التناص بين اللون والكلمة

التناص بين اللون والكلمة

كه يلان محمد

أخذ البحث عن العلاقات بين الأعمال الأدبية قسطاً وافراً في الدراسات التناصية إذ أصبحَ مفهوم التناص أداة في المساعي النقدية ،

ومن المعلوم أنَّ جوليا كريستوفا قد نظرت لهذا المفهوم بناءً على ما إصطلحَ عليه بالحوارية لدى ميخائيل باختين وبهذا لم يعد النص منكفئاً على بنيته الداخلية حسب ما هو متداولُ في المنهج البينوي بل أنَّ فك شفرات النص يتطلبُ تحديد أصوات متسربة في فضائه وبنيته التي تنفتحُ على الخطابات الأخرى ، تتحركُ النصوص بنظر كريستوفا على المحورين .الأول أفقي يربطُ بين مؤلف النص وقارئه والثاني عمودي يربط بين النص والنصوص الأخرى وبالتالي لايتقيدُ المتلقي بمحددات مسبقة في مقاربته لمكونات المعطي الأدبي . ومن الواضح أنَّ التداخل بين الأجناس الأدبية قد وفر مزيداً من الإمكانيات للتواصل بين الإشتغالات الإبداعية بحيث لاينتهي الأمر عند التأمل لتمظهرات شكل العلاقة بين النصين أو تتبّع الإقتباسات الضمنية في المنجز الأدبي إنما قد يحيلنا محتوى النص إلى حقل الفن التشيكلي أو الأفلام السينمائية وهذا ماتراه في الأعمال الروائية ينطلقُ السردُ في رواية "جميلة " لجنكيز إيتماتوف بإستعادة الراوي لقصة حبِّ من خلال التأمل في لوحة فنية. ذلك فإنّ رواية «عيناها» للكاتب الإيراني بزورك علوي تتّخذ من لوحة البطلة «فرنجيس» منصّة لسرد مرحلة فارقة في تاريخ إيران . ومن جانبه فإنَّ الكاتب الإيرلندي صموئيل بيكت إستوحى موضوع مسرحيته «في إنتظار غودو» من لوحة دافيد فريدريش.وأشار الكاتب المصري إبراهيم عبدالمجيد إلى إستلهام مادة روايته "في كل أسبوع يوم الجمعة" من حوار متبادل بين شخصيات فيلم سويدي.ومن نافلة القول الإشارة إلى الأفلام المقتبسة من النصوص الروائية. ومايجدرُ بالذكر في هذا السياق هو إعتراف أرنست همنغواي بأنّه قد تعلم من الرسامين عن الكتابة بقدر ما تعلم من الكُتاب مضيفاً بأنَّ سيزان ،وغويا ،وفان غوخ ،وغوغان من أسلافه إلى جانب كل من تولستوي وموباسان وتشيخوف. إذاً فإن ماذكر أعلاه يسوغُ البحث عن التجليات التناصية بين النص الأدبي والفن بأنواعه المختلفة الفوتوغرافية والسينمائية والتشيكلية وكلما كان الإهتمام أكثر بالفضاءات المُتقاطعة بين الأعمال الإبداعية تتوالد مفردات جديدة في المعجم النقدي.

 

