتصادي للمنطقة. جلستُ على كرسيٍ فارغٍ في المكتب بعد أن ألقيت التحية. 

لم أستطع التعليقَ لعدم معرفتي التفاصيل فالتزمتُ الصمت. توجه بعدها المدير إلى الشباب وهو من جنسية عربية قائلاً:

- بماذا ستنفعك الشرطة الآن يا كلب؟

- لم أكن أريدُ سوى أن أثبتَ حقي، وأنك لم تعطني راتبي الشهري فسجلتُ اتصالنا وأنت تعترف بذلك.

ردَ عليه المدير بكلماتٍ نابيةٍ جارحة فلم أستطع صبرا وتدخلتُ لتهدئةِ الموقفِ حتى لا يضربه مرةً ثانيةً. وكان مظهره يوحي بأنه يمارسُ نوعاً من أنواع الرياضة الجسمانية وطوله الفارع وشكله الذي يعطي شعوراً بأنه سيد الموقف فلا الشاب يمكنه الرد على هذه الإساءة ولا هو يمتلكُ من الإنسانية ما يجعله يعفو عنه. المهم، أنتهي المشهد بأن غادرَ الشابُ الشركةَ دونَ أن يحصلَ على شيءٍ مما كان يخططُ له. 

اتضحَ لي لاحقاً أنهم استدرجوه إلى المكتب بعد تقديمه شكوى إلى الشرطة فأخبرَ ضابطُ المخفرِ صديقه مدير الشركة بذلك، لذا قررَ أن يعاقبه على فعلتهِ ولم يكن هناك مكان أفضل من مقر الشركة. طلبوا منه أن يأتي ليستلم حقوقه، وبدلاً من راتبه استلم عدداً من الصفعات والشتائم. ورداً على أسئلتي واستغرابي اتهموه بالسرقة وأنهم سلموه كل حقوقه وأن ما يدعيه باطل.

كانت بداية غير مشجعة وتنذرُ بالكثيرِ من المفاجآت، لكني حاولتُ أن أتجاوزَ ما حدث ولا أقف عنده، لكنه بقي عالقاً في ذاكرتي. باشرتُ في اليوم الأول ولم أستطعْ الذهاب في اليوم الثاني لعدم قدرتي على السير أو لبس حذائي بعد أن انتفخت قدماي من كثرة المشي مصحوباً بالجهد الفيزيائي الذي لم أعتد عليه سابقاً، ما أتقاضاه ضعف ما كنت أحصل عليه في عملي السابق وهذا ما يبعث بي بعض الرضا رغم تحذيرات بعض الأصدقاء بان العائلة المالكة للشركة لا تُعطي الأجيرَ حقه وسيحاولون استقطاعَ نصفِ المرتب نهاية الشهر ويعدونك إكمال المبلغ الشهر الذي يليه وهكذا إلى أن تترك العمل وهذا ما جعلني استرجع ما حدث أمامي في يومي الأول وجعلني اصدق روايةَ الشبابِ الذي اعتدى عليه مدير الشركة متهماً إياه بالسرقة والعكس هو الصحيح.

*****

أستقبلني مازن، صديقي من أيام الجامعة، عند الباب ودعاني للجلوس في الصالة، عندما زرته في عطلة نهاية الأسبوع وقد وصلَ العاصمة قبل أيام، وبعد التحية المعتادة والأسئلة عن الأهلِ ومتى وصل وهل هو مع عائلته أم لوحده، فاجئني بقوله:

- دكتورة حياة شرارة انتحرتْ هي وبناتُها.

لم أستوعب ما سمعت، ذُهلتُ من هولِ الخبر، اجتاحتني أسئلة كثيرة؛ مستخدماً كل أدوات الاستفهام وعلامات التعجب كيف ولماذا ومتى، لكن بقيتْ النتيجةُ نفسها: مرارة وحسرة وألم لا يُطاق بفقدانِ عَلَمٍ من أعلامِ الأدبِ في العراق.

- كيف ومتى حصل ذلك؟

- لا أعرفُ التفاصيل، هناك تعتيمٌ على الحادثِ، كل ما وصلني أنها انتحرتْ مع بناتِها لكن احداهما بَقيتْ على قيدِ الحياة. فَشلُها في الخروج من العراق والضغط الذي تعرضتْ له في الجامعةِ بالإضافةِ إلى الحصارِ المعنوي والاجتماعي الذي مارسته السلطة ضدها ترك أثراً كبيراً على حياتِها. كانوا يراقبون كل شيء وأحاطوها بعددٍ من العيون التي تتابعُ حركاتها الصغيرة والكبيرة. كانت تحت مجهر السلطة، يعدون عليها خلجاتها. 

