فوزي عبد الرحيم
في أحداث مرت بها البشريه في أزمان وأماكن مختلفة كانت الأجواء فيها ملبدة والظروف مهيئه لتغيير منتظر ومفترض لكن الامر احتاج لحدث واحيانا لاكثر ليحدث فيقع ذلك التغيير بل ويتجاوزه أحيانا..
قراءة التاريخ تبين أن هناك أساس علمي يمكن إتباعه في تفسير احداثه وفي إستقراء المستقبل لكن بخلاف كل المجالات العلمية التي يلعب الرقم فيها دورا كبيرا وتبدو الحقائق واضحة ومحدده فإن الأحداث السياسية والاجتماعية ليست بذلك الوضوح ومن الصعب إقتفاءها وتوقعها ليس فقط بسبب طبيعتها واختلافها عن المجالات العلمية الصرفة وإنما أيضا بسبب عوامل أخرى منها أن كل الأحداث تتضمن عناصر غير ظاهرة أو يصعب ادراكها واكتشافها تؤثر ولا تؤخذ بالحسبان،وهنا يلعب الانسان دوره المختلف عن الحقول الحياتية الأخرى في صناعة تلك الاحداث وتوجيهها...
في تاريخنا العراقي السياسي غير البعيد هناك تجربة مهمة وذات دلاله عميقه حين سدد البعثيون رصاصاتهم نحو الزعيم عبد الكريم قاسم وهو يمضي في سيارته الرسمية شبه أعزل إلا من مرافق شخصي يجلس قرب السائق، إذ توقع الكثيرون أن قاسم سيشن حملة قوية واسعة لإستئصال البعثيين الذين أثبت الحدث أنهم الخطر الداهم على حكمه كما كان يرى الشيوعيون، في نفس الوقت أثبت الحدث أن الشيوعيين الذين كانوا يعانون من أوقات صعبة في علاقتهم به بعد ان أدار لهم ظهر المجن منذ تموز ١٩٥٩ أي قبل شهور قليلة من محاولة إغتياله في السابع من تشرين الاول ١٩٥٩أنهم أصحاب المصلحة في بقاء جمهوريته لكن الأحداث اتجهت بمنحى لم يتوقعه إلا قلة من قراء التاريخ والاحداث فبدلا من حملةعلى حزب البعث والقوميين جرت حملات لمطاردة الشيوعيين بل وإستئصالهم!! بالطبع جرت حملة بعد محاولة الاغتيال مباشرة لإكتشاف الشبكه التي خططت ونفذت الإغتيال لكن الأمر الذي كان متوقعا له أن يستمر ليشمل التنظيمات السياسية التي ينتمي لها أعضاء الشبكة توقف عند حد معين ليبدأ بعد فتره تحول دراماتيكي أعاد فيه قاسم بعض الضباط البعثيين والقوميين إلى مواقع مهمه في الجيش بموازاة حمله شرسة إستئصلت الوجود الشيوعي بشكل خاص في الجيش بحيث لم يعد هناك شيوعي معروف يقود وحدة عسكرية فعالة بل وحتى عنصرا فيها،والذي يقرأ كتاب الدكتور عبد الفتاح بوتاني عن أرشيف دائرة الأمن العامة في عهد الزعيم قاسم يكتشف كيف أن هذه الحملة مخططة ومنظمة وقامت بها أجهزة الحكم وبشكل خاص الأمن تحت إشراف الزعيم قاسم ذاته وإنها كانت تستهدف الشيوعيين فكرا وتنظيما.
لقد كتبت عن ذلك سابقا واترك إستنتاج أسباب موقف قاسم هذا ومعرفته من سياق المنشور لكن من المهم هنا التاكيد أن هذه الحادثة لم تكن فريده في تاريخ بلدنا وشعبنا السياسي بل وفي العالم فالمسلمات وإفتراض نتائج محددة تترتب على أحداث معينة لأن ثوابت معينة تحكمها أمر خاطيء ويحتاج مراجعة ونظرة أعمق..
لست من أولئك القراء الدقيقين للتاريخ والاحداث فانا في النهاية محكوم بالوعي العام لمجتمعي لكني مع ذلك كنت واثقا كآخرين أن تسوية في نهاية المطاف ستنهي ملف قاسم مصلح لكن الاهم وهو مازال في ذمة المستقبل أن حادثة إغتيال إيهاب الوزني سوف تكون علامة هامة في الصراع السياسي الدائر بين قوى الاسلام السياسي الحاكمة ومسلحيها من جهة وبين أجيال العراقيين الجديدة من جهه أخرى والذين كان جزء مهم منهم في الأصل جمهورا للإسلاميين الحاكمين بأحزابهم وكياناتهم المختلفة،وهنا أنا لا أستند في هذا إلى شحنة عاطفية أو رغبة بالتغيير أتمناها فتنعكس على رؤيتي للأحداث بل على قراءه لمسار الاحداث العراقيه وحراك الشبيبة العراقيه المرتبك والمتعرج وعلى السلوك العنفي المتصاعد بأشكال مختلفة الذي يطبع ردود أفعال الحاكمين واذرعهم المسلحة وتنامى المعارضة السلمية والصامتة منها على أداء الحاكمين السياسي والإنساني السيء وإستحضار نسبة كبيرة من العراقيين لوطنيتهم الغائبة أزاء النفوذ والتدخل الأيراني في الشؤون العراقية عن طريق الاحزاب الحاكمة..
لقد إستفز إغتيال الوزني النسبة الأكبر من العراقيين ليس لخصوصية الشاب الوزني رغم وجود هذه الخصوصية لكن لأنه كان الحلقة الاخيرة في سلسلة احداث مشابهة لم تحدث تأثيرا كبيرا في وقتها على المشهد السياسي لكنه اثبت ماكان شكوكا لدى كثيرين عن طبيعة الصراع الدائر والجهات التي تقوم باغتيال الناشطين الشباب في الحراك ضد الاوضاع السائدة..لقد أحيط حراك تشرين الجاري منذ أكثر من سنة ونصف بشكوك كثيرة بعضها مشروع وآخر متعمد روجت له الاوساط المؤيدة للحاكمين كما تم التشكيك ببعض الرموز التي انتسبت للحراك وفي أحيان عديدة بنجاح لكن إستمرار الاغتيالات التي طالت المرة تلو الاخرى شخصيات لا شائبة عليها ولا مصداقية مطلقا لأتهامها بالعماله للسفارات الغربية والعداء لحكم الشيعة والجوكرية حيث معظم الضحايا من الشيعة ونسبه كبيرة منهم انتسبوا في وقت ما لأحد الاحزاب الاسلامية الحاكمة أو كانوا من مؤيدي حكم الإسلاميين الشيعة والمؤمنين بشرعيته وقد يمر بعض الوقت قبل أن تظهر على السطح تداعيات إغتيال الوزني وسيكون لإطلاق سراح قاسم مصلح دور مهم في غير صالح من ينتمي إليهم وإن كان الامر قد ياخذ بعض الوقت ولايصل مبتغاه قبل أحداث معقدة المسار لكني أثق أن المسار النهائي لن يكون في صالح الإسلاميين الحاكمين رغم معرفتي أن الأمر يعتمد على عناصر أخرى لها دورها في صناعة الحدث لكني أثق أن هناك نضوجا في الظروف الموضوعية لموقف سلبي عام من الحكم يتراجع معه دور العوامل والعناصر الأخرى..
نعود لمحاولة إغتيال الزعيم قاسم لنستنتج منها أن هزم الخصم وإذلاله وتيئيسه وجعله بدون خيارات بحيث يبدو الإنتصار عليه مطلقا وساحقا قد لا يأتي بالنتائج البديهية والتلقائية المفترضة بل على العكس بتوافر ظروف محددة قد يؤدي لنتائج معاكسه،فإنتصار الإسلاميين الحاكمين وأذرعهم المسلحة وسحقهم للإحتجاجات الشعبية وتصفيتهم لكثير من الناشطين الشباب دونما عقاب أو حساب قد يوفر بيئة نفسيه لنشوء معارضه سياسية أفضل تنظيما وأكثر راديكاليه وقد تكون أقل سلمية..رغم مرور ثمانية عشر عاما على سقوط صدام حكم معظمها الإسلاميون الشيعة وتصاعد المعارضة ضدهم لكن لا زالت هذه المعارضة غير متبلورة الاهداف والتنظيم لكن الاحداث الاخيرة تدفع بها قدما نحو أداء أفضل وتصورات وأفكار أوضح وقد تكون رمزية الوزني المستمدة من شخصيته وظروف إغتياله وهو ينعى نفسه أمام مسؤولي كربلاء الرسميين ويشير بوضوح لقتلته المفترضين والتي زادتها رمزية والدته الشجاعه الكيلة الأخيرة في كميات الألم العراقي قبل أن يتحول ذلك الكم إلى نوع من أشكال النضال يختلف عن كل ماعهدناه في الماضي.
اترك تعليقك