الدولة الراكدة

آراء وأفكار 2021/01/17 07:01:05 م

الدولة الراكدة

 د. اسامة شهاب حمد الجعفري

لا تنشأ المجتمعات التاريخية إلا في كنف الدول , حيث لا سبيل لكي تتقدم و تنتج و تتراكم و تنظم كيانها الداخلي إلا في ظل هذا الاختراع الإنساني العظيم المسمى بـ "الدولة" . و تتفاوت الدول في درجة فعاليتها و تطور نُظمها بتفاوت مستوى التنظيم الذاتي للجماعات الاجتماعية التي تعمل بداخلها , و أهم هذه الجماعات هي الجماعات المهنية , فكلما نضجت فكرة الدولة في وعي الجماعات المهنية كلما كانت سبباً لتنشيط دور الدولة في حياة المجتمع لتنتج أشد المجتمعات تماساً عبر التاريخ.

أظهرت الدراسات السياسية و القانونية و الاجتماعية العديد من أنواع الدول منها الجيد كنموذج دولة القانون و دولة الحق و دولة الرعاية الاجتماعية , و منها السيئ كالدولة الفاشلة و الدولة الرخوة , و يمكننا أن نضيف – من جانبنا – نموذج آخر من نماذج الدولة السيئة المضرة بالمجتمعات و هي الدولة الراكدة التي تظهر عندما يختفي أثر الجماعات المهنية على الدولة .

النمو Growth نزعة إنسانية طبيعية للفرد و المجتمع , و يكون من خلال بروز حاجات جديدة تؤكد حقوق الكائن البشري و كرامته الذي يعيش في كنف الدولة مما يؤدي بالضرورة الى توسع نشاط الدولة لمواجهة هذا التجدّد في الحقوق , فنمو الدولة خصيصة ملازمة للنمو الاجتماعي و لا يقبل الانفكاك , و تنشيط الدولة يكون من ازدياد حراك المجتمعات نحو المطالبة الواعية لحقوقها التي تؤكد كرامتها , على الرغم من أن الدولة في المجتمعات الحديثة هي المسؤولة عن تأمين هذه الحقوق و حمايتها , إلا أنها لا تعمل لوحدها مديراً و ضامناً لحقوق المواطنة فهناك جماعات ثانوية تعمل بشكل متواصل مع طرفي المعادلة الحقوقية : مع الفرد للوقوف بشكل عملي على حاجاته و حقوقه المستجدة و مع الدولة لتكون دليلاً على حقوق المواطنة لتعبر عنها أمام الدولة تعبيراً منظماً واعياً مما تتسبب في تنشيط الدولة في وظيفتها الأساسية فيحصل هناك نشاط غير متوقف في كل مؤسسات الدولة نحو غاية واحدة هي المواطن , و هذا الدور الكبير مسند الى الجماعات المهنية في تلك المجتمعات الحديثة . و لكن قد يحصل النقيض عندما يكون هناك نمو اجتماعي في الحقوق و الحاجات و لا يقابله نمو وظيفي نوعي للدولة لمواجهة هذا النمو الاجتماعي و في الوقت ذاته لا يقابله فاعلية للجماعات المهنية في المطالبة بحقوق المواطنة لدفع الدولة نحو النمو و النشاط فيختفي أثر هذه الجماعات على الرغم من وجودها فيصيب الدولة الركود و التوقف عند نقطة معينة و لا تملك القدرة على تجاوزها لمرحلة أخرى , و الذي يحرك هذا الركود من موضعه هو فعل الجماعات المهنية المستمر و المؤثر في مراكز صناع القرار في الدولة لتكوين قوة ضغط جماعي على هذه المراكز من أجل أن تتجاوز الدولة أزمتها في الركود الوظيفي لما تتمتع هذه الجماعات من استقلال و تنظيم و إمكانية الوصول الى مراكز صنع القرار . 

جاءت الجماعات المهنية من رحم السعي الدائب نحو العدالة الاجتماعية في الدول الرأسمالية التي ركدت على الاقتصاد و الربح دون أن تتجاوز الى مراحل أخرى فاستطاعت هذه النقابات أن تقوم بدور الترويض للدولة الرأسمالية و ترشيد رؤيتها القيادية لتجبرها بالنهاية على طرح النظرية الاجتماعية التي تكفل تحقيق العدالة الاجتماعية داخل المجتمع , فأول إنجازاتها إنها اجبرت الدولة على طرح قوانين اهتمت بحقوق العامل ثم استمر عمل الجماعات المهنية نحو قوانين الرعاية الاجتماعية لكل المواطنين كقوانين العدالة الاجتماعية التي تطبق العدالة في توزيع الثروات و القوانين المتصلة بالصحة العامة و قوانين أخرى تهتم بالإنسان في مراحل العجز أو الشيخوخة ثم استمر العمل تلك الجماعات الى كل الميادين التي تديرها الدولة من تعليم و جامعات و قضاء و صحة و خدمات و غيرها من حقوق المواطن لتكون هذه الجماعات بسبب عملها المنظم سبباً لجذب المواطن و الدولة معاً و جرهما الى سيل الحياة العامة بدل من الركود , و لا سبيل للخروج من ركود الدولة إلا بوجود شبكة من سلسلة من الفئات الثانوية تجمع الدولة و المواطن معاً , و الجماعات المهنية هي الفئات المناسبة لملء هذا الدور و ذاك هو مصيرها و قدرها في تحريك ركود الدولة تجاه المواطن , وتحريك ركود المواطن تجاه الدولة. لخلق دولة ناشطة شبابية في أداء وظائفها.