انها خسارة كبيرة يصعبُ تعويضها! نخلةٌ مثمرةٌ أخرى من نخيلنا يتم اغتيالها لِتُهاجرَ بعدها العصافير والطيور التي كانت ترفرف حولها وتأكل من ثمارها وتستظل بها الى بلاد أخرى. 

الموتُ يا صديقي - حياةٌ وطريقٌ للخلاصِ بعدَ أن ضاقتْ السبل وأُغلِقَتْ جميعُ الأبواب بوجهها. رفضتْ الوقوفَ في طابورِ المتلونين وأن تَترُكَ ظلَها أمامَ الشخصِ الخطأ في الزمن الخطأ، فكان الموتُ بهامةٍ مرفوعةٍ ونفسٍ عزيزةٍ لا تنحني أمام الريح العاتية المسمومة. كان خيارهاُ الصعب الذي أقدمت عليه بعد منعِها من السفرِ بحجةِ عدم وجودِ رجلٍ من عائلتها يرافقها ليسمحوا لها بالسفر خارج العراق فلم يكن لها ولد أما الزوج فقد غادرَ الحياة منذ زمن، حاصرُوها في البيت والعمل، فكانت أطول قامة وأعلى هامة وأكثر عزة وأقوى من القيود والأسوار. كانت مختلفة روحاً وحساً وأخلاقاً وتوجهاً فكرياً، انتمت لزمن آخر ولم تعترف بهم لم تُساير الركب ولم تذعن، جامحة بأفكارها متمسكةً بما تعتقد رغم التيار الجارف المحيط. أصرتْ حياةُ على الحياةِ فكانت أسماً على مسمى وعاشتْ بطريقتها التي اختطتها وسارتْ على خطى الشهداء. كان الموتُ هو الفائز الأكبر بانتحارِها لتعلنَ عن خلودِها وموتِهم وانتصارها وخسارتهم وسموها وخستهم. وهكذا اضافت أسمها إلى قائمة ضحايا الزمن المر، طلبوا من بعض طلبتها مراقبتها وكتابة التقارير عنها، فأبت إلا أن تزدادَ عنفوناً فقررتْ الرحيلَ لِتَدخُلَ قائمةَ الاحرارِ فكانت حياة وبقيتْ كذلك. 

سكتَ مازن وأطبق الصمتُ على المكان، كان رأسي متدلياً أمامي أحدقُ في أرضية الغرفة بعد أن فقدتُ التركيز. كنتُ بحاجةٍ الى فاصلٍ زمني أعيدُ فيه رباطةَ جأشي بعدَ أن ترقرقتْ دموعي المحبوسة بين أحداقي وكأن هناك شيء يقفُ في حُنجُرتي يَخنقني فلا أستطيع التنفس واجتاحتني رغبةٌ كبيرةٌ في الصراخ!

- أشرب الشاي قبل أن يبرد. دكتورة حياة لم تَمتْ يا صديقي بل اختارت حياةً أخرى،

قالها وهو يضع فنجانَ الشاي على الطاولة أمامي.

كان طعمه مراً رغم كمية السكر المضافة اليه، لم أشعر بحرارتهِ إلا بعدَ أن احترقتْ شفتاي وأنا أضعُ الفنجان عليهما محاولاً أن أرتشف منه، كانت عيناي تنظران إلى أمام ولا ترى شيئاً فقد عُدتُ إلى الحرمِ الجامعي والى الفقيدة-الشهيدة واللَون الأزرق الداكن الذي طالما ارتدته وهي تُلقي علينا محاضراتها بصوتِها الخافت وهي تتحدث عن أعلام الأدب في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. 

- ماذا تفعل وماهي خططك؟

أرجعني مازن بسؤالهِ إلى أجواء الغرفةِ التي نجلسُ فيها. 

- جئت الى عمّان ومنها أسافر إلى سالزبورغ لإكمال دراستي بعد أن حصلت على منحةٍ دراسيةٍ في جامعتِها لكن الظروف تغيرتْ وذهبَ كلُ ما خططتُ له أدراج الريح، وها أنا محاصرٌ بين جبالِ العاصمة مختنقاً بهوائها محاطاً بهذا ألكم من الأوجاع التي تُثقلُ القلبَ. 

كان الجميعُ يحلمُ بالعيشِ في بلدٍ آخَر، لم يَعُدْ أحدٌ يرجو خيراً أو أن يجدَ سبباً لبقائه هناك، إما أن تعيش مضطهداً مسلوبَ الإرادةِ وأن تحتفلَ بمكرمةِ الرئيسِ عندما تضاف دجاجة إلى مفرداتِ الحصةِ التموينية لتتذوقَ اللحم أو أن تهربَ من زنزانتك الكبيرة الى أرض الله الواسعة. لم يكن خيار السفرِ متوفراً للجميع فضريبة الخروج كبيرةٌ جداً وهي ما يعادل مئة وخمسين مرتباً شهرياً لبعض الموظفين، لذا اضطرَ البعضُ الى بيعِ كلِ ممتلكاته بضمنها أقربهن إلى قلبه وكل ما جمعه والداه طيلةَ حياتهم ليصلوا الى هذا المبلغ الكبير ومنهم من أقترض بعد أن اعتذر الأهلُ عن المساعدةِ لإكمال الرقم المطلوب. 

