المعرفة التأويلية قبل انبثاقها عربياً

المعرفة التأويلية قبل انبثاقها عربياً

د. رسول محمد رسول

رغم أن مفردة "هرمينوطيقا" بدت شتاتاً للفيلسوف اليوناني أرسطوطاليس (384 – 322 ق. م) حتى وظَّفها في موسوعته جزيلة الأهمية من الناحية الريادية (المنطق)،

لا سيما "كتاب العبارة" فيها تحت مُسمى (Peri - hermencias)، فإنني أجد ذهني مشغولاً بإنجازات القرن الأول الهجري؛ ذلك القرن الذي لم يعرف بعد أيّة نظرية تأويليّة جاهزة مفكَّر فيها بحيث تختص بعِلم أو فن التأويل على الصعيد المعرفي (الفينومينولوجي) رغم شيوع المذاهنات التأويليّة في عصر الرسول محمَّد (ص) أو العصر الذي أتى بعده في مرحلة الخلفاء الراشدين وما بعدها، ما يجعلني أقرُّ بأن القرن الأول الهجري انتهى ولم يظهر فيه ما نسميه اليوم نظرية فن الـتأويل ولا نظرية فن التفسير من ناحية البناء المعرفي؛ بل ظهرت ملامح من ذلك لكنها موزّعة في مكوّنات تجارب وخبرات وحنكات المُذاهنات التأويليّة نفسها التي وصلت إلينا بجهد جهيد رغم اختفاء الكثير من متونها الشفاهية أو المدوَّنة في طيّات الزمن والنسيان، خصوصاً أن المعرفة الفلسفية اليونانية لم تظهر بعدُ في عقود القرن الأول الهجري، ولا حتى التجارب التأويليّة التي رافقت التوراة أو الإنجيل كما ستتبدّى في القرون الهجرية التالية على ذلك القرن.

تأويل النصوص الجماليّة

وهذا لا يعني أن تلك المعارف الفلسفية والمنطقية، وفيما لو ظهرت في جزيرة العرب أو في منطقة الحيرة المتاخمة لمدينة الكوفة بالعراق تلك التي شاع التفكير العقلي فيها لكان الأمر سيختلف بحيث يؤثر في إنشاء بناء معرفي يؤسِّس لفن التأويل والتفسير على نحو نظري مفكَّر فيه من دون أن نتغافل عن حقيقة تأريخية أساسية هي أن فن التأويل لا يعود فقط إلى أرسطوطاليس في مباحثه المنطقية واللغوية؛ بل يمتد تأريخياً إلى ما قبله، أي إلى أفلاطون (427 – 347 ق. م)، خصوصاً في نصه الحواري (أيون) = (Ion)، الذي يُعتقد أنه كتبه في سنة 380 قبل الميلاد عندما وضع التأويل بإزاء نصوص جمالية إبداعية (شعرية)، قال أفلاطون وفقاً لترجمة الدكتور عادل مصطفى: "إن فهم هوميروس ليس مُجرّد حفظ كلماته عن ظهر قلب، ولن يتسنّى لإنسان أن يكون راوية قصائد ملحميّة ما لم يفهم المعنى الذي يرمي إليه الشاعر؛ لأن الراوية (الشخص) ينبغي عليه أن يؤوِّل عقل الشاعر لمستمعيه، وما كان له أن يؤوِّله حق تأويله ما لم يعرف ما يعنيه".

لقد جاء هذا النص على لسان سقراط (468 – 399 ق. م) الذي شارك أيون في الحوار، هذا الحوار الذي أصَّل فيه أفلاطون - تأريخياً - مسألة تأويل النصوص الجمالية، ويبدو لي أن أفلاطون كان قد سمع عن حكايات الأنبياء في التوراة قبل تحريف متنه، لا سيما حكاية النبي موسى، عليه السلام، لكنه يقرُّ، وعلى لسان أيون، صعوبة فن التأويل المخصَّص لتفسير النصوص الأخرى. ولذلك يبدو لي أن معالجة أفلاطون تعدُّ من التجارب القديمة، ربما الأقدم، في ما يخص التجربة القرائية – التأويليّة، تلك التي تقابل نصاً لتأوله.

مفاهيم عديدة

وهذا يعني، أن أفلاطون - وبحسب هذه المحاورة - وضع مفاهيم عديدة في عملية التأويل مثل: النص وهو القابل للتأويل، والقارئ وهو المؤوِّل، والمتلقي أو المستمع، وكذلك الحق بالتأويل،. لكنّني أرى أن (محاورة أيون) لم تأخذ طريقها إلى العرب في القرن الأول الهجري برمته؛ فلا توجد أيّة إشارة لها حتى الآن ولا لغيرها ما يتعلَّق بالتأويل كفن من فنون الفهم الإنسي بإزاء النص من أي تجنيس لاهوتي أو ناسوتي كان؛ فهذه المحاورة لم تكن موجودة في القرن الأول الهجري، بل حتى في القرن الثاني، علينا أن ننتظر القرن الثالث الهجري، ونستطلع ما كتبه الفيلسوف الفارابي (260 – 330 هجرية) تحت عنوان (فلسفة أفلاطون ومراتب أجزاءها من أول إلى آخرها لأبي نصر الفارابي) الذي نشره الدكتور عبد الرحمن بدوي عن "مخطوط أيا صوفيا"؛ وذلك في كتابه (أفلاطون في الإسلام)، والذي ذكر فيه أن للفارابي كتاباً أو محاورة من محاورات أفلاطون تحت عنوان (أين) وهي محاورة (أيون) = (Ion)، لكن الدكتور بدوي لم ينوّه إلى هذا الاسم، أما نحن فنستنتج ذلك من نص الفارابي ذاته الذي شرح فيه مضمون المحاورة أو الكتاب، وأتمنى أن يكون استنتاجي هذا سليماً من الناحية المعرفية التأريخية.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top