إضافة الى أن توسع الدولة في الحياة الاجتماعية أدى الى أن تصل الدولة الى أبعد نقطة من البيروقراطية فتصبح دولة راكدة و وكالة ساكنة منعزلة عن مصالح الجمهور و الأفراد في المجتمع المدني , و هذا الواقع يمكن أن يكون موجوداً و قائماً إذا لم تنمُ فئات ثانوية نمواً قوياً فتتدخل بين الفرد و الدولة , فاذا كانت هذه الفئات قوية قوة كافية لإقامة التوازن المجتمعي مع الدولة فمن الممكن حماية حقوق الأفراد , فبروز الجماعات المهنية لاشغال مناطق الاتصال بين الفرد و الدولة في النقاط العقدية - نقاط الاتصال و التبادل – إشغالاً أخلاقياً يتمتع بالنزاهة الأخلاقية له الأثر البالغ في تفعيل دور الدولة لأداء وظائفها التي خلقت من أجلها , فكلما كانت هذه النقاط العقدية فارغة من اشتغال الجماعات المهنية المؤثر فان ذلك يؤدي بالنتيجة الى ركود الدولة و سكونها في نفس المنطقة التي توقف عمرها فيه و هذا الركود يقود الى اضمحلال الدولة شيئاً فشيئاً بتصاعد متطلبات المواطن و مستجدات حقوقه و تصاغر الدولة عن إمكانية تلبية هذه الحقوق المستجدة يوماً بعد يوم .

إن اشتغال الجماعات المهنية لتكون حلقة تواصل بين الفرد و الدولة يعزز من التنظيم الأخلاقي للدولة باتجاه حركتها الدؤوب نحو شبابية الدولة و يمنع من شيخوختها و تقاعدها المبكر لأنها المجسات غير الرسمية للدولة في الوقوف على المشاكل الاجتماعية التي يعاني منها المجتمع و الفرد و هذه المجسات نتيجة لما تتمتع بالحرية فانها تكون أمينة في نقل الحقائق و المشاكل طمعاً في حلها و تلبية المتطلبات الاجتماعية لتكون سبباً في تنشيط دور الدولة و الداعي لاستمرارها لتكون دولة حاضرة دائماً بدل من أن تكون غائبة أو ساكنة دائماً . هذه المهمة لا يمكن إنجازها من قبل الأسرة أو العائلة التي بدأ يتقلص دورها الاجتماعي , الجماعات المهنية أو الأسر المهنية هي وحدها القادرة على هذا الدور لجذب الدولة نحو الفرد لما تتمتع به من تنظيم و وعي جيدين لإشغال مناطق الاتصال المفقودة .

فالنقابات المهنية لا يمكن النظر إليها على أن دورها يقتصر على المطالبة بحقوق أعضائها فهذه نظرة قاصرة , بل هي تمتلك أدواراً كبرى في مسألة تعزيز النزاهة الأخلاقية للدولة الغائبة عن الفرد و تقوم بالإحضار الفوري للدولة و إيقاظها من سباتها تجاه المواطن و ووضعها أمام وظيفتها لأجل التقدم بهذه الوظيفة و النمو بدل من السكون و الركود . و هذا هو الدور الاجتماعي الغائي الذي تنتجه الجماعات المهنية بدلاً من التعبير عن المصالح الخاصة من خلال ديناميكية عملها . 

تكون الدولة كفوءة و مستمرة العمل و النشاط و غير متقاعدة و تكون ديمقراطية "تقريباً" عندما تكون بين الدولة و الفرد عملية تواصل و هذا التواصل تقوده الجماعات المهنية لذا فهو يتصف بالتواصل غير الفوضوي و يمتاز بالتنظيم و يأخذ طابعاً واعياً و موجهاً لتكوين رأي عام واعٍ و غير مصطنع و نابع من الحقيقة الاجتماعية التي يعيشها المواطن , و هذا الرأي العام الواعي يكون ضاغطاً على إرادة الدولة لانتشالها من حالة الركود التي تظهر على الدولة نتيجة غياب التواصل لتكون دولة تتمتع بالكفاءة و الفاعلية , فلا توجد مجتمعات يمارس فيها الجميع الحكومة ممارسة مباشرة و بصورة مشتركة , فالحكومة دائماً في أيدي أقلية مختارة و لا تضم إلا حلقة من الأفراد التي لا يمكن أن تنجو من عيب البيروقراطية الذي يصيب الدولة لتتقيد بالركود و السكون و الجمود , و الجماعات المهنية تخلق قوة دافعة للدولة لتتجه نحو تلبية مصالح المواطن و المجتمع لتكون فعلاً مجتمعاً ديمقراطياً بالمطالبة الواعية و الموجّه فتصبح الكثير من الجوانب الحياة التي تحكم سابقاً بالعادة و بلا تفكير معرضة لتدخل الدولة برؤية جديدة لتأخذ دورها في هذه المناطق لتشارك الدولة بشكل فاعل في الحياة الاقتصادية و في إقامة العدالة و تطوير التعليم و الفنون و حماية البيئة و غيرها من جوانب الحياة. لأن للجمهور مطالب و حاجات غير مفصح عنها و غير واضحة تقوم الجماعات المهنية بالكشف عنها و التعبير عنها للدولة بعد صقل هذه الحاجات بالتنظيم و الوعي لتكون الجماعات – بحق – عقلاً مجتمعياً مرشداً للدولة و منظمة للفرد لتكون للمواطن الفرد قوة مجتمعية ضاغطة على الدولة , فالدولة مصدر لكثير من الأفكار المستحدثة و تملك قوة كامنة يمكن لهذه الجماعات أن تطلق هذه القوة , فالدولة تقود المجتمع قيادة واعية بمقدار ما تنقاد له بعيداً عن الركود و لا تكون أسيرة التقاليد . 

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top