تحدثَنا عن همومِنا وماذا ننوي أن نفعل في ظلِ الإمكانيات المتاحة، والأهم أن صديقي الثاني علي المتواجد معنا في الغرفة وعدني بعملٍ مع أحد التجار العراقيين. وبالفعل بعد فترةٍ قصيرةٍ أعطوني رقمَ هاتفه لأتصل به وانتقلتُ على أثرها إلى مدينةٍ أخرى لخوضِ تجربةٍ من نوعٍ مختلفٍ أكثر استقراراً بعيداً عن الغش والتسويف والاستغلال البشع الذي نتعرض له. 

*****

صدقتْ نبوءةُ أصدقائي فعندما استلمتُ راتبي قبل مغادرتي العمل في الشركة أعطوني النصفَ فقط، ووعدوني أن أستلمَ الجزءَ المتبقي قريباً، ولم يحصلْ ذلك أبداً!!!

جمعتُ أغراضي وودعتُ أصدقائي مغادراً إلى المكانِ الجديد ليُصبحَ محطةً أخرى في رحلتي. 

جغرافياً مدينة "الزرقاء" ليست بعيدة عن العاصمة بل مجاورة لها، وصلتُ الى المصنعِ الذي يقعُ في منطقةٍ شبه خالية ويفصله عن المنطقةِ السكنية شارعٌ باتجاهٍ واحدٍ وعلى يساره بيوت متفرقة بسيطة في شكلها الخارجي ما يدلُ على فقرِ حالِ ساكنيها، تشعرُ وكأنك في قرية نائية! أجمل ما فيها هو طيبة أهلها وصدق مشاعرهم، يختلفون كثيراً عن سكان العاصمة. 

كان المصنع مخصصاً لإنتاج مواد التنظيف ولم يصل إلى مرحلة التصنيع لعدم إكتماله وحاجته إلى الآلات اخرى ليكون جاهزاً للإنتاج لذلك لم يكن فيه عمال سواي وشاب آخر من العراق أيضا. 

بعد مرور فترة قصيرة وأثناء تجربتنا للخط الإنتاجي تعرضتُ إلى حادثٍ أدى إلى قطعِ اصبعين في يدي اليمنى؛ الابهام والسبابة بشكلٍ جزئي وأُجريتْ لي عملية لإعادة ربط الاوتار المتقطعة فيهما حتى أستطيع استخدامها مرة ثانية. كان حادثاً مؤلماً وبكيتُ وقتها بحرقةٍ لاعتقادي أني فقدتُ قدرتي على الكتابة. نعم، بكيتُ طول الطريق إلى المستشفى واضعاً يدي المصابة بين صدري ويدي الشمال:

- دكتور أرجوك اجعلني أكتب مرة أخرى. 

قلتها وأنا أبكي لاعتقادي أن أصابعي قد بترت تماماً وما تبقى هو الجلد، كنت أخاف النظرَ إليها حتى لا أرى أصابعي المقطعة أمامي. قام زميلي في العمل بلفها بقطعةِ قماشٍ مباشرةً بعد إصابتي الى أن وصلت المستشفى. تأكدَ الطبيبُ من أن هناك قطع في الاوتار وتهشم بعض العظام وليس قطعاً كاملاً. أخبروني أنهم سيجرون لي عملية لإعادتهما. وبالفعل أجريت ليلاً العملية وبقِيَتْ يدي شهراً تقريباً في الجبس وبعد رفعه تَرَكتْ الإصابةُ أثراً مع شعورٍ بالخدرِ البسيط يُلازمني حياتي كلها عند الكتابة أو استخدام اصابعي للقيام بأي عمل. 

*****

انتهتْ فترةُ الإقامةِ المسموح بها قانوناً وكان يجبُ عليّ المغادرة أو البقاء خلافاً للقانون، عندها تذكرت ما كان يقوله صديقي أبو أدهم: في المدن الحدودية هناك مهربون دائما، لذا قررتُ أن أصلَ الى هدفي بقدراتي الذاتية، أن انتقلَ من بلدٍ الى آخر عبر الحدود بأقلِ النفقات، أصلُ المدينةَ الحدودية لوحدي وهناك أبحث عن أحدٍ لينقُلَني الى البلدِ المجاور دون وسطاء لأن القيمة حينها ستكون أقل مرتين أو ثلاثة، إضافة الى كثرة الخيارات عند الحدود. 

