د. أسامة شهاب حمد الجعفري
قطعت البشرية شوطاً طويلاً في جعل القضاء السلطة المحتكرة لصناعة العدالة في المجتمعات , و في هذه المجتمعات تخوّل هذه السلطة الفصل بين المنازعات من دون أن يكون لها حق المشاركة في صناعة القرار القضائي ,
فنشأ نظام قضائي الصفة البارزة فيه هي الفصل التام بين القضاء و المجتمع , يتمتعون القضاة فيه بالاستقلالية المفرطة و المطلقة مما فرض عليهم العمل الفردي و تجنب العمل المشترك مع المجتمع في إنتاج العدالة و فرضها من فوق على المجتمع , و هذا الاتجاه في التنظيم القضائي قدم مبررات لاعتناق هذا السلوك
أهم هذه المبررات و جوهرها تتمحور حول مبررين : أولهما: قانوني و ثانيهما سياسي, أما المبرر القانوني : فإن القضاء وظيفته فنية بحتة تنحصر في تطبيق القواعد القانونية المشرعة من قبل السلطة التشريعية و المواطن لا يملك قدرات التخصص الدقيق و الفني , كما أن على القاضي أن لا يستقي أفكاره و معلوماته عند صناعة القرار القضائي إلا من القاعدة القانونية حصراً تطبيقاً للوضعية القانونية ، أما المبرر السياسي : فإن القانون إنما هو تعبير عن الإرادة العامة للمجتمع , و رأي المجتمع موجود في هذه القوانين , و إن القضاء هو بالنهاية ينفّذ الإرادة العامة التي تأخذ صورة قوانين تأخذ طريقها للتطبيق في المجتمع عبر السلطة القضائية.
هذا الاتجاه يسمى النظام اللاتيني أو نظام (civil Law) الذي وجد له أكثر من150 دولة متحمسة في الدفاع عنه و تطبيقه منها العراق وفرنسا والمانيا واليابان و اسبانيا وغيرها,بخلاف النظام القضائي الانكلوسكسوني أو نظام(common Law) الذي تطبقه أكثر من 80 دولة منها الولايات المتحدة الأميركية و بريطانيا و كندا و الهند و غيرها , و يتمتع فيه القاضي بمرونة أكثر في إشراك المجتمع في صناعة العدالة من خلال نظام المحلفين الذي يشرك المواطن في العدالة الجنائية.
إلا أن هذه الأسباب اصبحت غير مقنعة و لا تبرر الفصل التام بين المجتمع و القضاء , فمبرر أن القضاء وظيفة فنية تخصصية لا يملكها المجتمع و أن على القاضي أن لا يستقي معلوماته إلا من القاعدة القانونية فان الرد على هذه المقولة هو أن مشاركة المجتمع في القضاء لا تعني أبداً أنه يتدخل في الجانب الفني لعمل القاضي في تفسير القانون و تأويله و إزالة تناقضه و تعارضه و تكييف الواقع مع القانون, و إنما واجبه هو بيان البعد الاجتماعي للدعوى المنظورة أمامه في كل جوانبها و تشخيص المصالح الخاصة و المصالح العامة و ليأخذ القرار القضائي طريقه في تطوير المجتمع و زيادة حيويته , فالقاعدة القانونية لا تقتصر عناصرها على الجانب الفن التشريعي أو الصياغة التشريعية و إنما ترسم النسيج الاجتماعي وفق خيوط منظومة الحقوق والحريات لذلك المجتمع , و ما الصياغة التشريعية لهذه القاعدة القانونية إلا قوالب تفرغ فيها مبادئ المجتمع و حاجاته و مصالحه و قيمه للوصول لهذه الغاية الأخلاقية و الاجتماعية عبر القرار القضائي , فلا يمكن الفصل التام بين القانون و المجتمع ، أما المبرر الثاني الذي يقول إن القاضي لا يحتاج الى رأي المجتمع في مرحلة تنفيذ القانون لأن رأي المجتمع موجود أصلاً في القاعدة القانونية كونها تمثل الإرادة العامة للمجتمع و ما القاضي في حقيقته إلا منفذ لهذه الإرادة العامة التي تمثل رأي المجتمع التي جاءت بصورة قانون, فانه يمكن الرد على هذا المبرر من أن القانون يمر بمرحلتين : مرحلة التشريع و مرحلة التنفيذ , و من ثم فان وجود المجتمع في مرحلة التشريع و عدم وجوده في مرحلة التنفيذ و التي تعد أهم المراحل إنما هو دور منقوص للإرادة العامة في المجتمع , فرأي المجتمع يجب أن يكون موجوداً في كلتا المرحلتين و خاصة مرحلة التنفيذ التي هي مرحلة تحقيق القاعدة القانونية لابعادها الاجتماعية الواقعية المرغوبة ، فالبرلمان يضع الموجهات العامة بصيغ قواعد قانونية و القاضي في معرض اجتهاده يواجه النقص و القصور لهذه القانون بسبب تطور المجتمع و تبدل أحواله لأجل حل مشاكل المجتمع و تلبية احتياجاته وفق مفهوم الامتداد و التكامل بين دور المشرع و القاضي، فمرحلة التشريع و مرحلة التنفيذ مرحلتان مرتبطتان مع بعضهما في حكم المجتمع , فيجب أن يوجد رأي المجتمع في مرحلة التنفيذ أيضاً كما وجد في مرحلة التشريع.