البعد الفكري

الفكرة هي قوام لكل عمل إبداعي وإنطلاقاً من هذا المبدأ يمكنُ النظر إلى الإيماءات الدلالية بوصفها مفاتيح لفهم أي أثر أدبي أو فني لذا يقول جون فرانسو ليوتار "قليلة هي الأشياء التي ترى في اللوحة كثيرة هي الأشياء التي تدعو إلى التفكير"ينسحبُ مضمون هذه العبارة على أعمال الفنانة اللبنانية "هناء عبدالخالق" عموماً وعلى لوحتها المعنونة ب"لاعبة النرد" خصوصاً ويتبينُ في إختيارها لمفردة اللعبة إدراكها العميق لدور الكلمة في إذابة الجليد بين المتلقي وإيحاءات اللون وقبل الإنتقال إلى جزئيات اللوحة تومضُ بالذهن قصيدة "لاعب النرد" للشاعر الفلسطيني محمود درويش وذلك يكونُ مصحوباً بالسؤال بشأن الغرض من التحوير في عتبة العنوان ولايمكنُ التعاطي مع هذا الأمر بإعتباره حركة إعتباطية بل هو نتاج لعملية واعية تهدف إلى تأسيس لسردية موازية للمروية الشعرية.والمتابعُ لمحتويات الدواوين الأخيرة لصاحب "أثر الفراشة" يتأكد من تفاعله مع المفاهيم الفلسفية كما تتواردُ في سياق القصيدة التي تواصلت عبدالخالق مع أجوائها باللون مفردات توميءُ إلى هشاشة الحب والحياة ودور الصدفة في تكوين الهوية،وتحديد المصير هذا ناهيك عن الإحتفاء بالأشياء البسيطة والتبصر بمفردات الطبيعة من الورد والعنادل والسماء ولايغيبُ الحلمُ أيضاً في أثير القصيدة كما أنَّ النص بأكمله يقومُ على بنية ذهنية مضمرة للأسئلة الوجودية.وهذا الملمح الوجودي ينعكسُ بالوضوح في لوحة هناء عبدالخالق وشكل كرة الأرض التي تبدو في خلفية المرأة التي لايحجبُ سكونها على المستوى الخارجي زخم حركتها الداخلية ومايمكنُ المتلقي لإستنكاه سرائر تلك الشخصية هو المسافة الموجودة بينها وبين أحجار النرد المتناثرة في وضعيات مختلفة مايعنى أنَّ الإنسان ليس على دراية بحيثيات مسرح اللعبة برمتها وإن كان يريد الحضور في صورة من يمتلكُ حق صياغة قواعدها ويمكنُ فهم هذا التفصيل على ضوء مايقولهُ سبينوزا بأنَّ البشرَ لايفكرون حتى في الحلم في الأسباب التي تجعلهم يرغبون ويريدون لكونهم يجهلونها،ولأنَّ الإنسان لايدع شيئاً حتى لو كان غامضاً إلا ويريدُ تسميته لذلك حاولَ محمود درويش تفسير سلسلة من الوقائع الحياتية من خلال توصيفها بالصدفة.وبالنسبة للفنانة يحلُ اللون مكان التسمية لذا تكمنُ عناصر الحل في لون الأشياء ومن هنا تأتي أهمية وظيفة الفنان عندما يضفي بعداً جديداً للإنسان بحيث لن يكون مجرد كائن ناطق أو مستمع يبصر سيماء اللون.وما أرادت هناء عبدالخالق التعبير عنه بتحوير عنوان القصيدة هو أنَّ الهموم الوجودية أمر مشترك بين الرجل والمرأة كما أنَّ نحت الأسئلة الفلسفية ليست فقط من إختصاص الرجل.يذكر أنَّ شخصية المرأة في معظم لوحات هناء عبدالخالق ترمزُ إلى القوة التي يعقدُ عليها أمل لملمة العالم المتبعثر الأمر الذي يمكن معاينته في لوحة "كش الملك".

بنية الحوار

الحوارُ بين النصوص الأدبية واللوحات الفنية يحررُ مستويات التلقي من النمطية،ويضيفُ إلى الحس الإبداعي طاقات تأويلية كما يُفعلُ مدارك المرسَل إليه وذلك من خلال رصد آلية التواصل بين جرس الكلمات وظلال اللون هنا يكونُ التأملُ لفضاء اللوحة مصاحباً بالبحث عن تمثلات الرموز في جسد اللغة داخل أثير اللون واللافت في هذا التناص بين اللون واللغة هو مايوفرهُ من مثابات لقراءة طباقية إذ لايمكنُ لك أن تشاهد لوحة مستوحاة فكرتها من النص دون إستعادة رنينه،لذا فإنَّ ما أنجزته الفنانة اللبنانية "هناء عبدالخالق" في لوحة "لاعبة النرد" يكونُ دافعاً للعودة إلى قصيدة محمود درويش "لاعب النرد"والتنقيب عن تلك الشفرات المكتنزة بالطاقات البصرية لأنَّ الفنان لايبادرُ بإستضافة مضمون النص في أفق ألوانه إذا غابت المشاهد الدينامية في بنية النص الأدبي أكثر من ذلك فإن التأمل في مظاهر الحياة في صيغة شعرية تارة وفي لوحة فنية تارة أخرى ينهي النقاش بشأن الفجوة المفتعلة بين اللون والكلمة.

 

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top