رسمتُ خطَ السير في مخيلتي: سوريا- تركيا- بلغاريا ثم الاتجاه الى الشمال الغربي من خارطة العالم! هيَأتُ نفسي وحصلتُ على تأشيرة الدخول الى روسيا تحسباً لأي طارئ في خطواتي القادمة على طريق حريتي المنشودة.

أمَّنَ لي تأشيرةَ الدخول إلى سوريا أبو رشدي أحد مالكي المصنع ولم يطلعني حينها على التفاصيل، أخبرني فقط بأن أسمي موجود في النقطة الحدودية على الجانب السوري، وما عليً سوى أن أحملَ حقيبتي وأتوجه الى الحدود، بكل سهولة. 

ودعتُ أصدقائي بعد أن جمعت كتبي من المكتبة التي كونتها في غرفة نومي بالمصنع وأرسلتها إلى أهلي مع أحد السواق الذين ينقلون البضاعة الى العراق. عرفت بعدها أنه سرقَ الحقيبةَ التي تحتوي أغراضي وأرسل ملابسي الى أهلي بكيس بلاستك!!! 

الطريق إلى دمشق يختلف عن الطريق من بغداد إلى عمّان لِقِصره أولاً وسيلة النقل التي استخدمتها للوصول بالإضافة الى جغرافيته، جلستُ في سيارة الأجرة مع ثلاثة آخرين ولم يكن يدور برأسي سوى؛ كيف أصل الى الحدود السورية التركية ومنها الى الشمال، كان القطارُ هو الخيار الأرجح والأكثر واقعية بالنسبة لي مستخدماً التأشيرة المتوفرة لدي للعبور الى الجانب التركي مدعياً إني متوجه الى روسيا ما يُسهل مهمتي في دمشق، هذا ما دار في ذهني وأنا متوجهٌ الى محطتي القادمة.

وصلنا النقطةَ الحدوديةَ الأردنية عصراً واجتزناها دون مشاكلَ تُذكر ورجعنا إلى السيارة لنتوجهَ بعدها إلى النقطةِ المقابلة في الجانب السوري. عند شباك القادمين تفاجأت بأن المسؤول خَلّفَ النافذة يطلبُ مني أن أنتظرَ في القاعةِ وأن أخرجَ من الصفِ وأسمحَ للآخرين بالوصول إلى الشباك! 

غادرَ المسافرون دوني وانطلقتْ السيارةُ التي كنت استقلها الى الشام ومكاني شاغرٌ فيها، وبقيتُ مع حقيبتي الصغيرة على كتفي جالساً في قاعةِ الانتظار، ليبدأ من هذه القاعة فصلٌ جديدٌ من قصتي مع الهروب الصعب.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 6

  1. Omar kareem

    سرد جميل وراقي دكتور نقلت بها معاناه معظم العراقيين اللذين يبحثوا عن حريتهم وقوت يومهم في بلد مسلوب الاراده

  2. أشرف سرحان

    ما هذه الصور الرائعة...رواية بمزاج النخيل وروح الوطن والألم والغربة بين الامل والضياع ....ننتظر الجديد ..وتحية للكاتب الفذ

  3. اسامة الرفاعي

    احسنتم دكتور فعلاً موضوع شيق يستحق القراءة خاصة تتحدث عن معاناة الهجرة وطرقها بوركتم

  4. عباس المكصوصي

    روعة ما تطرقا الكاتب الى نقل معانات جيل من شباب العراق من جيل الستينات والسبعينات

  5. Anonymous

    نجتاز الحدود بحب وكره مرغم أو لا ..ونمضي

  6. Anonymous

    احسنت سعادة السفير سرد يحاكي بتفاصيل دقيقة معاناة الكثير من واكبوا هذهِ الفترة والحقبة المظلمة ومن ذاق لوعة الفراق لبلدهِ العراق ونخيلهِ ولياليهِ السمراء الجميلة .

ملحق معرض اربيل

مقالات ذات صلة

16-04-2024

التّجديدات مابعد الحداثيّة

لطفية الدليميأحدثت الطاقة الجديدة لرواية (الكومنولث Commonwealth) مفارقة صارخة مع ماكان يُوصف بلحظة (النضوب الأدبي)؛ ففي دول الكومنولث بدأ الكُتّاب يوظفون تجاربهم ويعتمدونها مصدراً لأشكال إبتكارية جديدة من الكتابة - الكتابة التي ستعمل في المقابل على تدعيم التغير الثقافي المطلوب في الوقت الذي واجه فيه الكُتاب خارج منطقة الكومنولث إحساساً عميقاً باللاجدوى وإستنفاد الغرض من […]
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram