الأدب أداة ترتقي بالدماغ البشري .. حوارٌ مع البروفسور أنغوس فليتشر - القسم الثاني

الأدب أداة ترتقي بالدماغ البشري .. حوارٌ مع البروفسور أنغوس فليتشر - القسم الثاني

أجرى الحوار : كيفن بيرغر

ترجمة وتقديم لطفية الدليمي

القسم الثاني

نعيشُ في عصرٍ باتت فيه الحقول المعرفية المتخصّصة أقرب إلى حفريات تنتمي لماضٍ مندثر ؛

وقد ترسّخت هذه الخصيصة المميزة لعصرنا بعد تعاظم أهمية دراسة الظواهر الطبيعية وغير الطبيعية في صيغة نسقية شاملة، ولم يكن الأدب (الذي يمثل السرد هيكله الجوهري) بعيداً عن هذه المقاربة المعرفية ؛ فقد طاله تغييرات بنيوية كبيرة في الجوانب التالية على الأقلّ : ماهي طبيعة الفعالية السردية التي يتشارك بها كلّ الكائنات البشرية ؟ كيف تعمل اللغة كوسيط سردي في تمرير الخبرات البشرية بين البشر ؟ وماالعلاقة بين التخييل البشري والإبداع الادبي ؟ قد تبدو هذه الأسئلة مثل كثير سواها من الأسئلة التقليدية ؛ لكنّ الأمر سيختلف إذا مادرسنا هذه الأسئلة في سياق نسقي يجمع بين الإجابات المتوقّعة بعد إخضاعها للكشوفات غير المسبوقة في علم النفس الإدراكي COGNITIVE PSYCHOLOGY وعلوم البيولوجيا العصبية الدماغية BRAIN NEUROSCIENCE وكثير من الجبهات العلمية المتقدّمة.

يقدّم الحوار التالي مقاربة غير مسبوقة نحو الأدب، يقدّمُ فيها البروفسور أنغوس فليتشر Angus Flitcher رؤية جديدة فيما يخصُّ الفعالية السردية وقيمتها المؤثرة في إعادة صياغة العقل البشري بما يجعله قادراً على الارتقاء في تناول الموضوعات العلمية في سياق عملية تخادمية يغتذى فيها الأدب من الكشوفات العلمية ويعيد ضخّ المؤثرات المستجدّة في الفعالية السردية بما الارتقاء بالعلم في نمطٍ من التغذية الاسترجاعية الايجابية، يتضمّن الحوار كذلك مجموعة ثورية من الأفكار بشأن القيمة البراغماتية للأدب (بالمعنى المفيد لمفردة البراغماتية)، كما يصفُ فليتشر الفعالية السردية بأنها نمطٌ من الميكانيزم العقلي الناشئ عن عملية تطور بيولوجي.

أقدّمُ أدناه ترجمة للقسم الثاني من حوار حديث أجراه كيفن بيرغر Kevin Berger، المحرّر في مجلّة ناوتيلوس Nautilus مع البروفسور فليتشر. ظهر الحوار في عدد المجلة المرقّم 97 والمنشور يوم 24 شباط (فبراير) 2021 تحت عنوان (الأدب يجب أن يُدرّس مثل العلم Literature Should Be Taught Like Science).

المترجمة

 لماذا ترى الأدب شكلاً من التقنية ؟

- التقنية - في أصل تعريفها - هي كل شيء إصطنعه البشر بقصد حلّ معضلة ما (في العالم المادي، المترجمة)، ومعظمُ تقنيتنا الحاضرة توجد بقصد تعظيم سطوتنا على عالمنا المادي وزيادة المساحات المناسبة للعيش البشري فيه. هذا هو السبب الكامن وراء امتلاكنا للهواتف الذكية والمنازل الذكية والأقمار الاصطناعية، يختصُّ الأدب بتناول الجانب الآخر من المعضلات البشرية ؛ فهو لايهتمُّ بكيفية تعظيم سطوتنا على العالم المادي غير البشري بل بكيفية زيادة سطوتنا على أنفسنا نحن، ومن أجل هذا المسعى يتصارعُ الأدبُ مع المعضلات النفسية التي تعتمل داخلنا ولاتنفكُّ تشكّلُ توجهاتنا وأفعالنا في هذا العالم المادي، الحزن، الكرب الشديد، فقدان المعنى، الوحدة،،،،، : هذه بعض المعضلات التي أكتُشِف الأدبُ لكي يتعامل معها بكيفية مناسبة، ونحنُ إذا ماأردنا العيش في مجتمعاتٍ سعيدة وديمقراطية لديها كثرةٌ من المهندسين والعلماء المؤثرين فنحنُ في حاجة لأناسٍ مبتهجين بدلاً من أناسٍ ممتلئين غضباً وجزعاً، ولهم حسٌّ عميق بالتعاطف والغرض فضلاً عن مقدرة فائقة في المقاربات المنطقية وحلّ المعضلات. نحنُ نستطيعُ بلوغ هذه الأهداف عبر الأدب.

