بسام فرج: الضحك المتاح

بسام فرج: الضحك المتاح

زهير الجزائري

في نهاية الستينيات تعارفنا أنا وبسام بابتسامة متبادلة ونحن نقطع ذات الممر من اتجاهين. ابتسمنا معاً دون أن نعرف أسماء بعضنا،

لدينا نحن الذين عشنا في أجواء الرعب وسائلنا المواربة في التعرف على من هم على شاكلتنا، روح الدعابة، في دولة تكره الدعابة، تدلنا فوراً على شخص لا خوف منه. الابتسامة عرفتني على هذا الفتى النحيل الأشعث الشعر والشاربين اللذان يرمشان بلا توقف مع إيقاع الكلمات. تقاطعنا ثم رجعنا لنتصافح كأننا نعرف بعضنا من زمان.

بيني وبين بسام حين تعارفنا تشكلت لغة إشارية لا يعرفها غيرنا. المؤسسة العامة للصحافة و الطباعة التي كنا نعمل فيها مكونة من بعثيين أخذوا مهمة الإشراف وتنفيذ السياسات العليا التي جسدها تقرير المؤتمر القطري الثامن الذي ضخم الأنا البعثية بعد فترة من التردّد والانفتاح. البعثيون هم أدوات ممارسة السلطة، تحتهم طبقة من( بعثيين وإن لم ينتموا) تدربوا خلال الانقلابات المتتالية على الاعتراف بالسلطات مهما تعارضت، الاعتراف بأنها راعية الصحافة و مموّلتها. ومهما تغيرت السلطات بقي هذا الخضوع كأنه جزء من النظام الطبيعي والخضوع له قدر مستحب. المجموعة الأكبر أتت للصحافة من الأدب وغالباً من اليسار، وهي المجموعة العصية على التطويع. بينهم وبين البعثيين فجوة: التعصب من جهة والشك المطلق من جهة أخرى. ينتمي بسام للمجموعة الثالثة.

طبّق البعث في بداية وصوله للسلطة أسلوب المراقبة الذي تنامى سعة وعمقاً طوال خمس وثلاثين عاماً، وقد زرع الرقيب في دواخلنا. كنت أعمل في جريدة (بغداد أوبزرفر) وبسام في مجلة (ألف باء) ويربطنا ممر واحد ، منذ بداية عملنا ترأس المؤسسة البعثي المتمرس كريم المطيري. تزوغ عيناه وهو يتحاشانا ليراقب ظلالنا وما نترك خلفنا من كلمات. مهمة صعبة، أن يقود مؤسسة متخمة بالمشبوهين الذين يستخدمون لغة زلقة عصية على التحديد، ومعه مجموعة بعثية صغيرة غير قادرة على تفكيك شفرات الكتابة. لذلك كان يستعين بشقيقه حسن المطيري الذي يشغل موقعاً حساساً في مديرية الأمن العامة. ألتقي حسن في الرواق الأسفل فيبتسم لي من بعيد ويبتكر موضوعاً للحديث يطريني. ودائماً تخدعني ابتسامته الطفولية، ما كنت أعرف أبدًا بأنه معنيّ، بين مهماته، بمراقبتي وبسام وكلانا مشبوهان بيساريتنا وكوننا من الرواد الدائمين ل( مقهى المعقدين). يتتبع خطواتنا من المؤسسة الى المقهى، يتتبع كلماتنا ورسومنا ويرسل تقارير دورية عن المشبوهين في المؤسسة، نسخة لشقيقه الصحفي ونسخة لمسؤوله المباشر ناظم كزار.

المشبوه ينط

مرة استدعاني سكرتير التحرير (كمال بطّي). نظر اليّ بعينين تبرقان رعباً من وراء نظارة سميكة وهمس في أذني بصوت مشروخ:

-فُقِدَ من أرشيف المؤسسة الملف الخاص بعزيز الحاج وجماعته.

أخطأت حين عبرت عن استنكاري بصوت عال:

-.. ولماذا تخبرني أنا بالذات؟

-لأن اسمك ورد في قائمة المتهمين.

لا أعرف بقية القائمة لكن لدي يقين بأن اسم بسام كان فيها، وإن كاتب التقرير هو صاحب الابتسامة الطفولية حسن المطيري.

مهمة بسام لم تكن باعثة على الضحك، بل محيرة حساسة حد الخوف، فالكاريكاتير بالنسبة للسلطة الدكتاتورية هو جريمة لم ترتكب بعد، لذلك ينبغي مراقبتها بحذر مشدّد. الكاريكتير عمل فني كما يبدو ظاهرياً، لكنه سياسي المضمون، نقدي بامتياز يقدم نفسه للمشاهد من النظرة الأولى دون مواربة لغوية، بوضوح من خلال المضحك في دولة لا تقبل المزاح وتنظر للمعنى الخفي وراءه. إنه بالضرورة فن معادي يحاول خرق مهابة السلطة بالسخرية.

