الأمكنة تروي وقائعها .. قراءة في ( داخل المكان..المدن روح ومعنى )

الأمكنة تروي وقائعها .. قراءة في ( داخل المكان..المدن روح ومعنى )

 كاظم غيلان

يجتمع الأب المعلم بأبنائنه ليعلمهم زخرفة الحرف العربي ، الأولاد يكبرون فينصرفوا لعالم الفنون الصحافية وتصاميمها بينما تمتد يد الفاشية لتحظى بسرقة حياة أحدهم( سامي) فتخفيه عن الحياة ولم يعد له أثر إلا في ذاكرة الخلود .

من هنا تبدأ موهبة الكتابة وتفتّقها لكبير الأولاد فيصدر لنا أسرار الأمكنة ويكشف لنا عن روايات دهورها العراقية.

يحفل الإصدار الأخير للباحث والكاتب العراقي د. جمال العتابي ( داخل المكان _ المدن روح ومعنى) الصادر عن دار سطور العراقية بواقع( ١٧٦) صفحة من القطع الوسط بوقائع المكان العراقي بدءاً من ( الغازية) حتى ( شارع المتنبي) .

الأمكنة في كتاب العتابي مولعة بالهموم والصراعات، قصبات تجاور مياه ( الغراف) تئن فقراً وتتطلع عبر أحلامها لتلك الحرية التي نأت بعيداً.

مدن ووقائع توزعت تناقضات طقوسها ولهجاتها وانتماءات شبابها المبكرة بشيء من ولع الحقيقة ونقاء الضمائر عبر حقب الصراعات السياسية الدامية والاندفاع البهي نحو بناء إنسان جديد يحق له مالايحق لغيره من عبيد الطغيان والتسلط ، ولربما أشار الكاتب د. أحمد الزبيدي في مقدمته للكتاب بشيء من الدقة عن اعتماد المؤلف للسرد كوسيلة تصل بنا إلى حيث ما كشف عنه لاسيما في ( مدينة الحرية _ عمارة إنسانية ) وعبر حلقاتها الثمانية التي أخذت الحيز الأكبر من الكتاب، فقد منحنا العتابي كل مايدهش من وقائع ومخفيات عن صندوق أسرار هذه المدينة مع أن تاريخها لن ينفصل عن كل ما جرى في العراق من متغيرات، إلا أن مهارة المؤلف في صياغاته الفنية العالية تشير لمعرفته بفنه وذلك بحكم متراكم تجربته الحياتية _ الثقافية ، والمعرفة التي أعنيها هنا تتصل بثراء التجربة فلا يمكن الحديث عن الأمكنة التي تناولها الكاتب وما امتازت به من ثراء التجارب لولا اللغة الثرية هي الأخرى والتي نهلها من القراءات المستمرة التي أعانته لمعانقة ذلك البوح الخفي للأمكنة واستنطاق أزمنتها وشخصياتها ( عزيز السيد جاسم ، محمد المدهوش، جبار المحروث ، عارف علوان ....الخ) . إن ما وضعه( باشلار) من أساس عبر نظريته الجمالية يضعك أمام خيارات في الطريقة التي من شأنها أن تجعل منك مكتشفاً لما كان يعنيه، فمن السهل أن يظل المكان جماداً ميتاً لكن من الصعب أن تحييه إلا إذا كنت غاية في القدرة على اكتشاف ما لايكشف، فأمكنة العتابي مألوفة وعاشتها أجيال تلتها أجيال إلا أن طرق البوح المتبادل بينها والآخرين تفرضه الكتابة وطقوسها السحرية ، لذا وجد في السردية مفتاحاً لحلول الكشف _ الألغاز.

كل مكان كانت السياسة سيدته ولربما هذا شأن الأمكنة العراقية لاسيما تلك التي عاشها العتابي ، والسياسة بطبيعتها الكابية لن تمنحك القدرة على استيعاب طرق الكتابة عنها مكانياً إن لم يكن الجمال سبيلك الوحيد والمنقذ لبلوغ ذروتك ولذا كان لنهر الغراف ونهار الشطرة وأماسي الحرية أطيافاً تطوق الرؤى فتأخذك لكشوفات الإبداع كتابياً ، وهذا لربما يصل لسائر الأجناس الإبداعية الأخرى لاسيما القصة والرواية .

في رصد دقيق لطبيعة الأمكنة التي تضمنها الكتاب تفصح موهبة المؤلف كفنان تشكيلي عن نفسها بذات المستوى من الدقة الكتابية ويمكن ملاحظة ذلك عبر العديد من الأمكنة كبيوت الغازية الواطئة والشطرة والدواية مروراً بدار المعلمين ومدينة الحرية فبستان الجلبي وحتى شارع المتنبي، فتجد الأشكال وتقنيتها الى جانب الزخرفة والألوان، وهكذا يتشكل الكتاب بوصفه نسقاً إبداعياً لافتاً يشير لمدى فهم المؤلف العميق لما في المكان من حساسية وما للمدن من روح ومعنى.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top