اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > دي روتردام : العمارة والمعمار

دي روتردام : العمارة والمعمار

نشر في: 28 فبراير, 2021: 09:22 م

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

في هذه الحلقة من "عمارات" سنولي اهتماماً مكافئاً الى "عمارة" موضوع الحلقة، والى "معمارها" على حد سواء.

ذلك لأن إدراك قيمة عمارة المبنى المعروض، نابع كما نرى، من أهمية المعمار، هو الذي نقدر عالياً دوره وقيمته التصميمية والتنظرية في المشهد المهني. نحن نتحدث عن عمارة مبنى "دي روتردام" (1977 – 2013)، في مدينة روتردام بهولندا، المصممة من قبل المعمار الهولندي "ريم كولهاس" (1944) Rem Koolhaas، ومكتبـه "مكتـب للعـمارة الـحضرية" Office for Metropolitan Architecture (OMA)

يقع مبنى "دي روتردام"ـ في إحدى المواقع المطلة على أحد أرصفة ميناء المدينة الهولندية، ويعد وجوده هناك من ضمن نتائج القرارات التي اتخذتها بلدية المدينة لإعادة إعمار هذا الجانب الحضري المهم من روتردام. ورغم أن المبنى صمم بالكامل سنة 1997، كما ذكرنا، فإن البدء في تشييده كان سنة 2009، وتم الانتهاء من تنفيذه عام 2013، أي بعد سنوات عديدة من فترة التصميم لأسباب مالية. دُعي المبنى بهذا الاسم "De Rotterdam" (وتعني The Rotterdam)، على اسم باخرة كانت تبحر من هنا: من هذا الميناء، مابين روتردام ونيويورك، وهي محمّلة بالمهاجرين الهولنديين والأوروبيين الآخرين الذين سعوا وراء حلم الحصول على حياة جديدة لهم ولعوائلهم في العالم الجديد: أميركا. ويشار، في الغالب، عند الحديث عن مبني "دي روتردام"، الى مفارقة تهكمية، من أن هجرة واغتراب جموع المهاجرين باتجاه نيويورك، قابله اغتراب وترحال عكسي لـ "ناطحة سحاب" من تلك المباني المعروفة بها نيويورك ..الى "روتردام"!

يصل ارتفاع "دي نوتردام" الى 150 متراً (مؤلفة 44 طابقاً)، وبعرض 100 متر، وهي تتشكل من ثلاث كتل مترابطة فيما بينها، تفصلها فواصل خالية عمودية. وقدرت المساحة الكلية بـ 162 ألف متر مربع، ما يجعل من الصعب تسمية المنشأ بـ "مبنى" أو "مجمع" وإنما "مدينة صغيرة عمودية". وتنهض "دي روتردام" على قاعدة مؤلفة من ستة طوابق، مخصصة لمتاجر ومطاعم ومركز لياقة بدنية وسينما ومرآب للسيارات بطابقين يسع لـ 684 سيارة. والمجمع يخدم استعمالات متنوعة Mixed- use ، فهناك الفضاءات الإدارية (المكاتب) وهي بمساحة 72 ألف متر مربع، ثم القسم السكني المتكون من 240 شقة، بالإضافة الى فندق يسع 285 غرفة، ويمكن أن يستخدم 5000 شخص الفضاءات العامة في آن واحد. والمجمع بهذه السعة يعد المبنى الأضخم في عموم هولندا.

يشكل مجمع "دي روتردام" في كثير من خصائصه التصميمية، نموذجاً للقيم التي يؤمن بها ريم كولهاس ومكتبه (OMA) المعماري. من هنا، تنبع لدينا قناعة، بأن الحديث عن "عمارة" <دي روتردام>، تجد الكثير من موضوعيتها وواقعيتها بالحديث عن "المعمار" ذاته؛ عن "ريم كولهاس": كواحد من أهم المعماريين الأحياء المؤثرين في المشهد المعماري وخطابه. ونزعم أن هذا الاهتمام الذي نوليه للمعمار مرده باقة من الأسباب، أولهما قيمة ومكانة المعمار العالمية، وثانيهما نوعية سيرته الذاتية غير العادية، وثالثاً، لكونه كان "استاذاً" يوماً ما لمعماريتنا الفذة "زهاء حديد" (1950 -2016) أثناء دراستها في AA <وقد عملت أيضاً في مكتبه بلندن في نهاية السبعينيات قبل أن تؤسس لنفسها، لاحقاً، مكتباً خاصاً بها>. لتلك المجموعة من الأسباب العديدة ولغيرها التي انطوت عليها مسيرته المهنية، "نجد فيها مسوغاً للاعتناء (ولو باختصار شديد) بالمعمار جنباً الى جنب عمارته!