بالسليقة والتدريب عرفنا إن قيادات الدولة والحزب خط احمر، واعني بلون الدم.

صور الرئيس الذي لا يعرف الابتسامة أحمد حسن البكر مزروعة في كل الغرف ببدلته العسكرية. لا أحد يستطيع أن يمس هيبة سلطته. ذات صباح مشؤوم احتلت قوات مغاوير برشاشاتهم وبدلاتهم المبقعة المؤسسة و بدأت عملية تفتيش وتحقيقات عن مؤامرة نجهلها. هلِعاً وهو يرمش بلا توقف أخبرني بسام بأن صورة البكر ظهرت في أعلى الصفحة الأولى من جريدة (الجمهورية) الرسمية ويده ،التي يفترض أن تحيي الجماهير أو تمسك بالسيف، مبتورة. ما كان العقل المرتاب يصدق أن هناك خطأ تقني بسبب مكائن الطباعة، لقد جاء المحققون ليكتشفوا مؤامرة: من ولماذا أظهر المهيب مبتور اليد عاجزاً عن الفعل؟

صديقنا المشترك إبراهيم زاير دون أن يدري تجاوز الخط الأحمر. فقد كتب عن معرض لفنانة تبنته وزارة الخارجية. موهوماً بحلم المساواة تساءل إبراهيم في نهاية كلمته"لم هي بالذات؟" وزير الخارجية قدّر إن المقال يمس فخامته فاعتقل إبراهيم أياماً في قصر النهاية، ولكم أن تتخيلوا ما حصل له!

بين فترة وأخرى يحدد رئيس التحرير لبسام موضوعاً ويوصيه بإبراز الجوانب الإيجابية من إنجازات البعث. حين يوصيه يبتسم بسام في داخله، إذ يقفز الى ذهنه فوراً كاريكتير مشاكس غير قابل للنشر. لكن التنفيذ واجب ..آنذاك يأتيني بسام المأسور بالريبة من هذه السلطة على أطراف أصابعه. يتلفت ثم ينحني ليهمس في أذني حرجه من المهمة طالباً مني إسعافه بالفكرة. عنصر الحرج يكمن في ذلك السراط المستقيم القائم بين التنفيذ وتحاشي المديح. على هذا السراط علينا أن نجيد الرقص والمراوغة، لكي يغزو جهاز الدولة من تحت حاول البعث في تلك الفترة إلقاء كل ذنوبه على جهاز إداري بيروقراطي موروث من عهود سابقة. وجد بسام في هذه الثغرة منفذه فكان يبالغ في رسم الموظف البيروقراطي، والروتين القاتل الذي يثقل المواطن. بطريقة وأخرى يمس ثقل دم سلطة لا تعرف الضحك وتستبدله بالخوف.

كان على بسام أن يرسم صفحة أو صفحتين في كل عدد من مجلة (ألف باء).

في جو من أعراس شاملة طلبوا منه أن يكرس صفحتين عن بيان ١١ آذار الذي يضمن الهدنة مع الكرد. قبل هذا البيان كنا نحسد الكرد على حريتهم في جبالهم العصية على السلطة. الآن تساوينا معهم في العبودية.. هكذا قررنا نحن المرتابون في مقهى المعقدين، ومعنا بسام. كنت أرى بسام يروح ويرجع في الممر و يرمش بتواتر. حِرنا معاً.. كيف يمكن إنجاز أربع أو خمس رسوم عن بيان يجمع الإخوة الأعداء، البعث والكرد؟ في النهاية اتفقنا على ابتكار شخصيتين، أحدهما فلاح كردي بدون خنجر في حزامه، والآخر فلاح عربي بعقاله و عباءته كأنه ذاهب لوليمة ، كلاهما يتفاهمان بالأفعال دون حاجة للغة. الكردي يجر العربي ليدعوه إلى بيته فوق قمة تناطح الغيوم، والعربي معلق بيد الكردي وهو ينظر بفزع للهاوية تحته.. هكذا اتفقنا على أن نجمع الأخوة والريبة. تمعن رئيس التحرير طويلاً في رسوم بسام والرقباء يتناسلون في خياله، وبصعوبة ابتسم. آنذاك جاءني بسام وهو يفرك يديه: أفلتنا!

