الإستقطاب في فرنسا: الأمل يموت منذ البداية

آراء وأفكار 2020/10/21 07:15:59 م

الإستقطاب في فرنسا: الأمل يموت منذ البداية

 الأماني نيلز مينكمار

ترجمة: عادل حبه

حاول إيمانويل ماكرون في خطابه يوم الجمعة (4 أيلول 2020) بمناسبة الذكرى 150 لميلاد الجمهورية الفرنسية، كسب قلوب وعقول مواطنيه. وتحدث الرئيس الفرنسي أمام البانثيون، قاعة مشاهير المتوفىين البارزين والمتميزين في التاريخ الفرنسي، ومكان الإجتماعات العامة، وقال إن الجمهورية غير قابلة للتجزئة، وهو شعار فرنسي قديم يمنح الأمل والتشجيع.

كما هو شائع في الخطاب السياسي الفرنسي، تثير هذه الجملة مشكلة لأنها تصف معياراً هو: يجب أن تكون الجمهورية غير قابلة للتجزئة، ولها حقوق وواجبات متساوية للجميع، في حين يجب بذل الجهود لتحقيق هذا الهدف. وليس من الصحيح التعبير في هذه الجملة كما لو كانت تصف الوضع الراهن.

هنا تتكشف الفجوة بين ما تطمح إليه فرنسا بشغف وما يتم مشاهدته راهناً على أرض الواقع. لأن المجتمع الفرنسي اليوم أكثر انقساماً من أي وقت مضى: في مواجهته للإسلاموية ، ومعاداة السامية الجديدة وعنصريته، وتقييمه لماضيه الاستعماري.

أصبحت فرنسا دولة غريبة بالنسبة لمواطنيها، فقد يتردد الفرنسيون في تصديق ماكرون عندما يتحدث عن الوحدة. ولكن كلما يصر ماكرون أكثر على ترديد هذه المقولة، تزداد الشكوك القوية بأن فرنسا لا تعرف كيف تتغلب على مشاكلها.

لقد بان هذا الشك والتردّد على العيان مؤخراً في جلسة محاكمة بدأت هذا الأسبوع لمحاكمة الأشخاص المشتبه في تعاونهم مع المهاجمين على مجلة "شارلي إبدو" المصورة ومتجر "هايكر كوتشر" هذا الأسبوع ؛ محاكمة تاريخية مع عدد لا يحصى من المتهمين وجلسات محاكمة كثيرة. ويتم تصوير جميع جلسات المحكمة من أجل المستقبل.

هناك توقعات كثيرة حول محاكمة جنائية ضد المتهمين بهجمات كانون الثاني عام 2015. إن المتهمين في الغالب هم مجرد مجرمون تافهون لا علاقة لهم بالإسلاموية. يبدو الأمر كما لو أن محاكمات نورمبرغ قد أجريت ضد سائقي وأمناء أمانة الرايخ الثالث.

على أي حال، لكن هل أن القانون ولغة الحجج والأحكام التي يجب إصدارها قادر على التخفيف من الرعب الذي يعم فرنسا التي لا تزال في حالة صدمة؟ هذا مجرد وعد. لكن إحساس وحال البلد في وضع يشير إلى أن الأمل يموت منذ البداية.

في أعقاب الهجمات الإرهابية في كانون الثاني عام 2015 ، أصبحت فرنسا موحدة لدرجة لم يسبق لها مثيل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ولحد ذلك اليوم. وأعادت فرنسا الإعتراف بنفسها وبقيمها في الإيمان بهؤلاء الضحايا. "أنا تشارلي" (Je suis Charlie) - الشعار الذي اتفق عليه الجميع بشكل عفوي، لأن الروح الموجودة في الرسوم الكاريكاتورية للمجلة كانت في الواقع أحد مصادر الهوية الفرنسية: الحرية.

لكن الشعار "أنا تشارلي" تسبب في آثار جانبية معقدة، لأنه لم يجر هناك أي نقاش حول من هو تشارلي حقًا. في الواقع، أن يكون تشارلي يعني ضمنياً أنه يجب على المرء أن يبدي نفس الشجاعة التي أبداها أولئك الذين قتلوا في "الهجوم الإرهابي". ومن يستطيع أن ينسب تلك الشجاعة إلى نفسه بضمير ووجدان مرتاح؟

تشارلي ملتزم بهذا التقليد الفرنسي الخاص جداً الذي يمكنه من انتقاد أو السخرية من أي شيء أو من أي شخص. في تشارلي نرى كل كاهن شهواني تجاه الأطفال وكل شرطي هو "حمار" يميني. عندما تأثر العالم أجمع بصورة كبيرة لــ "آلان كردي"، احتفل تشارلي برسم صورة لجسد آلان أمام ملصق ماكدونالدز مع شعار "بالعافية". وكان عنوانه: قريب جداً من المرمى.

لكن ليس كل شخص يمكن أن يكون تشارلي. والبعض لا يريد ذلك، لأنهم لم يأخذوا هذه الحجة في الحسبان. 

