اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > من منتصف الليل حتى الفجر..عبد الله إبراهيم يكشفُ خفايا السيرة الفكرية لموسوعته - القسم الثاني

من منتصف الليل حتى الفجر..عبد الله إبراهيم يكشفُ خفايا السيرة الفكرية لموسوعته - القسم الثاني

نشر في: 6 إبريل, 2021: 10:19 م

لطفية الدليمي

« ... كان منتصف الليل يمثلُ لي نوعاً من الغروب ، وغالباً ماينتهي الفجرُ وأنا في غمرة العمل إلى قدوم الصباح .

أسدلتُ ستارة الجدّ على كلّ ماله صلة باللهو ؛ فماعدتُ أجدُ نفسي إلا ساهراً أمخرُ عباب القراءة والتأليف . أخذتُ بهذا النهج خلال انصرافي لكتابة الصيغة الأولية لأطروحة السرد العربية التي بدأتُ بها في الساعة الثانية عشرة من ليلة الخميس 3/ 8 / 1989 وانتهيتُ منها في الواحدة والنصف من ليلة الجمعة 12 / 10 / 1990 .......»

الدكتور عبد الله إبراهيم

موسوعة السرد العربي

سيرة كتاب

ثمّة خصيصة أخرى فائقة الأهمية تتجلّى في الموسوعة ، وقد أشار إليها عبد الله إبراهيم في كتاب سيرة الموسوعة في العبارات التالية :

« ... أردتُ بِـ ( السردية ) المدخل الذي يستعين به الباحث لاستخلاص الطبيعة السردية للنصوص الأدبية ، وفيه تترادف المعرفة النقدية بشؤون السرد من حيث أنها تستخلصُ صفاته وتعرّفُ بهويته الثقافية في آن واحد ... «

يمكنُ فكّ اللغة الشفرية المخصوصة في هذه العبارة بطريقة إجرائية تنطوي على جهد ثنائي الأوجه أبان عنه المؤلّف في غير موضع من كتاب السيرة :

أولاً : فكّ الاشتباك المؤذي بين الأدب والتأريخ السياسي ، وهو إشتباكٌ ضار أناخ بوطأته الثقيلة على الدرس الأكاديمي العراقي والعربي حتى بات التحقيب التأريخي للأدب أقرب إلى تعويذة مقدّسة جعلت دراسة الأدب نوعاً منفراً من اللاهوت الأدبي بدل أن يشتبك الأدب في صناعة الثقافة والدراسات الثقافية وتاريخ الأفكار بعامّة . كان من شأن هذا اللاهوت الأدبي الذي تعود مصنّفاته الأولى إلى شخوص أكاديمية معروفة أن جُعِلَ الأدب فاعلية مسوّرة بالعزلة وغير مؤثرة في تشكيل الذائقة المعرفية والفلسفية للإنسان ، وربما هذا هو السبب الذي أشاع العزوف عن الدراسة الجادة فضلاً عن تحبيب الأدب – قراءة وذائقة – لدى أوسع نطاق من الناس على المستويين الأكاديمي والشعبي .

ثانياً : في الجانب المعاكس ، شهد الوسط العراقي والعربي – وإلى حدّ ما الوسط الأكاديمي فيهما – منذ نهاية ستينيات القرن العشرين فورة غير مسبوقة في التبشير بالبنيوية التي بدأت دراسة تشريحية أنثروبولوجية الطابع لظواهر مجتمعية محدّدة في بقاع محدّدة هي الأخرى من العالم ثمّ جرى توسيعها لتشمل ظواهر ثقافية وفكرية عامة من قبل بعض البحّاثة – الفرنسيين بخاصة - الذين إستطابوا المقاربة الإختزالية للسرد إلى دراسة سيميائية تستفيد من تطوّرات حديثة جاء بها علم الإدراك المعرفي والعلوم العصبية والدماغية المستجدّة ، وقد غالى البعض عندما إختزلوا القيمة الجمالية والفردانية في الأدب إلى مواضعات نحوية ودلالية مستفيدين من التشريح الرياضياتي للتراكيب النحوية الذي كان نعوم تشومسكي رائده الأول في كتابيه الرائدين : بنى نحوية ، جوانب من نظرية النحو . راحت الدراسات البنيوية تتفرّعُ إلى فروع ثانوية أكثر إيغالاً في الشكلانية و أنتجت الكثير من المابعديات ( مابعد البنيوية ، مابعد التفكيك ،،،،، ) . المؤسفُ لدينا أنّ ترجمات بعض المصنّفات البنيوية الأولى جاءتنا عبر البوّابة الترجمية المغاربية التي إنطوت على تراكيب لغوية منفّرة شديدة البشاعة . كان المبشّرون الأوائل بالبنيوية السردية يتطلّعون لجعل كلّ السرد العربي منقاداً إلى مقاسات المقصّ البنيوي ، وبلغت جهودهم حدوداً غير مسبوقة من الإيغال في واحدية الرؤية والمنهج ؛ لكن من جانب آخر إندفع بعض رموز الطرف المعاكس ( أرباب المقاربة التاريخية – السياسية أو الانطباعية الشخصانية للأدب ) في تبشيع الجهود البنيوية ووصف بعض رموزها بالخونة للثقافة العربية ونعيهم بالعمالة للثقافة الفرنسية ، وهكذا صار الأدب والسرد ساحة صراعية بين هؤلاء . ليس من ضير في هذا الشأن القولُ أنّ دراسة كلّ من اللغة كفعالية عقلية من جهة ، والنمذجة الحاسوبية للغة – أية لغة – من جانب آخر هو مسعى يرادُ منه الدراسة النسقية للغة سعياً لتخليق لغة عالمية الطراز ، وليس من مسوّغ يستوجبُ بالضرورة أن تنقاد الفاعلية السردية لهذه المساعي الحثيثة .

أبدع عبد الله إبراهيم في الكشف عن مخبوءات ذلك المضمار الصراعي وبخاصة داخل أوساط الاكاديميا العراقية .

خصيصة أخرى إستفردت بها موسوعة السرد العربي ونجح عبد الله إبراهيم في الكشف عنها بحذق . المعروفُ أنّ المؤلف إختطّ لنفسه مشروعين بحثيين كبيرين : السردية العربية ، والمركزيات الثقافية ، وقد نجح في شبك هذين المشروعين في إطار توليفة هيكلية سوّغ لها بما يراه حقيقة ماثلة ترى أنّ كلّ مركزية ثقافية إنما تمتلك سردياتها الخاصة بها ، وهذه مقاربة أراها ناجحة ومقبولة على المستويين المفاهيمي والإجرائي .

إلى جانب فرادة المشروع الموسوعي الذي أوقف عبد الله إبراهيم حياته لتحقيقه ثمة خصيصة في أعماله كلها لم أتناولها من قبلُ وأراها مستحقّة لاعتبار خاص – تلك هي لغته التي تتصادى مع سحر لغة أعاظم قدماء ناثرينا العرب ؛ لكنها لم تعتمد الجزالة الخالصة للمبنى اللغوي بل شابها الكثير من البساطة المحببة حتى صارت لغة يسيرة رائقة تنشرح لها النفس وتنفتح لها مغاليق العقل ، وليس سرّاً القولُ أنّ المعاشرة الفكرية الطويلة لهؤلاء الأعاظم تتركُ بصمتها الساحرة في المتون اللغوية التي يدبجها مستطيبو قراءتهم ، ومالم يبذل الواحد من هؤلاء المُريدين جهداً محسوباً وفاعلاً بقصد التخفيف من ثقل هذا التأثير فلاأظنه إلا سينتهي ناثراً يترسّمُ وقع كلمات هؤلاء الكبار لكنما على حساب دسامة المادة الفكرية التي يعرضها ، وقد أفاض عبد الله إبراهيم في هذه الجزئية بطريقة كانت مبعث غبطة عقلية لي ؛ لأنه أشار إلى ضرورة الموازنة الحاسمة بين جزالة المفردة اللغوية وقدرتها على تمرير الحمولة الفكرية من غير صناعة مغالية في موجبات الجزالة أو إعاقة الأثر المطلوب للمتون الفكرية .

يفتتحُ عبد الله إبراهيم كتابه بمدخل أفرد له عنواناً كثيف الدلالة - كسائر عناوين الفصول الأخرى في الكتاب - : ( في أتون التأليف الموسوعي ) . نحنُ هنا إزاء إقرار حقيقي بأنّ المؤلف إختار مبحثاً موسوعياً ، وتلك حقيقة مؤكدة . هذا المدخل هو أقربُ أن يكون خارطة دلالة لكلّ التآليف التي تنحو منحى موسوعياً ، وقد إستفاض فيها المؤلف في تناول حافات حادة في البحث لايقربها إلا من إمتلك إرادة عزوماً في خوض عباب التأليف الموسوعي وبخاصة في حقل السرديات الذي لاقرار له . يعقبُ هذا المدخل الثري فصلٌ أول بعنوان ( كتاب بنمو عبر الزمن ) ضمّ سبعة عناوين فرعية تناولت سياق التأليف ، والترحّل في قارة السرد ، والمواظبة التي لانهاية لها ، والعبودية المختارة التي يدفعها شغف عجيب ، والطرق على أبواب مغلقة ، وتنظيم هيكل الموسوعة ، وعن الأسلوب المعتمد في الموسوعة . ليس القارئ في حاجة لكي يستكشف من العنوان الرئيسي والعناوين الفرعية أنّ المؤلف يبتغي القول أنّ الكتابة في حقل موسوعي إنما هي جهد ممتدٌّ عبر الزمن ، وليس من المنطقي توصيف نهاية حقيقية له ؛ فالموسوعية قرينة الامتداد والتوسّع واللانهائية حتى ليكاد المؤلف يشقُّ عليه أن يضع نهاية لما يكتب .

يتناول المؤلف في الفصل الثاني الموسوم ( الإعداد المنهجي ) ستة عناوين فرعية جاءت على الترتيب التالي : في دائرة المناهج النقدية الحديثة ، البحث عن مكان تحت شمس النقد ، استعداء صريح وعدم اعتراف ، حول مفهوم « السردية « وفي حيثباته الثقافية ، إعادة قسرية إلى الوراء أم إندفاع مقصود إلى الأمام ؟ ، القاعدة المنهجية لموسوعة السرد العربي . هنا سيجد القارئ نفسه أمام مراجعة جادة لطبيعة تأصيل السرد العربي عندما يوضعُ في ميزان المقاربة مع المناهج النقدية الحديثة ، فضلاً عن معضلات إشكالية مع الوسط الجامعي العراقي والعربي .

أما الفصل الثالث ( المتن النقدي ) فقد إختصّه المؤلف ليكون سياحة فكرية باذخة الإمتاع في علاقة السرد بالمفاهيم الجوهرية الكبرى في حياتنا ، وقد جاءت هذه الكشوفات السردية في عشرة عناوين فرعية : وصف السياق الحاضن للسرد العربي القديم ، بزوغ الأنواع السردية الكبرى ، إرتحال في دار الاسلام ، إشكالية نشأة السرد العربي الحديث ، إستكناه الأبنية السردية والدلالية ، سرود نسوية وأخرى انثوية ، السرد والاعتراف والهوية والمنفى ، من الرواية التاريخية إلى التخيل التأريخي ، الكمال في النقص . أضاف المؤلف عنواناً فرعياً إضافياً لهذا الفصل تحدث فيه عن حيثيات فوزه بجائزتي الشيخ زايد والملك فيصل ، وقد جاء فوزه بجائزة الملك فيصل عقب جهد ماراثوني شابته غرائبيات تدعو للإدهاش .

خصّ المؤلف الفصل الرابع لنماذج من اليوميات الشخصية التي دأب المؤلف على كتابتها منذ عام 1976 ، وكتابة اليوميات كما نعرف هي خصيصة مقترنة بكلّ عقل موسوعي ؛ ولهذا السبب أرى أنّ التفكّر في هذه اليوميات هو جهد ممتع وضروري لفهم تفاصيل دقيقة في الموسوعة حتى لو كان المؤلف قد تناول بعضاً من هذه اليوميات في سياقات محدّدة من بعض فصول سيرة الموسوعة .

أما الفصل الأخير فهو ملحق وثائقي أفرده المؤلف ليكون شهادة تأريخية عن وثائق تخصُّ تقارير تناولت كتاب « السردية العربية « ( وهو غير موسوعة السرد العربية ؛ بل يمكن عدّه نسخة أولى تجريبية له ) فضلاً عن بعض المراسلات ونماذج من شهادات الجوائز واليوميات الخطية للمؤلف .

موسوعة السرد العربي عمل نخبوي ، وهذه خصلة جميلة ومحمودة فيه لأنّ بعض فاعلياتنا الثقافية من الأفضل أن تبقى متوّجة بفضيلتها النخبوية عوضاً عن أن تُسْفَحَ نخبويتها ابتغاء دعاوي التبسيط والاكتفاء بملامسة السطوح والمكوث فيها بدل الغوص في القيعان العميقة من المحيطات السردية الشاسعة ، ليس من فضيلة في هذا المقام إلا فضيلة كسر السعر النخبوي لهذه الموسوعة فخمة الإخراج والمتون الثقافية ، وهنا لابدّ من الإشادة بفضيلة لعبد الله إبراهيم عندما عمد قاصداً متفضّلاً إلى نشر كلّ مؤلفاته بصيغة ألكترونية PDF . تلك فضيلة تشي بروحٍ نبيلة المقاصد تسعى لإشاعة المعرفة حتى لو تكبّد من أجل ذلك خسارة مالية ، ولابدّ من الإشادة بهذه الفضيلة المحمودة بكلّ ماتستحقّه من تنويه بموجبات العرفان وكرم الصنيع ، ربما سيكون من قبيل الإشارة الواجبة لهذه النخبوية التي تنفرد بها الموسوعة نقلُ هذه اليومية التي دوّنها عبد الله إبراهيم في يومياته ليوم 21 / 5 / 2010 ، الساعة 11 : 20 مساء في بيته بالدوحة ، حيث كتب :

« ... إستغرقني العملُ على موسوعة السرد ، وتلبّستني حالةٌ من السلوك الكتابي اليومي . لن أجامل ، ولن أسترضي . أريدُ أن أقدّم كتاباً جاداً وعميقاً أضعُ فيه مغامرتي السردية بكاملها . لاأدّعي أنه كتاب جامعٌ للظاهرة السردية طوال ألف وخمسمائة عام ؛ وإنما هو الأشمل ، والأعمق من بين كلّ ماكُتِب عنها طوال التأريخ ، وسيأتي آخرون يوسّعون المداخل والأفكار فيه . أغرورٌ هو أم تعبيرٌ عمّا إنتهى إليه أمر الموسوعة ؟ تلك قضية سوف يحكم عليها المستقبل ؛ فربما يُدفَنُ هذا الكتاب فلايسهمُ في تعديل التصوّرات الخاطئة عن السرد العربي ، وشأنَ الكتب العصية على القراءة يكون مصيره مصير المدوّنات المرجعية التي لاتستهوي إلا قلة من الباحثين ؛ ولكن : هل إسترضيتُ يوماً عامة القرّاء في كل ماكتبتهُ طوال أكثر من ربع قرن ؟ إجابتي هي : ( لا ) ؛ فلن أدغدغ وهماً ؛ فمتعتي هي الحفر في المستويات الخفية للخطابات الثقافية . «

 

تستحقُّ موسوعة السرد العربي لعبد الله إبراهيم أن يصنّف لها مؤلفها كتاب سيرة ، كما تستحقُّ الموسوعة وسيرتها أن تنالا مقروئية واسعة من جانب كلّ الشغوفين الحقيقيين بالظاهرة السردية العربية ، وليست مداخلتي الوجيزة في التعليق على سيرة الموسوعة سوى رغبة قديمة في أن يحوز المشتغلون في حقل السرد العربي ومتفرعاته العديدة معرفة راسخة بالموضوعات المفاهيمية الإشكالية في هذا الحقل ، وقد أجاد عبد الله إبراهيم في الإيفاء بهذا المسعى الذي صار عنواناً مميزاً له في الثقافة العربية الراهنة .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملاحق المدى

مقالات ذات صلة

16-04-2024

مثقفون: الجامعة مطالبة بامتلاك رؤية علمية تكفل لها شراكة حقيقية بالمشهد الثقافي

علاء المفرجي تحرص الجامعات الكبرى في العالم على منح قيمة كبيرة للمنجز الثقافي في بلدانها، مثلما تحرص الى تضييف كبار الرموز الثقافية في البلد لإلقاء محاضرات على الطلبة كل في اختصاصه، ولإغناء تجربتهم معرفتهم واكسابهم خبرات مضافة، فضلا على خلق نموذج يستحق ان يقتدى من قبل هؤلاء الطلبة في المستقبل.السؤال الذي توجهنا به لعدد من […]
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram