العراق بين الانتظار العبثي وبناء جبهة وطنية فاعلة

آراء وأفكار 2020/08/10 07:18:45 م

العراق بين الانتظار العبثي وبناء جبهة وطنية فاعلة

 فراس ناجي

إذا كان "إحتضار القديم واستعصاء الجديد" (عبارة مقتبسة من د. فارس نظمي استلهاماً من غرامشي) هو الواقع السياسي الحالي لعراق ما بعد ثورة تشرين 2019 ، فإنه حالة إنتقالية تحدث في الكثير من الحركات الإحتجاجية المشابهة للحالة العراقية في كونها إحتجاجات شبابية وعفوية بدون تخطيط مسبق مع ضعف وإنقسام في القوى السياسية المعارضة للنظام.

وعلى الرغم من أهمية الدور المحوري الذي يضطلع به رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي في التأثير على مسيرة عملية التغيير السياسي المنشودة، إلا أن هناك عوامل أخرى لا تقل أهمية في التأثير على هذه المسيرة، مثل إدامة الضغط الشعبي لإتمام الإطار التشريعي للإنتخابات القادمة والتحضير لإجرائها بصورة عادلة و نزيهة، ومن ثم الدخول الى هذه الإنتخابات بجبهة وطنية واسعة ذات أجندة إصلاحية ناتجة عن تفاعل القوى الساندة للحركة الإحتجاجية الشبابية.

دور مؤقت وإنتقالي

في الوقت الذي يرى البعض أن الكاظمي هو رجل المرحلة لإعادة لهيب ثورة تشرين، يراه آخرون خشبة النجاة لنظام ما بعد 2003 المتهاوي. إلا أنه واقعياً هو المُنْتَجُ الثانوي لحركة الإحتجاج الشبابية كأول رئيس وزراء من خارج أحزاب الإسلام السياسي منذ بدأ النظام البرلماني في 2005. وحيث أن دور الكاظمي محددٌ لإدارة مرحلة إنتقالية هدفها الأول هو تحضير وتأمين كل مستلزمات إجراء الانتخابات المقبلة بصورة عادلة ونزيهة، لذلك لا يتوقع منه إنجازات جذرية في الملفات المعقدة للأزمة التي يمر بها العراق مثل الخدمات والسيولة النقدية وجائحة كورونا والنزاع الخارجي وحصر السلاح بيد الدولة، بالإضافة الى مطالب الحركة الإحتجاجية. 

إن التصدي لهذه الملفات وإيجاد الحلول لها يتطلب رؤية وأجندة سياسية تستند الى تفويض شعبي صريح نتيجة إنتخابات شرعية ذات تمثيل مجتمعي حقيقي تتجاوز حاجز أزمة الثقة الحالية بين النظام السياسي وعامة الشعب العراقي. وهذا هو الفرق الرئيس بين عملية التغيير السياسي منذ تأسيس الجمهورية العراقية في 1958 وحتى 2003 والتي إستندت على الشرعية "الثورية" لنخب كانت تعتبر نفسها وصية على الشعب العراقي، وبين عملية التغيير المنشودة لثورة تشرين والتي تتبنى مسار إصلاح النظام السياسي العراقي عبر السياقات الدستورية الشرعية. 

وعلى الرغم من الفترة القصيرة للكاظمي في الحكم، يبدو أن ستراتيجيته الحالية التي تتمحور حول تقليص نفوذ الأحزاب في الأجهزة الأمنية، ومحاولة إحتكار إختيار قادة هذه الأجهزة، والتعامل مع الملف الأمني بصورة أكثر حزماً وشفافية من سابقيه، قد يحالفها النجاح في ردع بعض مراكز القوى التي اعتادت على خرق سيادة الدولة والتغوّل على مؤسساتها لتأمين مصالحها الضيقة. 

ويمكن الإشارة الى عدد من الخطوات التي بادر إليها الكاظمي في هذا الإتجاه، مثل إعتقال متهمين بشن هجوم صاروخي على أهداف أميركية، وحماية وتأمين المنافذ الحدودية، والكشف عن المتهمين بقتل المتظاهرين في الأحداث الأخيرة في ساحة التحرير وإحالتهم الى القضاء. وعلى الرغم من تفاوت نجاح الحكومة في مساعيها هذه، الا أنه يُسَجَّلُ للكاظمي مبادراته هذه، والتي من المحتمل في حال إستمرارها وتطورها نوعياً وكمياً، أن تؤدي الى نتائج تراكمية فارقة عشية الانتخابات القادمة باتجاه تحسين الوضع الأمني وردع العصابات والميليشيات من التجاوز الفاضح على سيادة الدولة و تطبيق قوانينها.

