رزاق عداي
الحديث عن فايروس كورونا ، بالدرجة الأولى هو حيازة طبية اكلينيكية بحتة ، لكن تداعياته وهوامشه كثيرة جداً ، خصوصاً إذا ما انفتحت أمامه آفاق التأويل اللامتناهية ، والتهويمات ، ومديات الشطط ، والخرافة ،والأسطوريات
أما الشعور العام الذي يخيم على البشر في عموم الكرة الأرضية في زمن الكورونا ، زمن الهلع الكوني، فهو ما تم الاتفاق على تسميته في السرديات الدينية والأيديولوجيا ، ب(الإحساس بالنهاية) ، وهو شعور أزلي رافق الإنسان في لحظة انفصاله عن الطبيعة ، التي شهدت تاريخ انبتاق الوعي لديه ، كونه كائن يعي ذاته ، إذ وقف مبهوراً إزاء ظواهر الطبيعة الهائلة ، لا يملك إزاءها أي تفسير،
وأتعس هذه الظواهر هو الموت ، الغامض والمبهم والهاوية الأخيرة --
لم يكن أمام الإنسان البدائي سوى أن يخلق أساطيره قبالة الموت ، للسيطرة عليه ،أو تقبله بأي صورة من الصور ،فلاذ بالسحر مستنجداً به ، ثم بالطوطمية ، أو الإحيائية ، أو بمذاهب تعدّد الأديان بشططها الأسطوري الباذخ ، ثم الى الأديان التوحيدية ، وتفرعاتها الطوائفية ، بتأويلاتها الخلاصية ، التي لم تتخلص منها أفكار مؤسسي التنوير ، (ايمانويل كانت) بحلمه القائم على قدرة العقل البشري على إقامة ما اطلق عليه ب( الحكومة العالمية)، وربما على غرار (عصبة الأمم والأمم المتحدة) ،أما تنظيرات -هيغل الخلاصية فتكمن في تصوره بانتهاء التاريخ في تجربة اقتراع جمهورية (بروسيا) الذي جسد لديه نهاية التاريخ حيث مثل انطباق المطلق الفردي مع المطلق الكلي عبر تحقيق الإرادتين ،--و(كارل ماركس)في مجتمعه الشيوعي ،حلم البشرية الذهبي-----
إن فكرة نهاية التاريخ هي فكرة خلاصية أو مشتقة منها ، حتى أنها ظلت ملازمة لمعظم الأيديولوجيات متمثلة في تصورات مثالية ، تمثل المجتمع المثالي المتطلع إليه في مراحل الأزمة ، --ففي زمن الكورونا تتعرض الأنظمة والمنظومات للتعرية والاهتزاز،وبالمجمل يمكن إدراج هذه الحمية الناقدة والمضادة ، تحت ما سمّي بالاحساس بالنهاية ونسخته الأيدولوجيات الراهنة في مفهوم (نهاية التاريخ) ،-وهذا ما نلمسه اليوم وتحت تأثير هول الكورونا ، فيما يشاع عند بعض الشيعة الإمامية وعلى لسان بعض من عرفائهم ،إن بشائر ظهور المهدي المنتظر باتت تلوح بالآفق ، وسمي بنهاية الزمان القديم وبداية الزمن الخلاصي الجديد على أنقاض زمن أنقاض زمن قديم،--
على مستوى المشهد العالمي الراهن بأنظمته ومنظوماته إذا كانت ثمة حسنة لهذا الوباء المميت ،والسيئ الصيت ،إنه وضع منظومة القيم العالمية تحت الاختبار ،ممتحناً لصلاحياتها،وقدرتها على تشييد عالم إنساني منسجم ،ومتماسك ، ومتضامن ،وإن كانت تجارب الدول تختلف في مدى جدارة كل نظام وأيديولوجيا ، لكن وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة والأخبار، تبين أن الكثير من الأنظمة الرأسمالية المتوحشة مازالت سادرة في سلوكها الرأسمالي الجشع في الاحتكار، حتى المكتشفات الطبية المضادة لوباء الكورونا ،وفي تسابقها على السلع والإدخار واستثمار الأزمة رأسمالياً،--
يعتقد البعض أن وباء الكورونا هو صدمة كونية لا تقل قوة عن صعقة كوبر نيكوس الذي زحزح فكرة أن الكرة الارضية هي مركز الكون ، عندما وجد إنها لم تكن سوى مجرة لا تختلف عن غيرها من المجرات السابحة في فضاء لا متناه ، التي تعوم جميعها في أرجائه،--ثم بعد ذلك نظرية -دارون -التي شكلت تهديداً وتقويضاً لأساطير كونت كائناً استثنائياً مقدساً ، إذ هشمت نرجسيته وأعادته الى عائلته الأصلية ،--
اما نظرية فرويد التي كشفت عن العمق البعيد والغامض في الإنسان والخارج عن هيمنة العقل ،متمثلاً بمناطق اللاشعور ،---
الأزمات مهما كانت تراجيدية ومأساوية ، قد يكون ثمنها موت كثير ، إلا أنها -وهذا هو العمق التراجيدي في الوجود ، تبدو وكأنها ضرورة طبيعية تصب في مجرى نظرية الخلاص، لتبديل أنظمة ومنظومات باتت تعمل ضد الإنسان وملأت الأرض جوراً وظلماً ،---
كورونا هو تفاعل لعناصر طبيعية كيميائية تنتقل بين الحيوان و الإنسان ، كان ينبغي أن يظهر شأنه شأن الأوبئة والجائحات القديمة ، التي جرى السيطرة عليها وأرشفتها ، ولكن ظهوره وتفشيه كان لابد منه لإيقاظ شعور (الإحساس بالنهاية) الذي أوجد كل الأساطير والعلوم،
اترك تعليقك