أين العراق من البعد الجيوستراتيجي للديمقراطية الاجتماعية مابعد كورونا؟

آراء وأفكار 2020/08/18 06:44:45 م

أين العراق من  البعد الجيوستراتيجي للديمقراطية الاجتماعية  مابعد كورونا؟

 د. أحمد عبد الرزاق شكارة

إن أزمات العراق الراهنة تحمل بذور ديمومتها في عالم مابعد كورونا بصورة تؤكد لنا أن بلدنا الحبيب سيستمر بمواجهة "تحديات جيوستراتيجية" تندرج في ظل مايعرف ب"أزمات مركبة معقدة" .

لإغراض المقالة سأركز أساساً على البعد الجيوستراتيجي - الاجتماعي – الاقتصادي في محاولة لمعرفة الجواب على تساؤل هام : هل يستطيع العراق من خلال إعتماد حكومات تتسم بالحكم الرشيد أن تحدث تغيرات بنيوية "هيكلية" وقيمية تسرع بدورها نحو مراحل الانتقال إلى الديمقراطية الاجتماعية التي يفترض أن تلبي مطالب الشعب الأساسية الاقتصادية و"الخدمية" للعيش الكريم وبكرامة في زمن صعب جداً لايمكن التخفيف من تداعياته السلبية ولا من خطورة عدم التيقن من تداعياته الجيوستراتيجية خاصة عقب إنطلاق واستمرارية أزمة كورونا وما تحدثه من شروخ في البنيان المؤسسي الاجتماعي- الاقتصادي العراقي. 

حقيقة العراق ليس متفرداً عن دول العالم التي تعاني من تفاقم أوضاع أزمة كورونا والتداعيات الانسانية التي حملتها ولكنه ومن خلال مؤشرات التنمية البشرية لازال لم يتقدم بعد بخطوات جرئية تحفظ أمنه الاجتماعي والاقتصادي و مؤسساته البنيوية المتخصصة ما يجعله يحتل مراتب متدنية بين دول العالم . موزائيك من الطوائف ، الأعراق ، المذاهب والأديان والمناطق الجهوية كان يمكن بل وبالضرورة أن تمثل حالة تغني "تثري" Enrich أو تنمي تمكين العراقيين Empowerment of Iraqis كي ينجحوا في مواجهة تحديات الأزمات المعقدة المركبة من خلال إعتماد إدارات جيدة كفوءة ونزيهة وفاعلة تؤسس لتأمين الامن بمفهومه الشامل ومقارعة الفساد بكل أشكاله وكل القوى التي تقف ورائه من أفراد ، جماعات ، أحزاب وتكتلات سياسية – إقتصادية ومليشيات متطرفة تعتمد العنف وسائل لتحقيق أغراضها.. علما أن ظاهرة الفساد تعد الوجه الآخر للإرهاب الذي نجح العراق بضربه في الصميم (الانتصار على داعش وتحرير الموصل في نهاية 2017). برغم ذلك لازالت بعض من بؤر لداعش وغيرها من جماعات إرهابية تسعى لإيجاد مؤطئ قدم في مساحات أو فضاءات لاتخضع لسلطة الدولة الرسمية. الأخيرة جندت حملات مستمرة من كافة القوى الأمنية –العسكرية لمقارعتها وتحقق يومياً إنجازات مهمة . ما يشير أيضاً إلى أهمية مضاعفة الجهد الرسمي الحكومي في الحفاظ على السيادة العراقية . الحقيقة الماثلة للعيان أن بلدنا يقع جيوسياسياً في موقع حيوي تتجه إليه أنظار العالم كونه مفتاحاً للانطلاق غرباً باتجاه منطقة البحر المتوسط وجنوباً بإتجاه منطقة الخليج العربي . 

ترتيبا على ذلك إعتبرالعراق بؤرة حيوية للمصالح الجيوستراتيجية – الاقتصادية الدولية كونه خزاناً للامكانات الاقتصادية –"النفط ، الغاز والمعادن النادرة" ما يجعله مطمحاً للهيمنة عليه من قبل دول و "جماعات عنفية من غير الدول-VNSTA’s Violent Non-State Actors . ولكن الأهم أن إمتلاك العراق لإمكانات بشرية متخصصة في الداخل والخارج يجعله باستمرار قبلة لإنظار العالم ما يستوجب بالضرورة استقطاب الكفاءات العراقية المغيبة في داخل وخارج العراق . طاقات بشرية إن استوعبت فعلياً في مواقعها الصحيحة ستحقق للعراق دوراً جيوسياسيا – إقتصاديا وثقافياً لايقل أهمية عن أدوار قوى إقليمية أخرى مثل تركيا ، ايران مصر والسعودية بحيث يكون مفتاحاً يغير في لعبة الأمم والدول ضمن إطار من توازنات الستراتيجية مابين القوى الدولية والاقليمية .