 عندما تقولُ إنّ الأدب شكلٌ من أشكال التقنية فإنّ هذا الأمر يبدو كأنّك تقولُ إنّ الأدب هو آلة ؟

- نعم، أنا أؤكّدُ قولي بأنّ الأدب آلة ! هو آلة مصمّمةٌ للعمل في تناغم مع آلة أخرى : عقلنا البشري، إنّ الغرض من هاتين الآلتين هو أنّ تعظّم كلّ آلة كفاءة الآلة الأخرى، الأدبُ طريقة لتعزيز الخيال البشري وتعجيل الارتقاء به نحو مستويات غير مسبوقة، وفي المقابل فإنّ الخيال البشري يعزّزُ الأدب ويرتقي به، إنّ هذه التقنية العظيمة (في الارتقاء التفاعلي المتبادل بين الأدب والعقل البشري) لم تزل حبيسة الكتب المنسية في رفوف مكتباتنا وليس ثمّة منّا من يوظّفها بطريقة فاعلة، ولهذا السبب ترى أنّ الطلبة الجامعيين يهجرون أقسام الأدب نحو أقسام العلوم والهندسة.

 مقاربتكَ هذه تجعل فعل الخيال يبدو فعالية ميكانيكية، ألاترى هذا معي ؟

- السرد في أحد جوانبه فعلٌ ميكانيكي ؛ فهو لايتطلّبُ خيالاً، مثلما لايتطلّبُ إرادة حرّة، دعني أوضّح الأمر : يمكنُ لبشرٍ أن يكونوا مفتقدين للخيال والإرادة الحرّة ؛ ومع هذا في مستطاعهم كتابة الروايات والشعر لأنّ العنصر الهيكلي الأساسي في هاتين الفاعليتين البشريتين هو السرد، الآن لنتفكّر في هذه الأمر : إنّ السبب الذي يدفعُ البشر أحياناً للنظر إلى السرد بأنه فعلٌ إبداعي أو خيالي هو أنّ السرد قد لايكون فعالية منطقية (أي أنّ الابداع التخييلي يصبح مرادفاً للوقائع غير المنطقية التي لانجد نظيراً لها في العالم المادي، المترجمة)، يوجد الأدب الموصوف بالإبداع الخلّاق في العوالم الافتراضية، المخالفة للوقائع الحقيقية المشهودة، والحدسية غالباً. أنت لاتستطيعُ أبداً كتابة رواية صادقة أو كاذبة ؛ بل كلُّ ماتستطيع كتابته رواية تخييلية وحسب، وهذا هو السبب الذي قد يجعلنا نفكّرُ في أنّ الرواية عمل تخييلي خالص. قد نذهبُ بالكيفية ذاتها إلى خلع صفة التخييلي (بمعنى شيء صنعه الخيال) على أي شيء يخلقه مهندسٌ ؛ لكنّ مانقوله حقاً عند وصف روايةٍ ما بالتخييلية هو أنها تقع خارج نطاق الحيّز المنطقي. الرواية في العادة تنتمي لفضاء آلة مختلفة – ذاك هو الفضاء الآلي للسرد.