جبهة موحدة للقوى الوطنية

وبغض النظر فيما إذا نجح الكاظمي أو لم ينجح في مساعيه لإعادة هيبة الدولة وبسط سيادتها على مرافق مؤسساتها، فإنه بنيوياً لا يستطيع الضغط على أحزاب البرلمان لإكمال التشريعات اللازمة لإجراء إنتخابات قادمة نزيهة وعادلة لعدم وجود كتلة أغلبية واضحة تدعمه في البرلمان الحالي. كما إن الفترة الإنتقالية الحالية تعتبر مرحلة حرجة يمكن لقوى الثورة المضادة أن تستغلها لحرف عملية التغيير السياسي وإعادة إنتاج نظام المحاصصة السابق كما حصل في أغلب الحركات الإحتجاجية للربيع العربي، حيث إنتهت حالتها الإنتقالية الى سيطرة قوى الثورة المضادة بسبب إنقسام القوى السياسية المساندة للحركات الإحتجاجية وفشل هذه القوى في إدارة الفترة الإنتقالية و تحقيق المنجزات التي تطالب بها حركة الإحتجاج. 

لكن في المقابل، هناك تجارب أخرى لحركات احتجاج نزعت نحو التحول التدريجي للسلطة من سيطرة النظام القديم الى نظام سياسي جديد برؤية سياسية وعقد إجتماعي مغاير أقرب الى مطالب الحركة الإحتجاجية عبر مأسسة حركة الإحتجاج كما حدث في كوريا الجنوبية في 1987، إذ توصلت قوى التغيير – التي إنضوت في جبهة عريضة ضمت حركة الإحتجاج الشبابية وأحزاب المعارضة وقوى المجتمع المدني – الى حالة من التسوية مع النظام تتضمن الرجوع الى الانتخابات مع العفو السياسي وإستعادة الحقوق المدنية مقابل إلتزام المحتجين بالنظام السياسي المعدّل وعدم إجتثاث النخبة الحاكمة بالمطلق. وعلى الرغم من أن مأسسة حركة الإحتجاج الكورية هذه لم تنتج تغييراً كبيراً في السلطة في إنتخابات 1988 بسبب ان المعارضة السياسية كانت منقسمة بين مرشحين إثنين، لكن النظام قد تغير من ديكتاتوري عسكري الى نيابي دستوري بعد 1988، كما دفع جنرالات الحكم ثمن قمعهم للشعب عند محاكمتهم في 1995 بعد تركهم للسلطة وتم الحكم عليهم بالسجن لمدد طويلة.

كذلك تاريخنا العراقي المعاصر لا يخلو من التجارب ذات الصلة حين إتفقت أحزاب الإستقلال (العروبي) و الوطني الديمقراطي (الليبرالي) و الشيوعي (الماركسي) أن تتعاون فيما بينها في الانتخابات التشريعية في حزيران 1954 ضد النخبة الحاكمة في العهد الملكي تحت إسم الجبهة الوطنية رغم تنافرهم الأيديولوجي. وعلى الرغم من محدودية نجاحهم في هذه الإنتخابات غير أن النخبة الحاكمة بقيادة نوري السعيد قمعتهم وصادرت الحياة السياسية بعدها، ما دفع بهذه الأحزاب أن تؤسس جبهة الاتحاد الوطني في 1957 بعد إنضمام حزب البعث اليها. وقادت هذه الجبهة بنجاح عملية التحشيد الشعبي لتغيير النظام الملكي العراقي، وتعاونت مع الضباط الأحرار في عملية التغيير، وساندت الحكم الجمهوري منذ لحظة إنطلاقه. غير أن انقسام هذه الجبهة وتصارع الأحزاب المنضوية فيها فيما بينهم بعد الإنتصار على الحكم الملكي في 14 تموز 1958 أدّى الى تعاقب الأنظمة الإستبدادية التي صادرت النظام الدستوري والحياة الحزبية السياسية في العراق، وبالتالي أدّت الى ما وصلنا اليه من حالة كارثية فيما بعد الغزو الأميركي في 2003. 

المهم هنا إن هذا التعاون الجبهوي العابر للآيديولوجيات السياسية كان قد نجح في بناء أجندة سياسية تمحورت حول إستقلال العراق عن التبعية للقوى الخارجية، وتحقيق العدالة الإجتماعية، وكذلك الشراكة في الوطن بين العرب والكرد و بقية القوميات المتآخية في العراق. لقد هيمنت هذه الأجندة ثقافياً على الفضاء الوطني العراقي لمدة تزيد على عقدين من الزمان على الرغم من إختطاف العسكر والإستبداد السياسي لهذه الأجندة الوطنية وتفريغها من محتواها عبر المزايدات السياسية والقمع والسعي وراء المصالح الضيقة.

أجندة وطنية إصلاحية مشتركة

من الصعب تخيل عدم إدراك الأحزاب السياسية العراقية أو المهتمين بالشأن الوطني بالحالة الكارثية التي وصل إليها العراق أو بخطورة الوضع الحالي. فأي تأخير في موعد الانتخابات أو أي شكوك تصاحب عملية إكمال تشريعها وتنظيمها ومصداقية نتائجها، تعني في ظل الوضع المالي والصحي والخدماتي السيئ الحالي إنفجار الشارع براديكالية مضاعفة لما جرى في ثورة تشرين مع أرجحية إحتمال إنهيار العملية السياسية برمتها.

لذلك على القوى السياسية والمستقلين والمثقفين وناشطي المجتمع المدني من المساندين لثورة تشرين التفاعل مع ممثلي حركة الاحتجاج الشبابية للعمل معا والتسابق مع الزمن من أجل تشكيل جبهة وطنية واسعة ، تعمل هذه الجبهة أولاً على الضغط على مجلس النواب لإكمال قانون الانتخابات القادمة، مع الإبقاء على الترشيح الفردي وتعدد الدوائر الانتخابية واحتساب الفائز بأغلبية الأصوات، مع إكمال الملحقات اللازمة لتنفيذه، وكذلك تشريع تعديل قانون المحكمة الاتحادية الذي بدونه لا يمكن الطعن أو المصادقة على نتائج الانتخابات، ثم الضغط على الحكومة من أجل اتخاذ خطوات ملموسة وحاسمة لردع المجاميع المسلحة وحماية الناخبين والمرشحين على مجمل الأرض العراقية، وتفعيل القضاء لأداء دوره في تنفيذ سلطة الدولة وأحكام القوانين على جميع المدانين بالتهم.

كذلك على هذه الجبهة الوطنية العمل لبناء أجندة سياسية وطنية محددة وواضحة تختلف جذرياً عن البرامج الانتخابية العمومية التي اعتادت الأحزاب السياسية فيها على مداعبة مشاعر الناخبين وقت الانتخابات، والتي لا تختلف بين حزب وآخر إلا بالألفاظ وتراتبية مواد البرنامج . وعلى هذه الأجندة معالجة القضايا الشائكة التي تمثل الأسباب الأساسية للوضع الكارثي الذي يمر به العراق وإيجاد حلول واقعية وبخطوات ملموسة غير مواربة يتم الالتزام بتنفيذ هذه الخطوات عند الفوز بالانتخابات، وتكون هي الفيصل بين برنامج الجبهة الوطنية وبرامج بقية الأحزاب والتكتلات السياسية.

فعلى سبيل المثال لمعالجة الملف الاقتصادي، يتم الالتزام بخطوات محددة لترشيق الجهاز الحكومي المتضخم، مع التعهد بتوفير أعداد وظائف جديدة في القطاع الخاص، مع التدريب المناسب لإستيعاب الفائض من الجهاز الحكومي. وكذلك يتم الالتزام ببسط سلطة الدولة على جميع المنافذ الحدودية وبضمنها منافذ إقليم كردستان لتعظيم موارد الدولة وحماية المنتوج المحلي. أما بالنسبة لملف النفط ، فيمكن التعهد بإتمام مشاريع ستراتيجية محددة لتكرير النفط واستثمار الغاز. 

كما يمكن معالجة ملفات حساسة بطرق خلاقة والالتزام بخطوات في هذا الاتجاه مثل تعديل الدستور لتفعيل مسؤولية الجهاز التنفيذي، وتحديد سلطة الأحزاب لمنع تغولها في أجهزة الدولة، وتحويل الحشد الشعبي من جهاز أمني منافس للأجهزة الأمنية الأخرى للدولة الى جهاز احتياطي يتم تطويره للركون إليه عند الحاجة ، و كذلك حل المشاكل الاقتصادية والإدارية والأمنية مع إقليم كردستان على أسس فيدرالية سليمة بضمنها تحويل المناطق المحاذية للإقليم من "أراضٍ متنازع عليها" الى أراضٍ مشتركة يتم فيها ضمان تنوع نسيج المجتمع العراقي عبر الشراكة الحقيقية في الوطن وليس عبر التحاصص المكوناتي. هذه أمثلة محدودة لجملة المشاكل التي على الجبهة الوطنية الخوض فيها و بدأ الحوار فيما بين فرقائها من أجل ترك حقبة ما بعد ال 2003 الكارثية و الولوج الى حقبة "نريد وطن" لبناء عراق جديد يليق بأبنائه و تاريخه وموقعه الجيوسياسي الفريد.

الخلاصة إن العراق يمر اليوم في مفترق طرق مفصلي بين الانتظار العبثي للواقع الجديد (أسميه هنا إنتظار غودو استيحاءً من مسرحية صامويل بيكيت) وما بين العمل على مأسسة الحراك الشبابي عبر تشكيل الجبهة الوطنية الواسعة لدعم ثورة تشرين والتغيير الدستوري نحو الإصلاح. ويبقى هناك خيار الصدام بدون حل مشاكل العراق المستعصية، والذي قد ينتج عنه تغيير الوجوه والعودة الى دوامة الحلول الإقصائية حتى إشعار آخر.

تعليقات الزوار

  • محمد العزاوى

    نتأمل خير بالمستقبل القريب بجهود الوطنيين امثالكم الذين يخطون لنا الدرب الصحيح ويرفدوننا بالافكار النيره ..وفقنا واياكم لبناء وطننا المجروح والى مقالات موفقة قادمة ومن الله التوفيق

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top