ياسر جاسم قاسم
« إن القضاء على كتاب جيد يعادل قتل إنسان تقريباً، بل أسوأ أيضاً بشكل ما ، لأن مَن يقتل رجلاً يقتل كائناً مفكراً خلقه الله، لكن من يقضي على كتاب جيد يقتل الفكر ذاته، وأكاد أجزم بأنه يقضي على جوهر تلك الصورة ، الإلهية ، « جون ميلتون أديب وشاعر انجليزي.
وردت في خطابه المعروف بأسم» آريو باجيتيكا» في إطار معارضته قانون التراخيص والرقابة على المطبوعات الصادر في العام 1643م وهو أول دفاع حقيقي عن حرية الرأي والتعبير ، وتجدر الإشارة الى أن تلك الحجج قد أسهمت في إلغاء بريطانيا الرقابة الاحتياطية في العام 1695م.
إن حرية الرأي والتعبير لا تخص الدول فقط والحكومات ، الأهم من ذلك أن تكون الشعوب مقتنعة بها وأن لا تمارس الشعوب عملية الإقصاء ضد بعضها البعض ، لذلك يقول جون ستيوارت مل «طغيان المجتمع على أفراده» وهو عنوان المقال نفسه، فهناك بعض القيم المجتمعية التي تدعو الى رفض الآخر والتشدّد تجاه الرأي الآخر انطلاقاً من ضرورة صوت هذه القيم ،فالفكر الشمولي يتعدى الأنظمة في بعض الأحيان ويصبح جزءاً من الفكر السائد في المجتمع.
وهكذا فإن الجهل لدى الشعوب هو السبب الأساس في عدم تطبيق الكثير من الحريات التي نصت عليها دساتير دول كثيرة ، ومنها الدولة العثمانية التي أقرت دستوراً لها في مطلع القرن الماضي يقول جورجي زيدان في كتابه الرحلات الثلاث :الاستانة – أوروبا – فلسطين ، « وإما الأمة على إجمالها فما تزال غارقة في الجهل، وهو علة ما شكوناه من تعصبها الجنسي والديني، ولاتعني بالعلم مجرد حفظ العلوم والآداب كالشعر والنحو والحساب، بل نريد به ترقية شور الناس بالتربية الصحيحة التي تعلم الإنسان ماله وما عليه، واعتبر ذلك فيما ظهر في الفرق في استقبال الدستور ، بين البلاد العثمانية ،فقد رأينا أكثر البلاد تعلماً أكثرها فرحاً بالدستور ، وأثبتها قدماً فيه، أما أهل القرى ، فإن أكثرهم لم يفهموا معنى الحرية أو الدستور وفيهم من اعتقد هذا النوع من الحكومة مخالفاً للدين» (- جورجي زيدان، الرحلات الثلاث، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ، 2017، ص111-112)
إننا أمام رؤية حول حرية التعبير تتلخص بسيطرة مؤسسات متخلفة على الواقع.
فالعادات الاجتماعية والأعراف والمؤسسات الدينية تتمثل في حقيقتها عائقاً أمام ممارسة الحرية الحقيقية ، فعلى الرغم من عدم وجود مانع قانوني لمخالفة بعض القواعد غير القانونية فان القيود الاجتماعية تمثل عائقاً أمام الإرادة الحقيقية للفرد، فهو مقيد رغماً عنه، في أغلب الأحوال ، بهذه القيود الاجتماعية أو الدينية التي تمنعه من ممارسة حريته. وهكذا فكلما كان المجتمع فردانياً تحققت الحرية الحقيقية ، وكلما كان المجتمع عشائرياً أو طبقياً أو قبلياً تقلصت حرية الفرد أمام هذه الأعراف والمؤسسات المجتمعية ، «فحرية الرأي أو النقد قد تكون مقيدة اجتماعياً من جانب أعضاء القبيلة تجاه زعيمهم القبلي وممارسة الوصاية المقيدة لحرية الرأي والتعبير ، في بعض المجتمعات تمنعهم من ممارسة حرية الرأي المسموح بها قانونياً ودستورياً» (- فهد علي الزميع، الحماية التشريعية لحرية الرأي ،الواقع والآفاق ، دراسة مقارنة، مجلة عالم الفكر ، كانون الثاني-آذار 2020، مجلة عالم الفكر . الكويت)
ونصل الى نتيجة مفادها «إن في ظل غياب حرية رأي حقيقية في الدولة فانه لا يمكن اعتبار الحكومة حكومة ديمقراطية « م س ومن هذه العبارة نستطيع اعتبار الحكومة اليوم في العراق هي غير ديموقراطية وذلك لغياب حرية الرأي الحقيقية وعدم قدرة الدولة العراقية حماية أصحاب الكلمة الحرة من سلطة الميليشيات والسفاكين للدماء ، فحرية الرأي لدينا هي حرية شكلية ليس إلا , وفي هذا الصدد يؤكد البروفيسور رالف اميرسون ralph emerson أن حرية الرأي المحمية في الدستور الأميركي لها أربع قيم رئيسة ، تتمثل القيمة الأولى في الحماية الدستورية لحرية الرأي بوصفها إسهاماً في تحقيق إشباع ذاتي للأفراد كونهم يعلمون أن آراءهم محمية وإنْ لم يمارسوها على أرض الواقع وهو ما أطلق عليه ضمان الفرد تحقيق ذاته ASSURING Individual Self Fulfillment والقيمة الثانية للحماية الدستورية لحرية الرأي تتمثل في مساهمة هذه الحماية الدستورية في نشر المعرفة والبحث عن الحقيقة ، فهذه الحرية هي المحفز للوصول الى الحقيقة ، والقيمة الثالثة للحماية الدستورية لحرية الرأي هي تحقيق مشاركة فعالة من قبل المجتمع في صنع القرار ، وهي الأمر الذي له انعكاس إيجابي على المواطنة ، وأخيراً فان القيمة الرابعة للحماية الدستورية أن لها انعكاساً حقيقياً على استقرار المجتمع من خلال السماح للافراد بمشاركة آرائهم بحرية ، إذا قمنا بأسقاط ومحاولة تطبيق هذه الأفكار على المجتمع والدولة العراقية لمعرفة مدى تطابقها على أرض الواقع لرأينا أن القيمة الاولى المشار إليها في أعلاه: هي متوفرة ضمن الدستور العراقي شكلاً لا مضموناً .
أما القيمة الثانية التي أشار اليها أمرسن فهي غير موجودة تماماً، فلا وجود لمساهمة الحماية الدستورية لحرية الرأي في نشر المعرفة والبحث عن الحقيقة .
أما القيمة الثالثة فلا يوجد في العراق تحقيق مشاركة فعالة من قبل المجتمع في صنع القرار ،بالتالي ضاعت قيمة المواطنة لدينا، وهكذا حتى وصلنا الى ضياع القيمة الرابعة للحماية الدستورية إذ لم يكن لها انعكاس حقيقي على استقرار المجتمع ففقدنا هذا الاستقرار ، إذ لم يسمح للأفراد بمشاركة آرائهم بحرية .
هكذا حتى وصلنا الى مفترق طرق في ضياع هذه النصوص الحمائي والتي وردت في الدستور للانتصار لحرية الرأي والتعبير .
اترك تعليقك