عودة السياسة الأميركية إلى سياقها التاريخي

آراء وأفكار 2021/04/25 10:33:48 م

عودة السياسة الأميركية إلى سياقها التاريخي

 د. جاسم الصفار

منذ الساعات الأولى للإعلان عن وقوع انفجار في منظومة توليد الطاقة في المنشأة النووية الإيرانية في ناتانز، يوم الأحد الماضي 11 نيسان، اعتبرت معظم وكالات الأنباء العالمية، أن الحادث كان إما نتيجة تخريب مباشر، أو أنه عملية عن بعد باستخدام التقنيات الإلكترونية.

ومع أنه لم تتوفر حتى الآن معلومات دقيقة عن حجم الدمار الذي أصاب المنشأة النووية في ناتانز، إلا أن الضرر، على ما يبدو، كان طفيفاً، بحيث سمته بعض وسائل الاعلام الروسية "لسعة بعوضة"، لم تتعرض، بسببه، منظومة توليد الطاقة في المفاعل إلا لعطل محدود، أما أجهزة الطرد المركزي المسؤولة عن تخصيب اليورانيوم، فإنها لم تتعرض لأي ضرر، كونها تقع في موضع آمن تحت الأرض.

ومنذ البداية كان واضحاً أن إسرائيل هي التي تقف وراء العملية التخريبية في المنشأة النووية الإيرانية، لذا اتهم وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف تل ابيب بالتورط في الهجوم بعد الإعلان عنه مباشرة. وسرعان ما حددت طهران هوية الشخص الذي تسبب في الحادث. ومن جهته، وصف رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، علي أكبر صالحي الحادث بأنه "مظهر من مظاهر الإرهاب النووي الإسرائيلي".

ولم تتردد وسائل الإعلام الأميركية عن توجيه أصابع الاتهام الى إسرائيل. حيث أشارت صحيفة "نيويورك تايمز"، نقلاً عن مصادرها، أن الحادث الذي وقع في المنشأة النووية الإيرانية كان من تدبير الجانب الإسرائيلي‘ إلا أن الصحيفة لم توضح، إذا ما كانت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على علم مسبق بالحادث أم لا، مع أنها رجحت أن تكون تل ابيب قد أبلغت الولايات المتحدة قبل شروعها بالهجوم التخريبي على المنشأة الإيرانية.

ومن الملاحظ أيضاً هو أن إسرائيل لم تنكر تورطها في الانفجار الذي وقع في منشأة ناتانز الإيرانية. وأشارت وسائل إعلام إسرائيلية عديدة الى جهاز "الموساد"، على أنه هو الذي شارك في تطوير وتنفيذ هذه العملية. وادعت القناة 13 الإسرائيلية (المعروفة باسم ريشيت 13)، دون أن تشير الى مصادرها، أن الهجوم السيبراني الإسرائيلي الأخير، الذي وصفته "بالحدث الكبير"، تسبب في "أضرار جسيمة لبرنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني".

لم يتم اختيار وقت الهجوم بالصدفة، فإيران تخوض في هذه الفترة مفاوضات مضنية في فيينا مع الوسطاء الدوليين (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا العظمى والصين وروسيا) والتي انضمت إليها الولايات المتحدة أيضاً، بشأن الاتفاق النووي الإيراني، لذا كانت العملية التخريبية الإسرائيلية رسالة الى المجتمعين، وخاصة الى إدارة بايدن بأن المنشآت النووية الإيرانية ليست آمنة تماماً، وهذا من شأنه إضعاف موقف المفاوض الإيراني في فيينا وإخضاعه لشروط جديدة من أجل إضافة بنود أخرى لاتفاقية 2015 ترفع من مستوى الرقابة والتحكم في البرنامج النووي الإيراني.

وعدت طهران بالرد على إسرائيل، وقال وزير الخارجية محمد جواد ظريف أن “ الرد الايراني سيكون شديداً للغاية”. الا أن العديد من الخبراء يميلون للاعتقاد بأن إيران، التي تركز الآن على تطوير تقنياتها النووية، ستحاول في الوقت الحاضر تجنب اتخاذ أي إجراء قد يعقد علاقتها بالولايات المتحدة ويعرضها لعقوبات صارمة،لاسيما وأن إيران تدرك تماماً، بتقدير خبراء روس، أن السبب الأخر للاستفزاز الإسرائيلي هو دفعها الى عمل متهور يقطع الطريق على إمكانية العودة للاتفاق النووي.

لابد من الإشارة هنا الى أن الولايات المتحدة كانت أول من ساعد إيران في خلق المتطلبات الأساسية لإنتاج الطاقة النووية. ففي 5آذار 1957، وقعت طهران مع واشنطن اتفاقية للتعاون في الاستخدام السلمي للطاقة الذرية في إطار برنامج الذرة من أجل السلام. وعندما تم إنشاء الوكالة الدولية للطاقة الذرية في نفس العام، أصبحت إيران على الفور عضواً فاعلا فيها. وفي عام 1963، انضمت إيران إلى معاهدة حظر تجارب الأسلحة النووية في الجو وفي الفضاء الخارجي وتحت سطح الماء، والتي وقعها الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة.

