د. أسامة شهاب حمد الجعفري
قال الفقيه الألماني (اهرنج Ihering) إن تشريع القانون ليس صياغة رغبات ارتجالية مغلقة تطرح لضبط المجتمع , إنما هو صياغة غايات أخلاقية عليا ,
ولتحقيق هذه الغاية ينبغي إعداد دراسة اجتماعية وقانونية تمهيدية سابقة لأي فعل تشريعي تبين تأثيرات هذا التشريع وقواعده القانونية على حياة المجتمع من أجل أن يأتي الهيكل الوظيفي له وهو يلبي أكبر قدر من الاحتياجات الاجتماعية والفردية تتمحور حول إقامة صرح العدالة للمجتمع , قبل المباشرة في إجراءات صياغته, ومن الغايات الاجتماعية للقانون هو إلزام كل من أحدث ضرراً للغير بالتعويض , إذ تمثل المسؤولية المدنية أهم دعائم المجتمع المدني وأركان النظام القانوني والاجتماعي للدولة الحديثة , وأتاحتها للمواطن كممارسة فعلية لحق التقاضي أمام المحاكم .
أعلنت الأمانة العامة لمجلس الوزراء إحالة مشروع قانون مواجهة جائحة كورونا الى مجلس النواب. وتداولت مواقع التواصل الاجتماعي نسخة منه , إذ ابتعد مشروع قانون مواجهة فايروس كورونا عن البناء القانوني الأخلاقي الذي تعرض له الفقيه الألماني (اهرنج Ihering) في خلق حياة حضارية تسند العدالة وخالياً من أي غاية أخلاقية , فقد نص في المادة (الثانية) منه على تقرير الحصانة من الملاحقة القضائية لصالح طرفين :
1 - طرف وطني : وهذا الطرف الوطني ينقسم على قطاعين :
أ - القطاع العام : وهي وزارة الصحة إطلاقاً (مؤسسات , شركة كيماديا العامة لتسويق الأدوية , مستشفيات , مراكز رعاية , منتسبين)
ب - القطاع الخاص : المستورد ( المكتب العلمي , شركات الوكالات التجارية , الشركات المتخصصة في تجهيز وتسويق المواد الطبية)
2 - طرف دولي : وهو المنتج الذي يتمثل في الشركات الأجنبية كافة المصنعة للقاحات ضد فايروس كورونا .
إن هذه المادة التي قررت الحصانة من الملاحقة القضائية لهذه الأطراف جاءت غير منسجمة من الناحية الاجتماعية والقانونية لأن منح وزارة الصحة وكافة مؤسساتها ومنتسبيها حصانة ضد الملاحقة القضائية ستؤدي الى إفلات حالات الخطأ الطبي(الخطأ غير العمدي) التي تنشأ عن إهمال وتقصير المؤسسات الصحية والأطباء من المسؤولية القانونية أثناء معالجة المصابين بفايروس كورونا , كما أن ذلك سيشجع على تسجيل كل الأخطاء الطبية التي تحدث وتؤدي الى الوفاة أو الإصابات الجسدية على أنه مصاب بفايروس كورونا بهدف الإفلات من المسؤولية القانونية . بالوقت الذي يشهد العالم بسبب كثرة الأخطاء الطبية التي تؤدي الى العديد من حالات الوفاة والإصابات الجسدية الى تقرير المسؤولية المدنية والتشديد منها وفق قوانين خاصة وذلك في قانون الصحة العمومي الفرنسي (Loi sur la santé publique ) الذي ألزم الطبيب بإبرام عقد التأمين من المسؤولية المدنية لدفع مبالغ التعويض عن الأضرار التي تنشأ من عمله الطبي للمتضررين , كذلك في دولة الامارات المتحدة التي شرعت قانون المسؤولية الطبية بقانون رقم 4 لسنة 2016 , هذه الدول جعلت من قيمة حق الإنسان في الحياة وحقه في سلامة جسده فوق كل القيم وغاية لتشريعاتها .