 في العشرين سنة الأخيرة تناقصت أعداد المقبولين في أقسام اللغة الانكليزية بمقدار 25 بالمائة ؛ في حين أنّ أعداد المقبولين في أقسام STEM (مختصرُ يشيرُ إلى مجالات العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات) تضاعفت. لِمَ صار الأمر هكذا برأيك ؟

- أستطيعُ أن أخبرك بالسبب الحقيقي الكامن وراء هذه الحقيقة، الأدب الانكليزي لايُدَرّسُ بطريقة لها كبير ارتباط مباشر مع الناس : تعلّمنا في المدارس أن نفسّر الأدب، وأن نقول ماذا يعني، وأن نحدّد موضوعاته وشواهده الحجاجية ؛ لكننا عندما نفعل هذه الأمور فإننا نعمل بالضد من وظيفة الأدب، أنا أقولُ أننا في مسيس الحاجة لتقنيات ومكتشفات بمستطاعها ربط موضوعات الأدب برؤوسنا عبر تمكيننا من معرفة ماالذي يفعله الأدب بعقولنا، الأدب ليس شيئاً يختصُّ بإخبارك ماالصواب أو الخطأ بل هو شيء يرمي لمساعدتك في إكتشاف مكامن الخطأ في عقلك ومن ثمّ الحصول على رؤى جديدة غير مسبوقة لك بشأن العالم الذي تعيش فيه.

 تضمُّ عناوين كتابك الموسوم " أعمال مدهشة " اسماءً تبعث على الدعابة والفَكَاهة فيما يخصُّ ماأسميتَهُ مكتشفات الأدب، ثمة بين هذه العناوين : القلب كلّي المقدرة، مصعد الصفاء الروحي، مُفكّك الحزن، العالِم الافتراضي، كيف إكتشف الأدب العالِم الافتراضي ؟

- العالِمُ الافتراضي ليس له ذات مشخّصة، تولدُ عقولنا وهي بمثابة علماء حقيقيين، ومنذ اللحظة الاولى التي نولَدُ فيها فإننا نضع افتراضات مسبقة بشأن ماالذي سيحصلُ عندما نقوم بفعلٍ معيّن، ثم نقوم بوضع هذه الاختبارات موضع الاختبار الحقيقي في العالم المادي، قد يقول أحدنا مثلاً " لو وضعتُ إصبعي في النار فقد تحترق "، ومن ثمّ يضعُ إصبعه فعلاً في النار، وحينها يقول " نعم، هذا الفعل يحرقُ إصبعي "، نحنً نفعل مثل هذه الأفعال (التجارب) بصورة مستديمة في حياتنا، ومن ثمّ ننشئ القصص والمسرودات الحكائية كطريقة لتنظيم هذه التجارب ؛ لكنّ مايصدّنا عن الاستمرار في هذه اللعبة السردية هو " العالِم الافتراضي " المخبوء في عقولنا والذي لايريدُ لنا أن نفكّر في أننا قد نكون على خطأ، تفكّرْ في هذه الحقيقة : أعطِ شخصاً ما قائمة بيانات حقيقية تتخالفُ بصورة بيّنة مع مايظنّه صواباً ولاحظ كيف سيعمدُ على الفور إلى نكران صحّة بياناتك، وفي أحسن الأحوال سيلجأ إلى ليّ عنق بياناتك بما يجعلها تتوافق مع افتراضاته الأساسية، هذه حقيقة أشبه بعلّة نفسية - أقرب إلى مرض متوطّن - تصيبُ إحدى فعاليات العقل البشري.

السؤال المُسَوّغُ أكثر من سواه، إذن، هو : " كيف السبيلُ لنصبح علماء أفضل ؟ "، والجواب هو : بأن نزيح ذاتنا الأنوية جانباً، الأدبُ هو مايوفّرُ لنا هذا الفضاء الذي بمستطاعه إزاحة (الأنا) جانباً، ماذا يفعلُ شرلوك هولمز ؟ قدّم لنا شرلوك هولمز معضلةً نحنُ في حاجة لحلّها على أساس تجريبي عبر وضع افتراضات مناسبة ومن ثمّ اختبارها ؛ لكننا في واقع الحال لسنا شرلوك هولمز، ولن يكون أمراً يصيبنا بالحرج إذا ماثبت بأننا أخطأنا في افتراضاتنا، إنّ روايات شرلوك هولمز وأطناناً مثيلاتها من روايات التحري البوليسي العظيمة إنما تسمحُ لنا أن نلعب دور " العلماء الافتراضيين " عبر الولوج في فضاءاتٍ لاتوجد فيها ذواتنا " الأنوية "، وحيث يكون متاحاً لنا ممارسة المنهجية العلمية القائمة على أساس وضع الافتراضات ومن ثمّ اختبارها تجريبياً في العالم المادي.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top