إن إفتقاد الحكم الرشيد Good Governance بعيداً عن تطبيق النهج الديمقراطي الحق اللهم إلا شكلياً لن يسهم ببناء مجتمع عراقي متماسك وقوي مؤثر في مجريات الامور من ستراتيجيات وسياسات أومواقف . لكن الحقيقة الصادمة إن عدم التوصل لحد الآن لصيغة أو معادلة ناضجة للاندماج الوطني الحقيقي Genuine National Integration بين أطيافه وشرائحه المجتمعية المتنوعة والمتعددة لن يمكن من بلورة ستراتيجية تنموية متكاملة تتجه للدفع بإتجاه بناء وتنمية ديمقراطية إجتماعية – اقتصادية رصينة . من منظوره الاكاديمي وقبل التعمق في في تبيان ما المقصود ب" الديمقراطية الاجتماعية" عرفها الدكتور علي الدين هلال في كتابه المعنون "الانتقال إلى الديمقراطية- ماذا يستفيد العرب من تجارب الآخرين" بإنها تمثل أساساً " إحترام حقوق الانسان في معناها الشامل ، السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، وفي إطار من المساواة والعدالة الاجتماعية وتكافئ الفرص بين الجميع من دون تمييز." إن محاولات كسر المحرمات المذهبية والعرقية والجهوية "المحاصصة" التي عانى منها العراق عبر تأريخه السياسي الحديث سيقربنا من مسار سليم ورصين للديمقراطية الاجتماعية- الاقتصادية مسألة تعد في ذروة إهتمام وأجندة شباب الانتفاضات التشرينية (الأول والثاني للعام 2019-2020) التي سرعان ما تحولت مطالبها الحقة من "نازل أخذ حقي" إلى "أريد وطنا" كناية عن هوية فقدت او هي في سبيلها يراد إسترجاعها . علماً بإن الفرق بين ما توصل له الشباب من حقيقة دامغة عقب مرحلة معاناة شديدة بلغت ذروتها عقب عام 2003 مسألة ستؤسس لوضع مجتمعي – أقتصادي جديد يضاف للحالة الاستثنائية التي نمر بها عقب أزمة كورونا والتي تحمل تصورات وتداعيات ستغيير من مسارات العلاقات الاقليمية والدولية .كل ذلك يحدث بينما بقيت المحاصصة السياسية أسيرة محتكرة لعدد من الفئات والتكتلات الحزبية الاسلاموية "المذهبية" والعرقية "الأثنية" التي لم ترغب بالتنازل عنها بل أنها أسهمت لفترة طويلة (2003 -2019) في تأجيج نارها ووفقاً لوصف ثاقب للدكتور فالح عبد الجبار- وصلت الحالة لحدود"إنتشار تسيس الهويات المذهبية على نطاق جماهيري". أرجع الدكتور فالح عبد الجبار سبب ذلك إلى "إنفتاح المجال العام بلا قيود أو ضوابط حامية، وذلك نتيجة سقوط الدولة جهازا للحكم".. ترتيباً على ماتقدم ، جرى انتقال مهم جداً عقب عام 2003 ل "الهويات الجزئية من إضفاء الطابع السياسي إلى العسكرة" . علماً بإن المرء ربما من موقع أخر يمكنه أن يتقبل لفترة زمنية محددة حالة "إستثنائية " هدفها تعزيز قوة الردع لمجابهة قوى الاحتلال والارهاب الداعشي وغيره من قوى العنف والتطرف المدمر للبلاد وللعباد . ولكن ماذا عن المدى الأبعد؟ هنا يمكن أن يدعى الطرف الاميركي من قبل العراق وفقاً لمقتضيات الحوار والتفاوض الستراتيجي - كما يتضح من آراء السيد مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء - لتقديم المساعدات والخبرات العسكرية والفنية – التقنية – والتدريبية للقوات الأمنية العراقية (القوة الخشنةHard Power-) إضافة إلى أهمية توفر إمكانات أخرى في مجالات الاقتصاد والصحة والتعليم والثقافة (القوة الناعمة-Soft Power). إن تعزيز قدرات العراق العسكرية – الاستخبارية والأمنية - لابد أن تستند إلى تفعيل آليات المشاركة الفاعلة في بناء عراق يتمتع بهوية وطنية لحمتها مجتمع آمن متماسك نسبياً مرتكز على مقومات اقتصاد متين ، متنوع ومؤثر في المحيطين الاقليمي والدولي ومن خلاله يتم تفعيل أيجابي للسياستين الداخلية والخارجية للبلاد مايحفظ هيبة الدولة وسيادتها الوطنية . 