أما منح الحصانة من الملاحقة القضائية للمنتج وممثلهم التجاري ومستورد اللقاح فانه غير منسجم مع المنطق القانوني, لأن علاقة المنتج وبالمستهلك هي علاقة غير متوازنة , إذ يتميز المنتج بالتفوق الاقتصادي والمعرفي على المستهلك الذي هو الطرف الضعيف بهذه العلاقة , لذا تأتي كل القواعد التشريعية لتقوية مركز المستهلك والتشدّد من مسؤولية المنتج بنصوص قانونية هادفة لإعادة التوازن بهذه العلاقة المتفاوتة أهمها أنها تحمل المنتج عيوب منتجاته حتى وإن كانت مجهولة له وقت إنتاجها وبعد طرحها للتداول , لذا فهو يضمن عيوب منتجاته الخفية ويلتزم بتعويض المستهلك عن الإضرار الناتجة عن هذه العيوب , وهذا الاتجاه التشريعي واضحٌ في مسلك قانون الاستهلاك الفرنسي رقم ( 93/949 ) لسنة 1993 وقانون حماية المستهلك المصري رقم (181) لسنة 2018. بينما مشروع قانون مواجهة فايروس كورونا في العراق يقلب المعادلة ليقف مع القوي ضد الضعيف منتصراً ضد العدالة الاجتماعية وهو منطق يشجع على الاتجار باللقاحات الفاسدة والفاشلة بمنح هذه الحماية غير القانونية للمنتج والمستورد والمتاجر بهذه اللقاحات , وجعل المستهلك خالٍ من أي حماية قانونية .
هذا فضلاً عن عدم دستورية هذا القانون برمته لأن منح الحصانة من الملاحقة القضائية لغير البرلمانيين هو تقويض لحق التقاضي وهدره والذي قرر للمواطن العراقي كأحد المبادئ الأساسية التي قام عليها لدستور العراقي في المادة (19/ثالثاً) منه. وهذا الإجراء يعود بنا الى عصور الظلم والاستبداد ولا يتلاءم مع متطلبات الدولة الحديثة دولة الكل خاضع للقانون ولا أحد يخرج من حكم القانون وسلطان القضاء وولايته.
قد يعترض علينا أحد ويقول إن مشروع قانون مواجهة فايروس كورونا لا ينفي حق المتضرر بالتعويض فهذا القانون نص في المادة (الخامسة) منه على أن الدولة هي من تتحمل تعويض المتضررين عن الأخطاء الطبية غير العمدية (التقصير والاهمال) وفق إنشاء صندوق للتعويضات .
ذلك صحيح , لكن الذي لا شك فيه أن لصناديق التعويضات وظيفتين : وظيفة احتياطية للتعويض ووظيفة تكميلية , أما الوظيفة الاحتياطية لصناديق التعويضات تتمثل في تمكين المتضرر من الحصول على تعويض في حالات معينة هي :
1 - المنتج غير معروف
2 - إعسار المُنتِج المسؤول .
3 - كون الُمنتَج غير مٌؤمَن.
4 - الإصابات الجسدية الحرجة التي لا تحتمل التأخير بدون تعويض لسد نفقات العلاج الباهض
أما الوظيفة التكميلية لصناديق التعويضات عن الحالات التي لا يغطي مبلغ التأمين الأضرار التي أصابت المستهلك عندما تتجاوز الأضرار الحد الأقصى لمبلغ التأمين المحدد في عقد التأمين , عندئذٍ يتدخل الصندوق لاستكمال التعويض بعدما تم دفعه جزئياً من مبلغ التأمين عن الأضرار التي تحدث.
فلا تسطيع أن تحل صناديق التعويضات حلولاً كاملة بدفع كامل التعويضات للمستهلك المتضرر من لقاحات فاسدة أو فاشلة وتحمل الدولة نتيجة أعمال المنتج , وإنما هي مسؤولية الشركات العالمية المنتجة له والتي تتمتع بتفوق اقتصادي ومالي قوي . إن هذا الإجراء بهذا الشأن تقليل من سيادة الدولة العراقية وهيبتها من خلال تحمل المغرم بينما شركات الأدوية الاجنبية تحصد المغنم والربح.
إن ما ذكرته من نظام قانوني صارم بحق المؤسسات الصحية والأطباء وشركات الأدوية هو نظام معمول به في داخل الدول التي تنتمي إليها هذه الشركات الأدوية , فلماذا عندما يتعلق الامر باستيراد هذا اللقاح للعراق تُطرح فكرة الإعفاء من المسؤولية بنصوص قانونية مخالفة لقيم العدالة والإنصاف وتهدر حق المواطن العراقي في سلامة جسده ؟ هل سلامة جسد المواطن الفرنسي والبريطاني أعلى قيمة من سلامة جسد المواطن العراقي؟ وهم إخوة في الإنسانية ؟ إن تقرير هذا القانون فيه إجحاف بحق قيمة الإنسان العراقي أمام العالم , ونتطلع على تعديله باتجاه حفظ حق الإنسان العراقي في الحياة وسلامة جسده وعدم تكرار خطأ تقرير حصانة الشركات الأمنية الأجنبية التي قتلت العراقيين بدم بارد في ساحة النسور تحت مظلة تشريع عراقي ظالم وهو حصانتها من الملاحقة القضائية.
اترك تعليقك