لم يكن دخول "ريم كولهاس" ( وكان اسمه الفعلي: "ريمنت لوقاس كولهاس" Remment Lucas Koolhaas، قبل أن يختصره المعمار الى "ريم كولهاس" Rem Koolhaas ويعرف به على نطاق واسع) والتحاقة للدراسة المعمارية، أمراً عادياً، كبقية طلاب العمارة الذين يلتحقون عادة بالدراسة بعد إكمالهم المدارس الثانوية. فقبل التحاقه بدراسته المعمارية في مدرسة "رابطة المعماريين" Architectural Association ، بلندن سنة 1968، عمل وهو في عمر 19 سنة صحفياً لجريدة (هاشابوست) Haagse Post "لاهاي بوست"، محرراً في قسم الفن والعمارة، وأجرى لقاءات مع أشهر المعماريين في بلاده، واجِداً في نفسه شغفاً حقيقياً لتعلم هذه المهنة وفك أسرارها، خصوصاً وقد كان أحد أجداده معماراً هولندياً حداثياً، هو الذي كان متأثراً كثيراً في نشاط عائلته الثقافي والتنويري، فوالده "انطوان كولهاس" كان أديباً وناقداً وكاتب سيناريو. كما كان من أشد مناصري استقلال "اندونيسيا" إبان حرب الاستقلال من هولندا، وقد دعته الحكومة الاندونيسية أيام "سوكارنو"، ليشرف على برنامج ثقافي هناك أمده ثلاث سنوات. وإثر هذه الدعوة انتقلت العائلة الى جاكارتا /العاصمة. وعن تلك الأعوام يتذكر "كولهاس" بانها " كانت سنوات مهمة للغاية بالنسبة اليّ؛ وقد عشت حقاً كآسيوي!".

تطلع "ريم كولهاس" بعد أن أنهى دراسته المعمارية في لندن عام 1972، الى اكمال تعليمه العالي في الولايات المتحدة ، فالتحق بجامعة كورنيل Cornell. في نيويورك، ثم انتقل كباحث زائر الى معهد العمارة والدراسات الحضرية في نيويورك عام 1978، وتحت اشراف المعمار التفكيكي المعروف "بيتر ايزنمان" P. Eisenman، انهى هناك كتابه المثير "نيويورك الهذيانية: بيان/ "مانفستو" بأثر رجعي الى مانهاتن" Delirious New York: A Retroactive Manifesto for Manhattan، وهو كتاب أُعتبر برأى كثر من النقاد، من ضمن الكتب المهمة التي أثرت بعمق، في المشهد المعماري وخطابه، مانحاً مؤلفه حضوراً لافتاً وشهرة واسعة في الأوساط المهنية والنقدية. في هذا الكتاب يحلل "كولهاس" طبيعة الحياة الحضرية، ويراها "كصدفة" ويكتب "أن المدينة ما هي إلا آلة إدمانية لا مفر منها، معرفاً إياها "المدينة" بكونها مجموعة "نقاط حمر ساخنة"، ومعترفاً أيضاً بأن مقاربته لفهم المدينة تشبه الى حد كبير أطروحة حركة "الميتابوليزم" Metabolism اليابانية في الستينيات وبدء السبعينيات. لكن الأهم في ذلك الطرح "الكولهاسي" (نسبة الى كولهاس!)، يبقى استنطاقه لمفهوم "البرنامج" Program عند صعود الحداثة في القرن العشرين، والذي أمسى بحسب المؤلف <حجر زاوية التصميم المعماري ومفتاح موضوعه>، ويرى أن فكرة "البرنامج"، ما هي إلا "إجراء لتمثيل الوظيفة وجميع الأنشطة الإنسانية" والارتقاء بذلك لتكون، في الأخير، ذريعة للتصميم المعماري، المتجسد في المفهوم الأقصى لعبارة <الشكل يتبع المضمون>، هي التي رسخها، يوماً ما، "لويس سوليفان" بالوسط المهني، وانتشرت منذ بدء القرن العشرين على نطاق واسع، كما يستجوب "ريم كولهاس" ويتدارس لأول مرة في كتابه "نيويورك الهذيانية" تحليل فكرة عمارة الأبنية الشاهقة (ناطحات السحاب) في مانهاتن، ويستدل الى إحدى طرق التصميم المبكرة المشتقّة من ذلك التحليل التي يدعوها بـ "البرمجة المتقاطعة" Cross-programming، وهو مفهوم معني بالتعاطي مع وظائف غير متوقعة تحضر في أحياز الفضاءات المصممة مثل مسارات الجري في ناطحات السحاب أو ماشابه ذلك. كما سعى كولهاس مرة، ولكن من دون نتيجة ملموسة، الى إدراج "مستوصف" للمشردين في فضاءات مشروع "مكتبة سياتل العامة" التي صممها سنة 2003.

