رواية ( جنوني ) لجان بيير مارتن :انكسارات إنسانية نفسية فـي مرآة الجنون

رواية ( جنوني ) لجان بيير مارتن :انكسارات إنسانية نفسية فـي مرآة الجنون

ترجمة : عدوية الهلالي

في روايته الرقيقة والحزينة ( جنوني ) ، يتخذ الكاتب جان بيير مارتن من الجنون موضوعاً لها ، هذا الجنون الذي يمكن أن نلتقيه في زاوية الشارع ،أو نصادفه في المترو ،

هذا الذي يحوم حولنا دون أن نلاحظه والذي يلقي عليه المجتمع ستاراً ، أما بسبب الإحراج والحياء أو بسبب الانزعاج والخوف . في الرواية ، يمنح المؤلف أجساداً وأصواتاً ،دون صخب أو غطرسة ، ولكن بدقة طريفة بقدر ماهي مؤثرة ، لأولئك الذين لانحبذ رؤيتهم غالباً ونتظاهر بعدم سماعهم ..وبهذه الطريقة ، يجعل جان بيير مارتن من الجنون مرآة صقيلة عاكسة لطبيعتنا المزعومة ..

تبدأ رواية جان بييرمارتن بصوت الفتاة ليتيسيا وهي تروي حلماً سوريالياً للراوي ساندور قبل أن يتابع طريقه ..ويتمتع ساندور بالقدرة على معاملة أولئك الذين ندعوهم (مجانين) بشيء من التحدي والحنان ، فيسعى الى صحبتهم، منقاداً بتعاطف حذر لأنه يبغي فهمهم قبل كل شيء ، كل ذلك لأنه فقد ابنته كونستانس بطريقة أخرى غير الموت بعد إصابتها بانفصام الشخصية .. ويشعر ساندور بأن صوت ليتيسيا وحضورها يعوضه عن غياب وصمت كونستانس لكن الكآبة تحاصره وتنخره ، فهو يشعر بالفراغ وبأنه ضائع تماماً ..يعترف ساندور قائلاً :" أحياناً لاأكون سوى مجرد أذن لدرجة أن الآخرين يملونها بهذياناتهم " ..بهذه الطريقة كان ساندور يبرر تواجده بين تلك ( الأجساد التائهة)التي كان يقابلها مصادفة ، كان يستقبل من يقابلهم بقلق شبه وسواسي ، فيتلقى أصواتهم ونبراتهم وكلماتهم وجنونهم ..أصوات حانقة ومخنوقة أو صارخة وربما صامتة ..

من الواضح إن رواية ( جنوني) هي رواية تعالج موضوع مرض انفصام الشخصية بدقة فالراوي حساس جداً للانكسارات النفسية التي تكشف عنها نبرة غير عادية وطريقة نطق سريعة وغير تقليدية وضحكة بليغة الى حد ما ، خاصة وإن المجانين مثل الممثلين في المسارح الجوالة :" إنهم يتحملون مسؤولية جزعنا ومعاناتنا " فيصنعون منها مشاهد مسرحية يقدمونها في عرض الشارع دون أن يقصدوا ذلك .مسرح غاضب أو كوميدي ، لافرق ، المهم إنه وقبل كل شيء يشكل مرآة عاكسة لعذاباتنا ول" طبيعتنا " البشرية ، لأننا نسمع في تلك الأصوات انكسار الروح ووجع النفس ..

يراهن الكاتب جان بيير مارتن على الصوت الذي يتحول الى كلمات ناقصة فهل سيهزم الجنون اللغة ؟ أم أنه سيكشف في كل الاحوال عن العيوب فيها ..في الرواية ، ستصبح اللغة سطحا عاكساً وغامضاً في نفس الوقت ..انها تزيح الستار عن شفافية الحد الفاصل بين علم الأمراض والحالة الطبيعية المفترضة..فاذا اعتقد الراوي إنه يساعد المجانين ، فالعكس هو الصحيح لأنهم هم الذين يبقونه واقفا على قدميه ...لكنه سينسحب الى الأسفل ببطء وبشكل غير محسوس ، وبالتدريج ، تظهر العلامات الاولى لجنونه وانهياره من خلال اللغة التي تعبر عما يشعر به إذ يبدأ بترديد عبارات مثل :" أنا اقرأ مثل مجنون "،" بدأت أسير بجنون " ،وهكذا ، وببراعة ، يكشف الراوي عن التذبذب التدريجي للحدود بين المجانين والراوي ، إذ تغزو الهستيريا ساندور فيقول :" فجأة ، صرت اسمع نفسي وأنا اتحدث بصوت عال ..إنه لست أنا، إنه صوتي !!" وبالتدريج ، يصبح انفصام الشخصية لدى الراوي ليس مرضاً بقدر ماهو وجود فيجعله يغرق في الاكتئاب ..

ومن خلال هذا الاهتمام الدقيق بالصوت ، ومن خلال استخدام اللغة واستنطاقها ، يمكن مقارنة رواية مارتن بمسرحيات المسرح الحديث لكتاب مثل أوجين يونسكو وآرثر أداموف لأنها تحوي نفس الدعابة المحزنة ، فبقدر ماسنضحك على مغامرات الراوي وأبطاله المجانين ، ستصادفنا انفجارات من الألم عندما يتحدث المجانين بين بعضهم البعض بهدوء ، إذ غالبا مايكون التعبير اللطيف لدى جان بيير مارتن دلالة على أشد أنواع المعاناة ، فمن الجمل الواردة على ألسنة المجانين :" منذ رحيل طفلنا ، نعيش أنا وايف في مكان غير هادئ، لدرجة إننا نشعر أحياناً بأننا غرباء عن الآخرين وعن أنفسنا " ، أو " نشعر دائماً بالذنب عندما نغادر مستشفى الأمراض العقلية" .

( جنوني) ، هي رواية مكتوبة بشكل مؤثر كما إنها مناسبة لتغذية الفكر وتعميق المشاعر فضلاً عن كونها طريفة جداً ..إنها رواية من عصرنا لأنها تستجيب لحالة طوارئ حقيقية في صميم وجودنا ..

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top