أي أن إيران عضو كامل العضوية في النادي النووي، مع إنها، في الواقع، لا تمتلك أسلحة نووية. وهذا لا ينفي أنها سعت لامتلاك تقنيات إنتاجها. فمع أن البرنامج النووي الذي ساعدت روسيا في تطوير تقنياته كان، حسب الاتفاق مع موسكو لأغراض سلمية إلا أن إيران كانت من وراءه تسعى لأن يكون منصة انطلاق تمنحها إمكانية تطويره الى برنامج ردع عسكري نووي ، فالأسلحة النووية بالنسبة لإيران، اليوم، وسيلة فعالة لمنع خصومها من التورط بشن حرب شاملة عليها.

من حيث واقعية هذا التوجه وفقاً لما تملكه إيران من قدرات تكنولوجية، صرحت كيلسي دافنبورت مديرة برنامج حظر انتشار الأسلحة النووية في جمعية “أرمز كونترول اسوسيييشن» منذ وقت ليس ببعيد، أن المستوى الحالي للتطور التكنولوجي لإيران يسمح لها بإنتاج الأسلحة النووية في غضون عام واحد كحد أقصى، لذا استمرت إيران تناور، كسباً للوقت، الى أن وقعت في 15 تموز 2015 على اتفاق مع الدول الست الكبرى (الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والصين وروسيا) يحدد أغراض برنامجها النووي مقابل رفع العقوبات عنها.

انسحب الرئيس ترامب، كما هو معروف، من الاتفاق النووي الذي أبرمه الرئيس أوباما مع إيران. والآن تعود أميركا في عهد الرئيس بايدن الى نهجها الطبيعي الذي أجبلت عليه السياسة الاميركية منذ نشوء الولايات المتحدة الأميركية. فشعار «أميركا تعود» الذي أطلقه بايدن، يمكن فهمه على أنه عودة لجذور السياسة الاميركية، إن أميركا بحاجة ماسة، اليوم، إلى تكرار النهج الماكر للرئيس روزفلت، الذي نجح في دفع أكبر قوتين استعماريتين، إنجلترا وفرنسا، للحرب مع ألمانيا النازية، بينما اختارت أمريكا لنفسها أن تكون «بائع العتاد الحربي ومستلزمات القتال». وتبعا لذلك كسب الاقتصاد الأميركي أكثر من 14.8 تريليون دولار ثمن الإمدادات التي قدمتها أميركا للدول المشاركة في الحرب.

فقط الأشخاص الساذجون يعتقدون أنه خلال فترات البحث عن الذهب في أميركا، فإن أولئك الذين يغسلون الذهب ويصفونه هم من سيكونون الأثرياء، بينما في الواقع، يحصل على النصيب الأكبر من الثروة المكتسبة هم أولئك الذين يمدونهم بالأدوات والملابس والأحذية والمواد الاستهلاكية.

وبالإضافة إلى القروض التي سددتها الدول المتحاربة صاغرة، فتحت الدول الاستعمارية رسمياً مستعمراتها للبضائع ورؤوس الأموال الاميركية التي حققت منها الولايات المتحدة مكاسب مالية تتراوح حسب تقديرات مختلفة من 30 إلى 80 تريليون دولار بالأسعار الحديثة. وهذا ما يفسر، كيف تمكنت واشنطن بعد ذلك من إعداد الأساس لاتفاقية بريتون وودز عام 1944، التي قدمت لأمريكا أكثر من نصف قرن من الازدهار وضمان تحقيق مكانة القطب المهيمن على العالم.

واليوم، تحتاج النخبة الحاكمة الأميركية الجديدة إلى نفس الاسلوب بالضبط، إنها لم تعد في حاجة لفيتنام ثانية أو أفغانستان أو العراق. فبعد تجارب غير مثمرة منذ الحرب الباردة سئم الأميركيون القتال بحرابهم الخاصة، لذا فان أغلب الذين يقفون وراء «إدارة كامالا هاريس»، حسب دراسات اجتماعية سياسية عديدة، هم الأكثر اهتماماً بتكرار الموقف الأميركي فترة الحرب العالمية الثانية، ولكن بنطاق محدود.

وهذه، على ما يبدو، هي السياسة التي ستتبناها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط «نيران مستوردة وحطب محلي»، وهذه أكثر فائدة لأميركا من سياسة ضبط إيقاع خلافات تاريخية وآنية ملتبسة بين دول المنطقة. ولا ننسى أن لأميركا حساباتها ومصالحها وأولوياتها وهي تختلف عن حسابات ومصالح وأولويات أي من دول المنطقة بما فيها إسرائيل.

تعليقات الزوار

  • الدكتور عبد الاحد متي دنحا

    موضوع قيم ومفيد اقتباس: إن أميركا بحاجة ماسة، اليوم، إلى تكرار النهج الماكر للرئيس روزفلت، الذي نجح في دفع أكبر قوتين استعماريتين، إنجلترا وفرنسا، للحرب مع ألمانيا النازية، ممكن ذكر المصدر؟ مع تحياتي

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top