في سنة 1995 (ولمناسبة مرور عشرين عاماً على تأسيسه مكتبة الاستشاري OMA)، يصدر "ريم كولهاس" (بالاشتراك مع مؤلف آخر)، كتابه الذي لاقى ترحيباً واسعاً من قبل جمهرة من النقاد والقراء وهو كتاب "الصغير، المتوسط، الكبير ، والأكبر" S. M. L. XL. ، (الذي بيعت كل نسخه في غضون أشهر قليلة)، وجاء بـ 1376 صفحة من القطع الكبير. وقد تضمن الكتاب مجموعة من المقالات ومقتطفات من المذكرات وقصص الرحلات والصور الفوتوغرافية والخطط المعمارية والرسومات التي أنتجها المكتب طيلة عقدين من السنين السابقة لنشر الكتاب. وبظهور هذا الكتاب الذي طبع مرّات عديدة، عزز "ريم كولهاس" من حضوره المميز في المشهد المعماري. وكصحفي قديم، وكمنظر لامع، ومعمار قدير عرف جيداً كيف يثير إشكاليات المهنة المعمارية ويسعى الى طرح حلوله غير العادية التي لطالما ما لفتت الانتباه إليه والى عمارته وطروحاته النظرية. كما أن إصداراته الأخرى مثل "دليل مدرسة التصميم بهارفارد للتسوق" (2002) The Harvard Design School Guide to Shopping، وكذلك اشتراكه مع آخرين في كتاب " الطفرة العظيمة للأمام" (2002) The Great Leap Forward ، الذي تناول تحديد وتحليل المشاكل المؤدية الى التحضر المتسارع وعواقبه، بالإضافة الى إيجاد وتطوير فلسفات جديدة لمساعدة إشكاليات العمران وتعاملها مع المتغييرات السريعة. وبما أننا نتحدث عن " كولهاس" الكاتب والمنظر، فمن الضروري الإشارة الى دوره البارز في نشر مجلة "فوليوم" (الحجم) Volume Magazine في سنة 2005. وقد روجت هذه المجلة لأفكار جديدة تضمنها برنامج مركز ابحاث تجريبي، مكرس لعملية الانعكاس المكاني والثقافي. وإذ يتجاوز المركز في هذا المعنى تعريف "العمارة" بكونها مجرد "انتاج مبانٍ"ـ ليصل الى وجهات نظر عالمية تخص العمارة والتصميم، وإيجاد مقاربات واسعة لهياكل اجتماعية، قادرة على خلق بيئات للعيش فيها. وفي العموم فإن كولهاس وزميله الآخر كانا يتوقان أن تكون مجلتهم ممثلة لصحافة جديدة، بمقدورها أن تكشف وتتوقع، كما إنها مجلة تطمح أن تكون استباقية وحتى وقائية. وهي في الأخير من تلك الصحافة التي تكشف عن الإمكانات، بدلاً من تغطية الصفقات المنجزة والتستر عنها.

ثمة كثر من المتابعين يعرفون جيداً ما يحمل "ريم كولهاس" من رأي تجاه الأبنية الشاهقة أو ما يعرف بـ <ناطحات السحاب> Skyscrapers : الحلم الدفين والمستتر لدى أي معمار أن يصمم وينفذ أعلى ما يمكن من مبنى! لا يوافق "كولهاس" هذا الرأي، بل إنه عَدّ من مناهضيه Anti- Skyscraper’s Architect . لنتذكر محاولته في ايجاد "فورم" غير تقليدي لمبنى مقر تلفزيون الصين في بكين (2004 -2008)، والذي سعى أن لا يكون مبنىً شاهقاً، ولو أنه يرتفع الى 234 مترا. فقد لجأ المعمار الى شكل غير تقليدي يتجمع من ستة أقسام أفقية وعمودية مع فراغ مفتوح بالوسط. في البحث عن لغة معمارية خاصة لمبناه في "دي روتردام"يعيد ريم كولهاس بذاكرتنا، الى مآلات لغة "التيار الدولي" International Style، الذي شاع يوماً ما في الخمسينيات، وارتبط مع نتاج "ميس فان دير روّ"، إنه هنا في روتردام يستذكر "سيغرام بيلدنك" (1954 -1958) Seagram Building رائعة "ميس" في نيويورك، والمبنى الأشهر المجسد لكل قيم ومبادئ الحداثة في أوج تجلياتها المتمثلة بالتيار الدولي. إنه ليس فقط يستعير "أسلوب" تنطيق واجهات مبناه المتعدد الوظائف من "سيغرام" الممجدة لمبدأ "الشكل يتبع المضمون"، وإنما حافظ على نفس المخطط الذي استعمله "ميس" سابقاً، مبقياً حتى على ذات الارتفاع تقريباً (يبلغ ارتفاع سيغرام حوالي 157 متراً في حين اتي ارتفاع دي روتردام حوالي 150 متراً كما ذكرنا). بيد أن ثمة سخرية لاذعة في تلك الاستعارة، ذلك لأن مبناه "الروتردامي" يتضمن "وظائف" عديدة، ولم يقتصر على نوعية وظيفية محددة، فهو "خليط" من الوظائف والاستعمالات. وإذا كان "تشابه" مفردات اللغة المعمارية مسوغاً في سيغرام نظراً لواحدية المضمون، فان ذلك الاستخدام يبدو عصياً على الفهم في "دي روتردام" الحافل بوظائف متنوعة تتضمن شققاً اسكانية ومكاتب إدارية وأحياز تسوق وفندق وفضاءات مخصصة للترفيه! وبغية زيادة الأثر البصري لمبناه يجعل "كولهاس" من كتله ذات حجوم متنوعة في "فورماتها" ، مبرراً ذلك خلق "دراما" لحركة بصرية ناجمة عن رؤية تلك الكتل من زوايا نظر مختلفة خصوصاً من السيارة المسرعة!

تغوي عمارة "ريم كولهاس" وطروحاته التنظيرية بالتوقف عندها ملياً وتفصيلياً لطرافة، وجدّة، وحداثة، وما بعد حداثة، وتميز، وعمق منجزه المهني بشقيه التصميمي والتنظيري. إنه معمار بارع، ومنظر مؤثر ومعلم ذو نفوذ، وليس من ثمة صدفة أن جعلته مجلة "تايم" الشهيرة في سنة 2008 من ضمن مائة شخصية الأكثر نفوذاً في العالم! وهو في الأخير، من "المعماريين" المفضلين والأثيرين لديّ شخصياً، لكني عليّ أن اتوقف، الآن، لأني تجاوزت سعة المكان المخصص لهذه الحلقة، متطلعاً العودة مرة أخرى للحديث عن نتاج هذا المعمار الاستثنائي! .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض اربيل

مقالات ذات صلة

16-04-2024

التّجديدات مابعد الحداثيّة

لطفية الدليميأحدثت الطاقة الجديدة لرواية (الكومنولث Commonwealth) مفارقة صارخة مع ماكان يُوصف بلحظة (النضوب الأدبي)؛ ففي دول الكومنولث بدأ الكُتّاب يوظفون تجاربهم ويعتمدونها مصدراً لأشكال إبتكارية جديدة من الكتابة - الكتابة التي ستعمل في المقابل على تدعيم التغير الثقافي المطلوب في الوقت الذي واجه فيه الكُتاب خارج منطقة الكومنولث إحساساً عميقاً باللاجدوى وإستنفاد الغرض من […]
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram