رزاق عداي
عندما يكون هناك أكثر من ثلاثين ألف ملف فساد تلاحق طبقة سياسية فاسدة تفننت في مداورة السلطة فيما بينها، أظن أن بامكاننا أن نصفها بأنها لا منتمية الى بلدها أبداً، لأن دالة الصلة معه مبنية على أساس الإثراء والمغانمة فحسب، وبممارسة هي أشبه باللصوصية والنهب دون أية وشيجة اخرى.
وشعور اللاانتماء يرادف مفهوم الاغتراب والذي يعرف على المستوى الفردي بانه الانفصال عن الذات والبيئة المحيطة والذي ينتج لاحقاً سلوكاً غير سوي، هذا في المجال النفسي، أما في المجال العام الاجتماعي فأنه سيتمخض عنه إجرائية سلوكية لامنتمية تقع في النطاق الاجتماعي. بروز الحالة اللاانتمائية ، إحدى أبرز تجلياتها في العراق تتمثل في ظاهرة الفساد المتفشي في مفاصل الدولة في المرحلة الراهنة ، المسبوقة بمقدمات ذات طابع تاريخي غير ممؤسس الى حدٍ ما ، فبدت ظاهرة صغيرة ومحدودة آنذاك، أو هي حالة فردية بلورتها عوامل ومسوغات اجتماعية، إذ لم تلبث أن تفشت وانتشرت على سطح الجسد الاجتماعي بشكل مرضي، لتشكل انهياراً قيمياً واسع النطاق.،----
ولتعقب مقدمات حالة اللاانتماء في المجتمع العراقي ينبغي استحضار بعض الظواهر في السنوات التي سبقت الاحتلال في 2003، التاريخ الفاصل، وليس المنقطع تماماً على صعيد الفساد على الأقل، فشيوعه واستشراؤه بخطوات تصاعدية، وتحديداً منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، كانت تختفي خلفه. نوايا ومقاصد من قبل السلطة انذاك بغية تحقيق تشويه مجتمعي مقصود، لإبعاد الأفراد والجماعات عن التفكير السديد في مصائرهم وشؤونهم العامة وبالاْخص منها السياسية ، والزج بهم في فضاء ملوث، بغية دفعهم للمواظبة على سلوك أخلاقي شائن، وكل هذا من أجل قلب المعادلات الاخلاقية الرصينة التي اعتادها المجتمع العراقي سابقا.
فالدولة، في ذلك التاريخ الذي تزامن مع الحصار المطبق على المجتمع العراقي، كانت قد رفعت يدها عن المجتمع العراقي وتركت الأمور العامة للدولة ومسؤوليتها شبه سائبة ، لتكريس ولخلق حالة من التزاحم الاجتماعي والتسابق على المنافع التي مهّدت الى بروز سلوكية انتهازية متجردة من القيم، فصار المواطن العادي يواجه خيارات محدودة، في طليعتها الموت جوعاً هو وأسرته، أو خيار التنازل عن قيم نزيهة وسامية وكانت الأرضية الاجتماعية موروثة من حقب طويلة سابقة ، قد مهّدت لهذه الأوضاع بعض المسوغات التي بات يرى المرء بان لا مفر من التجاوز على القيم القديمة والسباحة مع التيار، وكانت هذه الخطوة الأولى هي في التخلي عن الانتماء الوطني وولوج منطقة اللاانتماء خصوصاً في حمية الفساد العام في مجال العمل في مؤسسات الدولة. وبشرح مبسط هو أن يكون جسد الدولة-الوطن مستباحاً، وأشبه بالفريسة، عليك أن تنتزع أكبر قدر مما تتمكن منه قبل أن يسبقك الآخرون في نهشها ، هذا دون وازع أخلاقي أو ديني. لأن القضية بدت تتعلق بالبقاء أو بدونه،--
في عقود ، مر بها العراق ، ليست بالبعيدة كثيراً، كان المرء يطارده الشعور بالإهانة العظيمة إذا ما أشير إليه بتهمة الحصول على الرشوة - مثلا، ولكن انقطاعاً حدث بعد ذلك أدى الى تناقص في هذا الشعور، وحل محله سلوك مضاد له ومعاكس فصار مثل العرف في السلوك الاجتماعي، وبات نمطاً من المهارة والتشاطر، فما يخشى منه ويجري في السر أصبح مشهراً به وبمنطق التباهي في سياق من الشذوذات التي تفشت قيما سائدة في أوساط الشعب.
بعض علماء النفس السياسي العراقيين، يحدد ثلاث ولادات للشخصية العراقية تشكلت في حقبة الدولة العراقية الحديثة، فالأولى كانت مع البداية في مطلع عشرينيات القرن الماضي، فرغم المستوى المعيشي المتدني للمجتمع العراقي انذاك، إذ انغرزت في بنية المجتمع أعراف تسمو بوصلتها باتجاه بناء دولة حديثة. وكأن المجتمع العراقي ينمو تصاعدياَ ،--
ولو أننا أخذنا عقد الاربعينيات من القرن الماضي كعينة بنيوية لمجتمع عراقي، سنلمس بروز مؤشرات حداثية باهرة منطلقة ومتوائمة مع ولاء للدولة العراقية ومن رغبة في البناء المتفاني، الذى دعا أحد الزائرين الأجانب بأن يصف الشخصية العراقية آنذاك ، بأنها وثابة وتميل الى الحداثة والتجديد، فقد برزت طبقة برجوازية صناعية ناشئة وإن كانت محدودة ولكنها طموحة، اقترنت معها طبقة عمالية واعية، ونقابات، وصحف متعددة، وأحزاب، وشوارع، وكهرباء، وحصل توسع في الأفق الثقافي، تجسد في ثورة جذرية في الشعر، ونشاط مسرحي، وانشغال تشكيلي متقدم. كل هذه التطورات تواشجت مع شعور انتمائي عميق، طبعا كل هذا لم يتحقق مالم يتوفر احساس عارم بالمواطنة، متجسدة في منظومة قيمية -اخلاقية متوازنة حتمها واقع الشعور بالانتماء.
الولادة الثانية للشخصية العراقية حصلت فيما يمكن تسميته بالشخصية الحصارية- التي انبثقت مع كل مساوئ الحصار الذي خيّم على سنوات تسعينات القرن الماضي، والذي احدث تفكيكا وتشويها في كل البنية المجتمعية العراقية، لقد كانت هذه المرحلة تعد مرحلة تمهدية لحدوث الولادة الثالثة للشخصية العراقية بعد الاحتلال في 2003.
لقد كان بناء الدولة في اعقاب الاحتلال هو الذي أسهم بقوة في تركيز وتكثيف السلوك اللانتمائي في الشخصية العراقية، وكان من تبدياته شرعنة الفساد وتلوّنه وانتشاره في كل مفاصل الدولة.
خطاب الدولة عبر مؤسساتها في البرلمان والدستور، انتج المحاصصة المولدة للفساد بضراوة، فاشغال المناصب يجري بمعيار التحاصص والمغانمة أما القوى السياسية التي شكلت ما يسمى بالطبقة السياسية فقد قدمت من الخارج وهي معبأة بدعوى المظلومية والتهميش من قبل النظام السابق، التي وظف وكرس هذا الإدعاء بمهارة في مادة في الدستور العراقي في - 2005- للاستحواذ على أموال الدولة كاستحقاقات طائلة ، وشرعنة للسرقة ونهب موارد الدولة. التظاهرات التشرينية 2019 الأخيرة التي اندلعت كحركة مقابلة لحالة اللاانتماء الذي خيم على بنيات المجتمع العراقي، هي صيرورة حتمية لا بدّ منها لبلوغ حالة الانتماء الأصيل بدلاً من اللاانتماء.
اترك تعليقك