 

الفن قبل الأيديولوجيا

يكره بسام الكاريكتير الأيديولوجي الذي يضخم قبضة الشعوب المهددة وصورة الاستعمار الصغير الفزع أمام هذه القبضة. لقد تجاوز هذه المرحلة مدركاً أن الصراع أعقد من ذلك،أدرك ذلك وتجاوزها من خلال الفن وليس العقيدة. لكن اتفاقه مع اليسار واقع حال. فهو من بيئة عمالية تسكن في دور عمال مصافي النفط في الدورة. خلال دراسته اختلط بالفنانين الشيوعيين فيصل وصلاح وموسى الخميسي وإبراهيم زاير. وفي مقهى المعقدين كان لقاؤنا الدائم. نتابع آخر الكتب، وآخر المستجدات في الوضع السياسي وآخر أسرار السلطة ونتبادل الريبة منها. في هذا المقهى أشار لي منعم إلى صورة لصدام وهو يخطب في ساحة الكشافة:

-هذا هو الرجل الصاعد، وهو أخطرهم.

كان بسام حاضراً ، يرمش بتسارع حين يصغي لأمر خطير. في ذهنه حين سمع المعلومة ارتسم سلماً من جثث وشخصاً يصعد السلم تاركاً فوق ظهور ضحايا آثار خطواته الدامية.

يعرف بسام المسيحي حي البتاويين بيتاً بيتاً. أعتقد أنه هو الذي ارشد رواد المقهى لأرخص عرق تصنعه (أم كاترين) في منزلها.. عرق يطلق المزاج المرح لحدود الجنون فتغيب العواقب والممنوعات وتصبح كل الأمور متساوية. الحياة والموت، الضحك والبكاء.. تحت تأثير هذا العرق بنينا برجاً من النكات حول احتمال زيارة سارتر للعراق وكيف سيقدمه الباحث فؤاد جميل"يحل بين ظهرانينا هذه الأيام هرطيق من هراطقة الفرنجة، باريسي الأرومة وقد عاشر زوجته (سيمونه) على غير سنة الله ورسوله...". العرق يشحن مخيلة بسام بكاريكاتيرات غير صالحة للنشر ، ومع إبراهيم زاير شكلا ثنائياً مثالياً، يتبادلان النكات بمزاج طلق بعد ربعية العرق. أنا وحسين حسن نعتمد على مفارقات اللغة. تشابه الكلمات وتعارض المعاني، ولذلك نجد في كلمات الأغاني مادة خصبة، ونقلب معاني المقولات السياسية مثل ( الشعب يسأل والحزب يجيب)، بسام وإبراهيم يستخدمان الصور بدل الكلمات. الصور أكثر تعبيراً ووضوحاً. وكانا يضحكان بتناغم وحرية. يستلهم بسام رسومه من الأحاديث اليومية. البارات هي المكان الوحيد لتبادل الأحاديث بحرية ، حين يصعد بخار الخمرة ويغلف العقل الحذر يتلاشى الرقباء ، حتى بحضورهم وتبدأ التعليقات الساخرة والنكات متحوّلة في خيال بسام إلى صور.

تعلم بسام من رسامي الكاريكتير المصريين مزج الكلام مع الصورة، لكنه حدّث هذا الفن باستخدام الرسوم الواقعية ذات الخطوط البسيطة اللينة على عكس (مؤيد نعمة) الذي استخدم الخطوط الهندسية المتوترة.يستنبط بسام فكرته من الاسترخاء في حين تنطوي شخصية مؤيد الهادئة على توتر داخلي ينعكس في رسومه على شكل خطوط هندسية متوترة حادة الحواف.

بجسده ثم بعقله اكتشف بسام عنف السلطة. عائداً في آخر الليل منتشياً بالخمرة، كانا هو و المترجم عبد الإله النعيمي يتمشيان بترنح على رصيف شارع السعدون، كلاهما منتج للنكات ويضحك من نكاته.. عبد الإله نقل لرواد المقهى النكتة اللندنية الباردة والذكية اللصيقة بالتناقضات الاجتماعية وبسام يحولها إلى رسوم. نكته تحيل إلى نكتة وضحكة تغذي ضحكة.. هكذا يجري الحوار بينهما. غافلان كانا عن اثنين يتتبعان خطواتهما، يرتديان ملابس المغاوير المبقعة وكف كل منهما على مقبض السكين، مشحونات بالعنف بعد يوم طويل من التدريب على كيفية استخدام الحربة في حرب الأيدي مع العدو ، فجأة قفزا أمامهما وراحا يمزّقان الوجهين بالسكاكين في احتجاج دام على الضحك المشبوه. تركت تلك المعركة غير المتكافئة جروحاً عميقة في وجهيهما وأعمق في روحيهما. صار بسام يضحك دماً، يروي الحادثة ويتوقف في منتصفها حائراً في تفسير السبب، وفي رسومه غاب أي ملمح لسعادة محتملة، على العكس تبدو النهايات مغلقة تماما أو عصية مثل المتاهات.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top