اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > مقاربات بين احتلالين

مقاربات بين احتلالين

نشر في: 5 مايو, 2021: 10:06 م

 د. جاسم الصفار

في 30 نيسان الماضي بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها بسحب قواتهم من أفغانستان التي احتلتها بعد هجمات 11 سبتمبر 2001. وفي التاسع من نيسان مرت الذكرى السنوية لسقوط نظام الدكتاتور صدام حسين عام 2003، الذي أرخ لبداية غزو العراق، فما هي المقاربات بين الأحداث في أفغانستان والعراق والتي بدأت مع بداية هذا القرن، ما هي أسبابها وما الذي يتوقع حصوله بعد مغادرة آخر طائرة تحمل ما تبقى من جنود التحالف من البلدين.

قبل أقل من عشرين عاماً بقليل، بعد أسابيع قليلة من هجمات 11 سبتمبر 2001، دخل تحالف بقيادة الولايات المتحدة أفغانستان في محاولة لسحق طالبان وتدمير البنية التحتية المزعومة لمنظمة القاعدة الإرهابية الدولية. علماً بأن إرهابيي القاعدة الذين خططوا وشاركوا في هجمات 11 سبتمبر، لم يكن بينهم أفغاني واحد، كما أن الحجة التي تذرعت بها الإدارة الاميركية بوجود قواعد للمنظمة الإرهابية في أفغانستان وعدم تسليم بن لادن وأعوانه الى أميركا، هي حجة واهية ومبتدعة. وإلا فلماذا لم تتعرض الباكستان للاحتلال العسكري أو حتى للعقوبات بسبب اختباء بن لادن ومساعديه في أراضيها فيما بعد.

على أي حال، بعد أحد عشر عاماً، أي في عام 2012، في أبوت آباد، خلال عملية خاصة قامت بها قوات كوماندز أميركية، قُتل مؤسس القاعدة، أسامة بن لادن، بالرصاص ورميت جثته في البحر، حسب الرواية الاميركية. وبعد تسع سنوات من ذلك التاريخ، أي في 30 نيسان الماضي، بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها بسحب قواتهم من أفغانستان.

الحقائق على الأرض تشير الى أن حركة طالبان تمكنت، بصورة كاملة أو جزئية، من السيطرة على ما يصل إلى 70 في المائة من البلاد على مدى السنوات الماضية التي مرت على الاحتلال الأميركي لأفغانستان، وشكلت في العديد من المقاطعات هياكل إدارية موازية لتلك التي أقامتها الحكومة المركزية. يضاف الى ذلك، تفاقم حالة الإحباط والتشتت التي ظلت تعاني منه حكومة كابول رغم الدعم الأميركي السخي لها.

تحت ضغط هذه الوقائع أعلنت الولايات المتحدة على لسان رئيسها السابق دونالد ترامب عن خروج وشيك من أفغانستان التي وصفها «بمقبرة الإمبراطوريات»، مضيفاً، أن بقاء القوات الاميركية هناك أصبح «لا معنى له»، و»يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة، لذا حان الوقت لإنهائه»، ثم أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن، في خطابه بتاريخ 14 نيسان 2021، بصورة لا لبس فيها أن «ليس لدينا ما نفعله في أفغانستان لفترة طويلة، وليس من الواضح سبب وجودنا هناك على الإطلاق طوال السنوات الثماني الماضية، لتكن شؤون هذه الدولة من اهتمام الروس والصينيين والهنود والأتراك». بناءَ على ذلك، يعترف بايدن، ولو بصورة غير مباشرة، بيأس الولايات المتحدة من تحقيق الأهداف الاستراتيجية التي من أجلها جاءت الى أفغانستان، أما أهداف الحملة المعلنة، أو التي تذرعت بها، فلم يتحقق منها شيء، طالبان باقية، أما القاعدة، فقد ولدت من رحمها حركات لا تقل عنها توحشاً ودموية.

اليوم لدى طالبان نحو 80 ألف عنصر مدرب على القتال في ظروف قاسية، مع مخزون كاف من السلاح. وإلى جانب ذلك، تتمتع طالبان بدعم نشط للغاية من السكان البشتون المحليين، لذا يفترض العديد من المحللين، أنه بمجرد مغادرة آخر جندي من قوات التحالف الأراضي الافغانية، سيوقف قادة طالبان أي مفاوضات مع كابول ويبدؤون هجوماً واسع النطاق على الهياكل الحكومية، لا تصمد أمامه طويلاً، حسب التوقعات، حكومة كابول. وللتذكير فقط، بعد انسحاب القوات السوفيتية من أفغانستان، صمد نظام الرئيس الافغاني نجيب الله لمدة ثلاث سنوات دون أي مساعدة كبيرة من الحكومة الروسية.

وتجدر الإشارة الى أنه، قبل عامين، عندما بدأت إدارة الرئيس الامريكي السابق دونالد ترامب محادثات سلام مع طالبان في الدوحة (دون مشاركة حكومة كابول)، كان واضحاً حينها أن طالبان يعتبر نفسه الممثل الوحيد للشعب الافغاني، وأن أميركا تدرك هذا الواقع، خاصة بعد فشل المفاوضات بين طالبان وكابول، التي بدأت بعد توقيع اتفاق سلام بين طالبان والولايات المتحدة في شباط من العام الماضي، في الوصول الى أي نتيجة.

في مقاربة منطقية لابد منها أعود الى ما بعد غزو أفغانستان في 11 سبتمبر 2001، فمخطط بسط هيمنة القطب المنتصر في الحرب الباردة، على آسيا كان يفترض كذلك دولة أخرى في الشرق الأوسط لا تقل أهمية عن أفغانستان في كونها حلقة وصل إستراتيجية حيوية لتحقيق طموحات الدول الإقليمية، وهي العراق. لذا فبمجرد استتباب الوضع للقوات الاميركية في أفغانستان، وضع جورج دبليو بوش نصب عينيه غزو بلاد الرافدين وإعادتها الى فلك السياسة الغربية. في وقت مبكر من عام 2002، صرح الرئيس الأمريكي مراراً وتكراراً أن واشنطن تسعى لتغيير النظام في العراق باستخدام جميع الوسائل المتاحة لها. في الوقت نفسه اتهم البيت الأبيض العراق بامتلاك أسلحة الدمار الشامل التي تشكل تهديداً للدول المجاورة والأمن العالمي.

في الخامس من شباط (فبراير) 2003، تحدث وزير الخارجية الأميركي كولن باول في اجتماع خاص لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وقدم أدلة مفبركة «تثبت» أن العراق يخفي أسلحة دمار شامل عن المفتشين الدوليين. ثم عاد ليعترف، بعد الغزو، بأنه استخدم، في خطابه المذكور، معلومات غير دقيقة لم يتم التحقق منها.

في 17 آذار 2003، ألقى الرئيس بوش خطابًا إلى الأمة الاميركية أعلن فيه أنه بمجرد فشل مجلس الأمن الدولي في تحمل مسؤولياته، فإن الولايات المتحدة ستتصرف بمبادرة منها. بعد ذلك بيومين، بدأت الحرب لغزو العراق دون قرار من الأمم المتحدة، وكانت النتيجة انهيار سريع لنظام الدكتاتور صدام حسين في 9 نيسان من نفس العام وتم أسره ثم إعدامه.

لم تفت الرئيس بوش الإشارة الى العلاقة الوثيقة بين الاحتلالين في السياسة الأميركية، حين قال في خطاب ألقاه بمناسبة يوم المحاربين القدامى عام 2003 «مهمتنا في العراق وأفغانستان واضحة لأفراد جيشنا وواضحة لأعدائنا... يكافح رجالنا ونساؤنا للمساعدة في بناء الديمقراطية والسلام والعدالة في منطقة مضطربة وعنيفة.»

بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، أصبح العالم بمجمله، بشرقه وغربه وشماله وجنوبه، مفتوحاً أمام طموحات الولايات المتحدة لبسط نفوذها وتوسيع مجال تأثيرها. ولم تكن بحاجة سوى لاختلاق أسباب تبرر حملاتها العسكرية لتنفيذ مآربها. ولم يقع اختيارها على أفغانستان وبعدها العراق عبثا، فكلاهما يحتل مواقع جيوسياسية لا غنى عنها لتوسيع وحماية المجال الحيوي لمصالح دول إقليمية طموحة كروسيا والصين والهند وإيران وتركيا.

بشكل عام، كان تاريخ العلاقات الدولية في القرن العشرين هو تاريخ العلاقات بين القوى العظمى. إلا أن العالم الجديد الناشئ منذ العقد الثاني من القرن الحالي، بخلاف ذلك، أبرز دور القوى الإقليمية الطموحة. اليوم نلاحظ، في بعض قضايا السياسة الأفغانية والعراقية، دوراً لإيران وتركيا وباكستان والهند ليست أقل شأنا من الدور الأميركي. ومن المتوقع أن التأثير الأميركي، سوف يتضاءل بعد انسحاب قوات التحالف من أفغانستان. وستبدأ دول المنطقة في ملء الفراغ.

بعد احتلال أفغانستان والعراق، عاش كلاهما مرحلة حرب أهلية ساهمت فيها دول الجوار، جعلت الجغرافيا والأنثروبولوجيا والطوبوغرافيا وأخيراً الموقع الجغرافي السياسي مصادر أرق وتهديد لحياة الأفغان والعراقيين على حد سواء.

من وجهة نظر نظام العلاقات الدولية، فإن احتلال أفغانستان والعراق منح الكثير لأميركا، لكنه أيضاً أخذ منها الكثير. فقد أصبحت الولايات المتحدة القوة المهيمنة المطلقة في الشرقين الأدنى والأوسط. وأعادت الإدارة الاميركية في الواقع ترتيب نظام العلاقات الدولية والإقليمية برمته. حيث أصبحت حكومات جميع دول المنطقة تقريباً (مع بعض الاستثناءات) مُطِيعة لأميركا، استخدمتهم صاغرين لتنفيذ مشاريعها الإقليمية كمشروع الشرق الأوسط الجديد وصفقة القرن، ومن جهة أخرى، فإن الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق لم يحقق كل أغراضه، للأسباب التالية:

أولاً، نمو الاستياء الشعبي في أميركا. التطور الحاصل في تكنولوجيا المعلومات في القرن الحادي والعشرين، لم يعد يسمح بشن حروب طويلة الأمد، لا علاقة لها بالمصالح الآنية للمواطن الأميركي، تظهر استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة «ريو ريسيرج» أن نسبة الأميركيين الذين يعتقدون أن على البلاد أن “تباشر الاهتمام بشؤونها الخاصة» لم تكن أعلى من أي وقت مضى منذ نهاية حرب فيتنام. بالطبع، في رأي شريحة واسعة من الاميركيين، أن أفغانستان والعراق ليسا من الشؤون الأميركية الخاصة.

ثانياً، تنظر مجموعات النخبة، على اختلافها، إلى دور أميركا ومكانتها في العالم بشكل مختلف. لطالما كان للتواجد العسكري الأميركي خارج البلاد خصوم جادون داخل مؤسسات الدولة في أميركا. لذا، مع وصول ترامب، القريب من النخب المالية، الى رأس هرم السلطة في أميركا، انخفض عدد الجنود الأميركيين في الشرق الأوسط بنسبة 30٪. تم تخفيض القوة العسكرية في العراق بنسبة 13٪، في تركيا (22٪)، الأردن (96٪)، مصر (45٪)، الكويت (83٪)، قطر (84٪)، الإمارات العربية المتحدة (82٪). تستمر هذه العملية ببطء ولكن باطراد. أما في آسيا الوسطى فقد قرر ترامب سحب قوات الولايات المتحدة من أفغانستان بصورة كاملة.

ثالثاً، عندما دخلت أميركا أفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر أيدت معظم دول العالم هذا القرار. ولكن مع مرور الزمن وتراكم الأخطاء وتبعات الحرب المأساوية تراجع أغلب دول العالم عن تأييدها لاستمرار الحرب في أفغانستان. بالمناسبة، موسكو كانت الأولى من بين المؤيدين للحملة على أفغانستان. وكان فلاديمير بوتين أول من اتصل بجورج دبليو بوش وأعرب عن دعمه الكامل، بعد عشرين عامًا، أصبحت روسيا وجميع دول المحيط تعارض الحملة الأميركية.

رابعاً، على مدى العقدين الماضيين، شهدت بلدان المنطقة تحولات كبيرة، تجاوزت فيها صعوباتها الاقتصادية وتحولت إلى قوى إقليمية فاعلة وطموحة، ساعية لبناء توازن جديد للمصالح، ومجالات النفوذ، ونظام العلاقات الدولية والإقليمية. وبالتالي لا يمكن للولايات المتحدة مهما بلغ شأنها أن تكبح إرادة تلك الدول بمرسوم أو عقوبات، من تلك الدول الهند وإيران وتركيا والمملكة العربية السعودية، إضافة الى باكستان وأوزبكستان وكازاخستان وقطر، أما بالنسبة لروسيا والصين، فانهما ينتهجان سياستيهما دون التفكير بتنسيقها مع أميركا في الشأن الأفغاني أو العراقي.

لكل تلك الأسباب، أصبح من غير الممكن على الولايات المتحدة أن تنفرد بالتحكم بمصير دول الشرق الأوسط أو وسط آسيا، كما أن خروج أميركا من أفغانستان والعراق وسوريا، كما هو متوقع، سيؤدي لصياغة جديدة لنظام العلاقات الدولية في آسيا برمتها، ولأول مرة في التاريخ، سيكون للقوى العظمى تأثير أقل من الجهات الفاعلة الإقليمية الجديدة في صياغة علاقاتها بدول الأقليم، بالطبع، هذه عملية قد تطول وقد تقصر، ولكنها لابد أن تتحقق سواء كان الديمقراطيون أو الجمهوريون على رأس السلطة في الولايات المتحدة الأميركية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملاحق المدى

مقالات ذات صلة

كيف يتصوَّر العقل الشيعي (الشعبي) الوجود؟

غالب حسن الشابندر الكون كما نفهمه ظاهراً هو هذا العالَم الذي يحيط بنا، شمس وأرض وبحر وجبال وصحراء وحيوانات ونباتات… كائنات ومخلوقات وظواهر شتى، هذا هو البادي للعيان، وفيما رجعنا إلى القرآن الكريم نجد أكثر من مستوى نظري للكون، فهو قد يكون هذه الاشياء الظاهرة والخفية، أو هو العلاقات التي تربط بين هذه الاشياء، أو […]
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram