جنون الحب.. مطاردة الدخان في صندوق مظلم

جنون الحب.. مطاردة الدخان في صندوق مظلم

لطفية الدليمي

الحبّ في حقيقة الأمر موضوعٌ عادي للغاية ، وهو أدنى من أن يكون أمراً كونياً ، كما أنّه ليس جواباً لكل معضلات الحياة ؛ ولكنه قد يكون أحياناً أمراً فاجعاً وكارثيّاً .

الفيلسوف روبرت سي. سولومون

لستُ كائناً شعرياً برغم لغتي الشعرية في معظم نصوصي ورواياتي وقصصي ،ولم يكن الشعر مطمحاً لي في يوم من الأيام ؛ لكنّي أعجَبُ بمقاطع مختارة تأسرني ببلاغتها وتوهجها، ولاأكتمُ إعجابي بنصوص بعض كُتّاب الشعر الشعبي الذين يجيدون التعامل مع اللغة كما يتعامل نحّاتٌ بارع مع الطين الحُرّي !

قرأت قبل أيام مقطعامن الشعر الشعبي وجدتُ فيه مُقاربة جميلة لموضوعة الحب ( لاأحسبُ القارئ سيعجز عن قراءتها بطريقة صحيحة ) :

مجنون كلمنْ مايحب

والماتحب مجنونه

ابنادم بْلا عِشِكْ

جثّه بكَبُرْ مدفونه

إختصر الشاعر موضوعة الحب في إطار مواضعة قياسية تقول أنّ كلّ من لايحب فهو مجنون سواءٌ كان إمرأة أم رجلاً . تفكّرتُ كثيراً في السؤال التالي : إذا كان الأمر كما يراه هذا الشاعر الشعبي ؛ فهل أنّ كلّ من يحبُّ عاقلٌ بالضرورة ؟

رأى الإغريق في الحب شكلاً من أشكال الجنون ؛ فقد حسبوا الحبّ تعطيلاً لقدرات المساءلة المنطقية والتسبيب المعقلن ، وانغماراً غير مسبّب من جانب المحبّ في محبوبه ، وتتعاظم مفاعيل هذا الانغمار متى ماكان الحب خفياً ومن طرف واحد ( وبخاصة النساء ) ، وحينها يتفاجأ كلّ من يعرف المحبّ عندما يندفعُ اندفاعاً غير مسوّغ في إضفاء صفات تبدو مضخّمة على من يحبّ ؛ فيكون المحبوب حينها أذكى الناس وأجملهم وأكثرهم معرفة وقدرة على المستويين الجسدي والعقلي ، وسيكون مزيجاً من أفلاطون وفرويد وإبن سينا وآينشتاين وبيتهوفن وتولستوي وكيركيغارد وحتى كيسنغر ! . يتفاجأ الجميع بغياب روح العقلنة والمساءلة المنطقية ( حتى لو جاءت في أدنى أشكالها الممكنة ) لدى من يحبّ ، وتتفاقم حيرتهم عندما يكون المحبّ شخصاً ذا خواص معرفية معقولة . فيتساءلون : ماذا حصل لفلان أو لفلانة ؟ أين ذهب العقل التحليلي ذو المزايا المتفوقة التي عرفناها من قبلُ ؟ لماذا تصاغر لهذه الحدود المهينة ؟

سيقول البعض : الحبُّ لايحتملُ العقلنة ؛ وإذا كان متاحاً لنا أن نفاضل بين عقلنته أو جنونه فالافضلُ أن يكون جنوناً خالصاً ، إنه جنون لذيذ يشبه لذّة الأرض العطشى وهي ترتوي بأوّل دفقات المطر لتحيا بعد موات . هذا صحيح . جنون الحب لذيذ ؛ لكن هل سيدوم إلى الأبد ؟ بل الأصحُّ أن نقول : هل من الممكن أن يدوم إلى الأبد ؟ أظنُّ أنّ متطلبات إدامة الحياة وموجبات الكرامة الشخصية لاتسمحان للمرء بالإنسحاق والذوبان في دوّامة حبّ مجنون يمضي بلا نهاية . نستطيع القول أنّ جنون الحب لذيذ مقبول طالما إنحصر في زمن محدود له بداية ونهاية ؛ أما أن يستمر جنوناً منفلتاً مقصودا وهو يستمريء التلذذ في منطقة الخفّة الروحية وغياب المقيّدات المنطقية الكابحة لمفاعيل الخفّة ( هكذا يراها المحبّ ) فتلك معضلة كبرى لن يُجتنى منها سوى الخسران بعد زمن طال أم قصر .

يمكنُ أن نتفهّم طغيان نوعٍ من التعطيل المؤقت لجهاز المحاكمة المنطقية لدى من يحب ، ويحصلُ الأمر في العادة عندما يجرفُ تسونامي الحب المحبّ ويجعله معلّقاً في قمّة موجته الطاغية فيحصل تفلّت من قوانين الجاذبية والقوانين المنطقية معاً .

لكن الأمور لاتجري على النحو الذي يشتهيه المحبّ الموهوم ، وتتعقّد الأمور وتصبحُ مبعث أذى نفسي خطير إذا ماتكشّفت الأمور لاحقاً عن أخدوعة كبرى إرتكبها المحبّ بحقّ نفسه . قد يعيشُ المحبّ مستقطراً عذب المشاعر من خلوته ( المتخيّلة ) مع محبوبه ؛ لكنه سينتهي بعد زمان إلى اكتشاف حجم الوهم المخادع الذي عاشه وأوهم عقله به – الأمر الذي سيجعله ينقلبُ على نفسه ويعاقبها بقسوة بعدما يكتشفُ أنّ الحياة تعملُ وفق قوانينها الخاصة وليس تبعاً لرغبته الشخصية .

ستذهبُ السكرة وتأتي الفكرة عمّا قريب ، وسيكتشفُ المحبّ أنّ تصوّرات الفورة الأولى في الحب ماكانت سوى أوهامٍ ينبغي أن تتصاغر إلى مقاييسها التي تستحقها بعد أن تضخّمت بفعل جنون كان لذيذاً في بداياته ثم صار عقاباً موجعا بعد أن فقد كلّ مسوّغاته وصار لعبة يتلذذ بها بعضُ من لم يتعلّموا قوانين الحياة .

* * *

ربما سيظنُّ القارئ أنّ « الجنون « المقصود منه وصف الحب هو كناية استعارية عن حالة العشق التي لطالما أجادت وصفها كلّ آداب العالم باعتبارها تجربة جمعية يتشارك بها كلّ البشر ، نساءً ورجالاً ، في بواكير حياتهم . ليست تجربة العشق المعروفة هي المقصودة . يُنظَرُ إلى الحبّ في أدبيات علم النفس السريري المعاصر بأنه تجربة مخلخلة للإتزان الديناميكي في أجساد المحبين . الجسد البشري هنا يماثلُ أي منظومة حيوية معقّدة في الطبيعة ، وعندما تتخلخل حالة الإتزان في هذه المنظومة بفعل مؤثر خارجي فإنها تلجأ لسلوك يسعى لكبح تأثير ذلك المؤثر الخارجي ومعاكسته ليعود إلى حالة الإتزان الطبيعي . قد يبدو الحب في أطواره الاولى تجربة باعثة على الشغف والإفتتان ؛ لكنّ مصدر الشغف والإفتتان نابعٌ من كون الحب تجربة إيهامية تعيدُ تشكيل تصوّراتنا عن الواقع بطريقة مخاتلة ومتضخمة . الحب الرومانسي خدعة جميلة نلعبها ، وهي مفيدة لنا رغم طبيعتها الإيهامية طالما أنها ظلّت محصورة في مدى زمني محدّد . كثيرةٌ هي الأوهام التي تساعدنا على المضي في حياتنا وتبقى أوهاماً مقبولة طالما أنها تؤدي وظائفها التي تخدم نوعية حياتنا ولاتؤذي أحداً .

يتأسّسُ الوهم الرومانسي المرتبط بحالة الحب في الإعتقاد الراسخ بوجود شخص ما ، ذي ميّزات محبّبة لنا ، ينتظرنا في مكان ما ، وأنّ الأقدار ستدفعه دفعاً لكي يعترض طريقنا ويمتلك قلوبنا ! تعزّزت هذه الخديعة الرومانسية بوسيلتين : الاولى هي بواكير المحاولات الروائية التي قَصَرَت حكاياتِها على قصص الحب الرومانسي التي تنتهي بالبطلة في أحضان معشوقها ؛ أما الوسيلة الثانية فهي بواكير السينما وماعزّزته من حكايات تترسّم خطى ( روميو وجوليت ) . لو نظرنا نظرة بسيطة إلى واقع حالنا في كلّ العالم لعرفنا أنّ معرفة ( س ) بِـ ( ص ) ووقوعهما أسرى حبّ عاصف لم يكن في التحليل العلمي سوى حالة مصادفة عشوائية نشأت من تقاطع سلسلتين حدثيّتيْن ناجمتين عن أفعال كل من ( س ) و ( ص ) : إلتقى ( س ) بِـ ( ص ) في مطعم او حفلة أو نادٍ رياضي أو جامعة أو مكتبة أوووو ...... ، وكان يمكن ببساطة أن لايلتقيا على الإطلاق . هنا يمكنُ تحسّسُ مدى غباوة القول عندما يقول ( س ) لِـ ( ص ) مثلاً : حياتي لم تكن تعني شيئاً قبل أن ألتقيك . كم هي مخاتلة هذه العبارة التي تصرّحُ بشطب مقطع زمني في حياة قائلها إكراماً لمن يحب ! هي مخاتلة حتى لو جاءت في سياق حمولة إستعارية غير مقصودة : هل تريدُ القول أنّ كلّ جهودك في رسم مسار حياتك قبل معرفتك بالآخر كانت جهداً عبثياً مدفوعاً بقوة عمياء ؟ ثمّ ماذا كنت ستفعلُ مثلاً لو لم تعرفه ؟ أكنت ستنتحرُ ؟ كلا . كانت حياتك ستمضي في مسارات أخرى ضمن شبكة معقّدة من عالمٍ متراكب لاحدود لممكناته اللاحقة .

يصبحُ الجسد البشري في حالة الحب مَلْعَبَةَ نواقل عصبية دماغية ( الأوكسيتوكسين بالتحديد ) ، ويستحيلُ نهباً لعوارض مقلقة شبيهة ببعض الإختلالات النفسية ( العصاب القهري مثلاً ) ، وحتى هذه الخفّة الروحية التي تكسرُ قوانين الجاذبية والمنطق المعقول تماثلُ حالة الإختلال العقلي الناجم عن مؤثرات مادية معروفة ( تناول المكيفات العقلية مثلاً ) ؛ لكنها كلها مقبولة إذا ماتلاشت بعد أن تهدأ موجة تسونامي الحب الصاخبة ويعود الجسد والعقل إلى حالة الإتزان الديناميكي المتوافق مع إدامة ضروريات الحياة البيولوجية والعقلية .

تخرج الأمور عن نطاقاتها الطبيعية المعقولة متى ماتحوّل الحب حالة مستديمة من المظاهر الهوسية المترافقة مع أنماط سلوكية مرضية : الوَلَه ، الغيرة المفرطة ، إنكسار القلب ( صارت تسمى متلازمة القلب الكسير ) ، التعلّق اللامحدود ، الإدمان . التعلّق الإدماني بالمحبوب هو أخطر هذه النواتج ، ويحصل عندما لايعود المحبُّ قادراً على تصوّر إمكانية تفكيره بشيء يتجاوز نطاق المحبوب : تراه مثل الطفيلي الذي لايستطيع فكاكاً عن محبوبه ، يطارده في الأماكن الواقعية وفي الفيسبوك وتويتر ويعملُ محامياً يتحدّثُ باسمه ، ولو شاء ومكّنته قدراته التقنية لقفز له من شاشة حاسوبه !

* * *

يتعامل الغربيون ( وبخاصة النساء ) مع الحب في أغلب الحالات بمزيج متوازن من العقلانية والبراغماتية ، هم يعرفون حدود الأشياء ولايخلعون عليها أوهاماً محلّقة أو شخصانيات مؤذية ، وربما تكون تجاربهم الأولى في حياتهم عوناً لهم في مغادرة منطقة الجنون في الحب ؛ لكنّ الحال مختلف لدينا ، ولستُ هنا في سياق الحديث عن أسباب كامنة وراء شيوع ظاهرة التعلّق المرضي الملازم للحب ؛ لكني مع هذا سأتناول ظاهرة واحدة تسبّبت كما ارى في إشاعة هذا الخلل ولاسيما لدى بعض النساء .

يبدو واقعنا العربي قاسياً منذ بدايات نشأته التأريخية ، وربما لعبت الآيديولوجيات الحزبية دوراً مرضياً ( باثولوجياً ) في روح الأفراد إلى حدّ جعل منهم ثقوباً سوداء تلتهم كلّ مايمنحها فعلاً تعويضياً عن غياب الحب عند النشأة الأولى . تعمل الآيديولوجيات الحزبية على استبدال فكرة الحب الطبيعي بحبّ شيء ما له الأولوية على أنماط الحب المألوفة : فكرة أو هدف أو غاية أو سياسة أو حزب ،،، الخ ، ونحن نعرف أنّ بيئتنا لم تعمل على ترسيخ قواعد وأخلاقيات عمل رصينة - بسبب الإضطرابات السياسية في المقام الأول - تعين المرء على تلمّس خطواته بثقة ؛ لذا ستكون النتيجة المتوقعة أن يندفع الشاب في الإنتماء الحزبي المتعجّل الذي يَعِدُهُ بمكانة ومستقبل لايستطيع بلوغهما عن طريق التراتبية الهادئة القائمة على العمل الجاد والمنظّم ، والشباب في أغلبه الأعم متعجّل يريد بلوغ أهدافه بكلّ الوسائل الراديكالية المُتاحة .

الآيديولوجيا بهذا المفهوم تعمل في الشباب بمثل مايفعله الحب فيهم ؛ فنراهم يندفعون في شرب أنخاب الآيديولوجيا حتى الثمالة ، ثمّ تستحيل الآيديولوجيا لديهم معشوقاً يغضّون الطرف عن العيوب المحتملة فيه ولايرونه إلا كمثال الكائن المكتمل في ذاته ، وإذا ماحصل وانكسرت صورته لسبب من الأسباب فسيجعلهم هذا الأمر كائنات معطوبة عصية على العلاج .

هذا ماحصل مع كثرة من النساء والرجال : إنكسرت أحلامهم اليوتوبية إلى حدّ باتوا معه يتطلّعون لتجربة تعويضية تعيدُ لهم بعض بريق آمالهم الضائعة ؛ فراحوا يندفعون في تجارب حبّ صارت أقرب إلى إختلالات نفسية قاسية .

لو دققنا في تأريخنا الفكري وقرأنا عن ظاهرة الحبّ لدى الإغريق وكيف عدّوها ضرباً من الجنون الشامل المؤقت ، ثمّ تابعنا المباحث المعاصرة في علم النفس السريري لكان بوسعنا معرفة بعض الأسباب التي دفنت الكثير من العراقيين تحت التراب أو جعلت منهم كائنات معطوبة الروح لاتقوى على مواجهة الواقع بجرأة وعقلانية ، وتستمرئ بدلاً من ذلك مطاردة ( خيط دخان ) حبّ إفتراضي موهوم في صندوق مظلم .

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top