على فكرة: قراءة الفنجان الشعري

د. أحمد الزبيدي 2021/07/12 10:02:58 م

على فكرة: قراءة الفنجان الشعري

 أحمد الزبيدي

أكان يظنّ امرؤ القيس أن بكاءه على الديار سيتحول إلى سُنّة شعريّة تميّز أصيل الشعر من حديثه ؟! وهل فطن حسان بن ثابت إلى لسانه الذي لان وضعف جرّاء تجنيده شاعرًا للدين ؟

هل كان يُدرك أبا تمام بأن اللوم عليه أصبح مدحًا له؟ ولو أعدنا صياغة هذه التساؤلات عن شعرنا المعاصر فهل سيعي السياب بأن استخفافه من شعر البياتي لم يلغ الأخير من طبقة الرواد وتنافس السبق مع نازك الملائكة أنسى النقاد دليليهما الشعري ؟!.. لا أظن أن محاولة فردية تكفي لنبوءة ريادية ولا يمكن لعمل شخصي أن يكون مؤثرا إن لم تكن هنالك ثمة تناصات جمالية تخلق سياقا وخطابًا يصبح طاقة مرجعية تحدد الفواصل الجمالية والأسلوبية بين مرحلة وأخرى أو تجربة وجارتها المتنافسة معها ..

وحتى لو تصالح مجموعة من الشعراء واتفقوا على حلو اللغة ومرها، فلن تمنحهم الجماعة وظيفة الريادة المسبقة، ولا التميّز المبكر. والمفارقة أنهم حين يتخاصمون - وسرعان ما يتخاصمون - ستبرز قيمتهم الشعرية أكثر وكأن الخصام يستقطب النقد والحديث والتشهير والصحافة والمذكرات والكتابات ! .. فقد استلذ النقد خصومات العقاد مع المازني أكثر من اتفاقاتهم وتطرب النفوس لسماع هجاء سعدي يوسف للبياتي أكثر من مديح عبد الرزاق عبد الواحد للجواهري.. ولعله من المنطق أن تستقطب الأشياء المفارقة ذهن الإنسان وتحثه على اكتشافها .. ولكن ما أعنيه أن التحولات الشعرية تقوم على ( الخصومات ) أكثر مما تقوم على ( الاتفاقات ) وكأن الشعر حرب لا تعرف العيش إلا بالاقتتال .. لنسمها ( المنافسة ).

ومن الأشياء ( المتفق ) عليها بين النقاد العرب أن الشعر العربي هو شعر غنائي قائم على محاكاة الذات والتعبير عن خوالج النفس واللقاء مع المتلقي لقاء مباشرًا ذاتيًا.. وهذه السمة الجمالية امتدت لتصبح سمة ثقافية واجتماعية ؛ ولو قلبنا الأمر لوجدناه صالحا للتفكير فطبيعة الذات العربية الواضحة غير المنتظمة أسهمت في التجسد الغنائي في الشعر ؛ وعليه فإن الذات الغنائية الشعرية ترادفها ذات غنائية ثقافية واجتماعية ومن هنا فإن الخصومات الشعرية وتنافساتها تهيمن عليها الخصومة الغنائية التي تنبري من لحظة تميز فردي أكثر من ولادة فكرية ناجمة عن تأثر بنظرية فلسفية أو مرجعية ثقافية يؤمن بها الشاعر الفرد المنتمي إلى تلك الجماعة الفكرية ومن هذا المنطلق فما نجده في ثقافتنا المعاصرة هو ( جماعات ) ولا نجد مذاهب ومدارس كالتي نجدها في الفكر الغربي الذي حقق تميزه وتنافسه عبر جدل مدرسة براغ و الشكلانيين وولادة النقد الجديد الذي استرد بضاعته البنيوية من الجماعة الفرنسية وكيف اسهم مركز الدراسات الثقافية في خلق النقد الثقافي.. بهذا العمل الجماعي الواعي استطاع الفرد أن يخلق من صوته خطابا مؤثرا في الثقافة العالمية.

لاوجود لمدارس فكرية عربية معاصرة؛ ولكن هنالك العديد من الجماعات الأدبية والشعرية والفنية التي تنتظم بقرابة اجتماعية وثقافية ويتعهدون لبعضهم بالالتزام بمقررات (البيان)! ثم يبدأ بعد حين ( التباعد ) الجماعي لأن من قدم التعهدات اكتشف أنه متميز عن أصدقائه وإن المتلقي يفضله عن سواه . وفي الوقت نفسه هناك من الشعراء من تعده ( جماعة ) و(مدرسة ) و( جيلا) كاملا من دون هذا الصخب والبحث عن الذي لا يخونك .. فهل يحتاج المتنبي إلى غير المتنبي كي يترنم الزمن بشعره ؟ وهل للمعري معين لفلسفته الشعرية وشعره الفلسفي غير عماه وبصيرته وفردانيته؟ .. المهمة _ إذن _ هي مهمة استقرار التجربة وهدوئها بعد انتظامها وتناسقها مع الخلايا الثقافية المتزامنة معها من جهة والمتعاقبة مع السابقة واللاحقة من جهة أخرى.. ومن هذا المنطلق فإن المهمة هي مهمة نقدية تقوم على قراءة التجارب الشعرية بعيدا عن التوصيفات الفردانية والنبوءات الإيديولوجية وتعلن (موت الجماعة) حتى تشرح النص بعيدا عن التنافسات الغنائية وحينئذ يمكن للناقد أن يدرك مكانة التجربة من رفيقاتها ومحاسن تميزها.. وتبقى أجمل نبوءة شعرية نبوءة الفرزدق حين قال : (علينا أن نقول وعليكم أن تتأوّلوا )

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top