ضمن هذا التصور الستراتيجي العام لابد لنا من التطرق لمفهوم جوهري للديمقراطية الاجتماعية عرف ب"الطريق الثالث" من بناة أفكار المفكر الاقتصادي – الاجتماعي أنطوني جيدنز Anthony Giddens حيث أراد المفكر البريطاني من إطلاقه هذا المفهوم تجديد قيم الديمقراطية الاجتماعية محدداً أفكار هذا النهج في ثلاث نقاط رئيسة : الأولى : تعنى بتمكين المواطن لمواكبة مختلف أنواع التغييرات النوعية والتكييف معها في مايعرف في تقديرنا ب"عالم الاقتصاد الرقمي – السيابريCyber –digital economy" . ولعل السبب وراء ذلك التحديث سريع الايقاع يرجع لضرورة ديمومة الاهتمام بالحفاظ على قلب الديمقراطية الاجتماعية معرفاً ب"العدالة الاجتماعية". الثانية : مقابل توفر الحقوق للمواطنين عليهم التزامات ومسؤوليات متبادلة مع السلطة الحاكمة والتي في تقديري يجب أن تتمتع بالشرعية والمشروعية معاً في أداء مهامها مايعزز "الثقة المتبادلة" بين الشعب وسلطة الحكم ويقيناً تعد المسألة في زمن حرج ليست يسيرة التحقق خاصة وإن أزمات العراق الاجتماعية ، السياسية والاقتصادية والامنية معقدة - مركبة تهدد بقاء الدولة ذاتها. هذا ومن منطلق ما نعرفه في توصيف دور الحاكم المعني بهموم وآمال شعبه يجب أن يكون "سيد القوم خادمهم" وليس حاكماً مستبداً أو قامعاً للحريات وحاجبا للحقوق والحريات الجوهرية. 

من منظور مكمل للمواطنين واجبات مهمة منها عدم الاستكانة لإنتظار دعوات العمل في الجهاز الحكومي الذي اتخم فعليا بأكثر من 4 ونصف مليون موظف بل لابد أن يسعوا نحو تنمية قدراتهم المميزة بشكل مستقل حر نسبياً بعيداً عن العمل الحكومي. دور يفترض أن يستند على بناء وتطوير القطاع الخاص بصورة مخطط لها جيداً بالتزامن مع تنمية اقتصاد قوي مستدام متنوع المصادر بعيدا عن الدولة الريعية التي تستند إلى مصدر واحد إلا وهو : "الوقود الاحفوري fossil fuel أي النفط والغاز الذي يوفرأكثر من 95 في المائة من موازنة الدولة .. ولاشك أن العراق بحاجة اليوم اكثر من اي وقت أخر لجهود مواطنيه من الكفاءات المتنوعة التخصصات بضمنها "المغتربة" التي يجب أن تسند دور الدولة في تطعيم وتنمية القطاع الاقتصادي المشترك – الحكومي والخاص- بخبرات حيوية ، بالتزامن مع توفر الاموال الكافية التي تسهم ببناء وتنمية العراق ، مسألة بدورها تحتاج لرؤية استراتيجية شاملة. 

أما النقطة الثالثة فهي ترتبط بإحكام الصلة من خلال المشاركة الفاعلة بين السلطة الحاكمة والديمقراطية بمعناها او مضمونها الشمولي والملتصق بخدمة وتلبية مطالب الشعب الحياتية الاساسية . في الخاتمة أؤكد أهمية مواجهة تحديات بناء النظم الديمقرطية الحقة التي تقوم على ركائز تغطي مختلف حقول الحياة الانسانية. الدكتور عبد الحسين شعبان في دراسة عنوانها : "معوقات الانتقال إلى الديمقراطية في الوطن العربي – الديمقراطية الموعودة ... الديمقراطية المفقودة" -2003- أشار "إلى ان الديمقراطية ستظل حلما يراود الجمهور العربي ، وخصوصا بسبب أزمة التمثيل السياسي وعدم شعور المواطن بأنه ممثل ، بل هو غير معني بما يجري حوله خصوصا بضعف المشاركة السياسية في إدارة شؤون العامة، بما يؤدي إلى ضعف الشعور بالمواطنة التي ترتب حقوقا للمواطن دستورياً وقانونياً وإنعدام أو ضعف المساواة بسبب التمييز". تأسيساً على ذلك ، لابد من إلغاء المحاصصة السياسية المقيتة كونها ببساطة تقف بالضد من الديمقراطية بمعناها الشمولي الذي يؤكد على ضرورة أحترام الاخر والتعايش مع أفكاره وقيمه وثقافته دون اللجوء للقمع ( الاستبداد) . دون ذلك سنجد النظام السياسي في بلادنا يفتقد للهوية الوطنية الجامعة بنفس الوقت الذي تسلب منه إرادة محاسبة من يستحق المحاسبة وفقا للقواعد والالتزامات الوطنية مايسمح بمزيد من التفكك والاعتداء الصريح على الحريات والحقوق الانسانية في إنتهاك صريح للديمقراطية الاجتماعية بل وللديمقراطية شكلاً ومضموناً.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top