على سبيل المثال، دانييل أوبونو ، ممثل حزب "فرنسا الصايعة" (France Insoumise) اليساري ، والذي كان دائماً هدفًا مفضلاً لليمين، ولديه مشكلة مع مجموع أعمال تشارلي. لهذا السبب ، تعرض لانتقادات شديدة من قبل الصحفي إريك زمور، الذي ناقشه بوقاحة من موقع اليمين المتطرّف. بعد الهجوم على مكتب تشارلي إيبدو، سُئل أوبونو الأسود في مقابلة عما إذا كان يشعر بأي حزن وغم جراءالهجمات، وهو ما كان يقصده بشكل مفهوم للتشكيك في إحساسه بالإنسانية ونوع من التمييز من خلال الاستجواب: "هل تعتقد أن مثل هذه المذبحة بحق الناس العزل جيدة أم سيئة؟"

في رواية عن تاريخ الاتجار الأفريقي بالعبيد في القرن الثامن عشر، وصفت مجلة "القيم المعاصرة"(Valeurs actuelles) ، أوبونو(Obuno ) بأنه عبد نصف عاري يرتدي معطف مهلهل. ورفع أوبونو دعوى قضائية ضد المجلة. إن المثير للسخرية في هذه القصة هي أن الأفارقة كانوا هم أيضاً متورطون في الاتجار بالبشر ؛ وهو أمر يدركه كل طفل في المدرسة الابتدائية، ولكن يتم إعادة التأكيد عليه هنا، والمحتوى واضح تماماً وهو: ليس فقط "نحن البيض" كنا أشخاص سيئون ، ولكن آخرين أيضاً كانوا من نفس الطينة.

من هو الضحية ، ومن هو الجاني - هذا ما تحوله الجدل حول أيبدو الآن إلى فرنسا إلى هذا المستوى، وهي أفضل فرصة لإدارة ظهورنا حول ماجرى في السنوات الماضية. لأنه لا يوجد في الحقيقة أي تنوير أو تعليم حول التاريخ الاستعماري لفرنسا، والحرب الجزائرية ، والعلاقات مع إفريقيا. إن قلة وجود معرض كبير وشامل حول التدخلات والوعود والهجرة والدعاية في سياق علاقات فرنسا مع المغرب العربي وأفريقيا السوداء هو أمر محسوس بشكل جدي.

سكان الضواحي ليست لديهم حقاً فرصة للتحدث حول هذه الأمور. ويُنظر إلى محاولة اغتيال "شارلي إيبدو" على أنها هجوم خارجي من قبل قوى أجنبية. لكن هذا كان هذا جزءاً من الحقيقة فقط.

كان رد الفعل السياسي للرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا هولاند هو حرمان مرتكبي مثل هذه الهجمات من الجنسية الفرنسية. وكأن الفرنسيين لا يمكن أن يكونوا إسلاميين قاتلين، لأنه لم يكن من المفترض أن يكونوا كذلك. وهنا أيضاً ، تتبين الفجوة بين ما يجب أن يكون عليه الفرنسيون وما هم عليه الآن في بعض الأحيان.

عرض الكراهية

مارك فايتسمان هو أحد أكثر الشخصيات المعنية بالتنمية الثقافية والسياسية في فرنسا. ويصف في كتابه " وقت الكراهية" (Un temps pour haïr)، كيف أدى رفض مواجهة معاداة السامية المتجذرة المتنامية بسرعة، إلى وضع مسموم.

ويستطرد قائلاً: "يبدو الأمر كما لو أن الصفوف الأيديولوجية المتشكلة من الشيوعيين والديغوليين قد تلاشت، وما يظهر في العمق هو شيء لا يريد أحد أن يراه أو يسمعه: كراهية عميقة الجذور للسامية وللحداثة". كل الأفكار غير السارة حول فرنسا نبيلة وريفية وأبوية. هذه الأشباح لا تزال تدور. في غضون ذلك، أدى رفض الفصائل الليبرالية اليسارية وعدم قدرتها على ردود الفعل تجاه للإسلاموية الناشئة إلى تفاقم المشكلة.

كيف نبني جسور الثقة ونتغلب على الصمت؟

لقد أعمى التضامن الخيري مع المهاجرين الأنظار لرؤية الأجندة السياسية للوعاظ وأتباعهم. وأضافت الاغتيالات أبعاداً جديدة لهذا المزيج الأيديولوجي: عرض الكراهية والعنف والتشدّد، وهو ما يعمق، بحسب ويتسمان ، الكراهية من المثقفين. وكما جرى في عقد الثلاثينيات من القرن الماضي، يتم الإشادة برجال الأعمال و "الثرثارين" معتدلين ، وبرز نوع جديد من أنواع القسوة والعداء ليصبح سمة من سمات البلاد.

يرى البعض أن ماضينا الاستعماري لم يتم مراجعته، ويرى البعض الآخر مقتنع بأن تغييراً كبيراً في التركيبة السكانية يحدث حيث يحل الأفارقة مجل السكان الأصليين (سكان أوروبا القدامى).

وتنشر نظرية المؤامرة اليمينية شديدة الفعالية على موقع تويتر يومياً تقريباً بواسطة رينو كامو، وهو كاتب يعيش في قلعته في جنوبي فرنسا. الحنين إلى الذكورية توحد الفصيلين؛ حيث يتفق كل من الإسلامويين واليمينيين المتطرفين على إبراز إعجابهم بالمسلحين والاشمئزاز من النساء القويات والرجال ذوي الكلام الرقيق والأفراد متعددي الأوجه.

إن ما يحدث في فرنسا هو شيء بنيوي في فرنسا، وصراع حول الحضارة والهوية. فكيف تبني جسور الثقة والتغلب على الصمت؟ أي تطرف يسمم الخطاب بدلاً من التقدم؟ ومن هو تشارلي؟.

مجلة دير شبيغل الألمانية

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top