و من هنا, و للفوائد التي حققها النظام الانكلوسكسوني (common Law) في تحقيق التفاعلية بين القضاء و المجتمع بشكل يحقق الاستقرار المجتمعي و الأمني للأفراد, فأن النظام القضائي اللاتيني (civil Law) الذي يعتبر العراق أحد الدول التي تأخذ به مدعو الى التنازل عن مبدأ الفصل التام بين القضاء و المجتمع , و إحلال محله مبدأ الشراكة المجتمعية في صناعة العدالة من خلال آلية "صديق المحكمة" amicus curiae الذي هو نظام قانوني إجرائي معتبر و ممارس في النظام الانكلوسكسونيanglo-american بدرجة متفاوتة , من خلاله يمكن للمحكمة أن تدعو شخصاً أو مجموعة أشخاص أو نقابة و اتحاد أو منظمة مجتمع مدني ليسوا أطرافاً في الدعوى و لا متدخلين فيها, بأن يقدموا معلومات و رؤية تستنير بها المحكمة أثناء سير المرافعات حول مسائل واقعية أو قانونية لمساعدتها في الوقوف على جميع الأبعاد الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية , إذا ما كان القرار القضائي يمس شريحة واسعة من المجتمع و له انعكاساته في الشأن العام , و يمس الصالح العام , فهو ليس مستشاراً للقاضي و لا لأحد الخصوم و لا شاهداً و ليس خبيراً يقدم رأي فنياً للمحكمة فلا تسري عليه قواعد عزل الخبراء و ردهم , و معقد النفع في صديق المحكمة هو نافذ القضاء على المجتمع بان يعطي له وجهة نظر نوعية و متميزة تهم الصالح العام لمساعدة المحكمة في فتح فضاء تفكيري أوسع من فضاء الخصوم , و أن لا يكون فكر القاضي مرتبطاً في مدار الخصوم , في مسائل عامة التي قد تتأثر من الحكم القضائي بخصوص دعوى معينة يمتد أثرها الى المجتمع , كقضايا مكافحة الفساد , و حقوق الإنسان , و حقوق العمال , و حرية التعبير و الرأي , التنمية , السياسات العامة الاقتصادية و الاجتماعية , و الإرث الثقافي , و حماية البيئة , و الصحة العامة و السلامة العامة .
نظام صديق المحكمة وسيلة ناقلة لهذه الاهتمامات الجوهرية للمجتمع الى القضاء من أجل أخذها بعين الاعتبار , فهذه الدعاوى صحيح إنها مقتصرة على أطرافها المتنازعة إلا أنها مملوكة للمجتمع , و يتحقق عبرها الانفتاح القضائي على المجتمع المدني و تعزيز أدواته و زيادة الشفافية التي تعطي مصداقية أكبر للعملية القضائية من خلال المشاركة الشعبية المنظمة في صنع العدالة , فهذه المشاركة تعد معياراً لدولة القانون ,و تعلق القاضي بالمجتمع ,لتحقيق القبول الشعبي للقرار القضائي. فالقاضي وفق النظام اللاتيني يعمل بصورة منفردة مما قد يكون قراره لا يأخذ بعين الاعتبار الارتدادات و الارتجاجات الاجتماعية التي يحدثها ذلك القرار و بسبب هذا الانفرادية القضائية في صنع العدالة و عدم شراكة المجتمع فإن المصالح العامة تكون صعبة التشخيص , فالمحكمة لا تدير تقنيناً قانونياً فقط و إنما تدير نظاماً اجتماعياً كاملاً , و طبقاً لذلك فالقاضي يحمل ولاءً مزدوجاً : فهو من جهة يدين بولائه للمجتمع , الذي يمنح القوة و الشرعية فكل قراراته يصدرها باسم الشعب . و من جهة أخرى يدين بولائه للقانون , و الذي يمنحه سلطة الولاية القضائية على الجميع, و القانون و المجتمع لا يسيران دائماً في انسجام , ذلك أن التوتر بين القانون و المجتمع قائم و الذي يعطي الضبط و الموازنة لهذه التفاعلية هو القاضي , فان استمع القاضي من القانون و من المجتمع عبر آلية "صديق المحكمة" فإنه يكون ضمن نشوء نظام اجتماعي يتمتع بالأمن المجتمعي و اليقين القانوني و يضمن وجود حراك دائب ذاتي الدفع في التبادلية بين المحكمة و المجتمع، باقامة نقطة اتصال بينهما , فالقاضي يجب عليه أن يكون ملماً بالمجتمع الذي يقضي فيه و يعرف مشاكله و مقتضيات تطوراته بنفس درجة إلمامه بالقوانين و العدالة , و هذا التوازن يكون عبر آلية "صديق المحكمة" .
أدركت فرنسا زعيمة النظام اللاتيني (civil Law) هذه الضرورات , فاتجهت عملياً باستخدام تقنية "صديق المحكمة" لتفتح نافذة قضائية على المجتمع على الرغم من أن هذا المبدأ لم يشكل نظاماً إجرائياً أصيلاً في القانون الفرنسي , إلا أن القاضي الفرنسي عمل بصديق المحكمة في أكثر من دعوى قضائية , فقد استمع الى صديق المحكمة في دعوى تأجير الارحام و بتوجيه الهيأة العامة لمحكمة النقض الفرنسية , و كذلك الحال في دعاوى التعويض لحامل فيروس نقص المناعة المكتسب الإيدز , و استمعت عام 1991 الى البروفيسور Bernard بشأن مسألة تعلقت بعلم الأحياء بخصوص المرأة الحامل, و استمعت الى مستشار في القانون المقارن بشأن إحدى القضايا المتعلقة بالقتل الطوعي للمولود و طلبت منه دراسة قانونية في الأنظمة القانونية المقارنة حول الأمر و بعد تقديم الدراسة دعته المحكمة الى إحدى جلسات المرافعة لمناقشة الدراسة , إلا أن التطور الأبرز هو إدخال المشرع الفرنسي "صديق المحكمة" كآلية اجرائية في قانون القضاء الإداري الفرنسي عام 2010 في المادة (625-6) و أجاز للمحكمة بنص صريح دعوة أي شخص يملك الخبرة و التخصص و المعرفة لتقديم الآراء و الملاحظات التي من شأنها تنوير القضاء. و أجازت المادة (621-20) من قانون النقد و المالية الفرنسي للمحكمة في القضايا المدنية و الجزائية دعوة رئيس هيئة الأسواق المالية كصديق للمحكمة .
إن ادخال "صديق المحكمة" في النظام القضائي العراقي الذي استلهم فلسفته من النظام اللاتيني ذات قيمة أخلاقية معتبرة لتنوير المحكمة في الكثير من القضايا الواقعية و القانونية و خاصة في دعاوى التي تهم المصالح العامة و التي تشغل الرأي العام و تعزز قيم الديمقراطية في النظام القضائي و تمنح حق الاطلاع و المعرفة على حقيقة الإجراءات القضائية التي هي مجهولة للمجتمع المدني مما يكرس الانفتاح القضائي على المجتمع و الانفتاح المجتمعي على القضاء و إزاحة التجافي بينهما , و كل ذلك ينصب لصالح تقوية ركائز دولة القانون , و خاصة في الدعاوى القضائية التي لها أبعاد اجتماعية و اقتصادية و سياسية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمصالح العامة للمجتمع و قضاياه الأساسية فمثل هذه الدعاوى لا تقتصر على المتخاصمين أطراف الدعوى و إنما ملك المجتمع , فيكون القرار القضائي الصادر في مثل هذه الدعاوى له صدى اجتماعي , و ارتدادات في الشأن العام كدعاوى مكافحة الفساد , و دعاوى حرية الرأي و التعبير , الدعاوى المقامة أمام المحكمة الاتحادية العليا بشأن تفسير الدستور و القوانين و دستوريتها , و الانتخابات , فيجب تمكين المجتمع من المشاركة في صنع القرار القضائي .
اترك تعليقك