كورونا ذات الزمان.. القسم الرابع والاخير

آراء وأفكار 2021/07/28 10:58:10 م

كورونا ذات الزمان.. القسم الرابع والاخير

 زهير الجزائري

ساندييغو

٢٢-نوفمبر-٢٠٢٠

وصلت ساندييغو بعد رحلة تفوقت فيها المخاوف على المسافة. ٣ مطارات و ١٣ ساعة طيران في طائرة مغلقة. رحلة مثالية للإصابة بكورونا. مغامرة عصية على التخيل بعد عزلتي في لندن ٠ من تلك العزلة والحركة الحذرة الى رحلة المخاطر هذه، أحسبها رحلة مع سحابة من الوباء.

مع ذلك فعلتها وأتيت.قبلة وداد خارج المطار كانت خاطفة وحذرة، لكن برفقتها وجدت الحب. أجلس الآن في البلكونة نصف عار تحت شمس تحرق جلدي وتضيء داخلي. أراقب المدينة تحتي وقد غمرتها الشمس. كل شيء واضح كما في معايدة سياحية. عالم يناقض لندن التي تركتها مخنوقة بغيوم رمادية، تغيب الشمس فيها منذ الساعة الرابعة. احسب الساعات فيها بانتظار اليوم الآتي. النهار هنا طويل، والغروب هو أجمل ساعاته. تتوارى الشمس ببطء وراء البنايات وتترك على سماء المدينة حمرة النار. السحب السوداء الطافية في سماء المدينة تكتسب لون الجحيم وتشحن بمعاني غامضة، وانا كما أنا جسمي ساخن وروحي باردة.

١٩-١٢-٢٠٢٠

أجمل السحاب رايته في ساندييغو، منبعج ومنبسط فوق المدينة. وقت الغروب تتخطط حواف السحاب بلون أرجواني. قبل أن أركب الطائرة وهي تخترق طبقات السحاب، كنت أحلم بأن أجلس فوق سحابة وأراقب الأرض تحتي، وإذا كانت مدينة، فهي المدينة التي يتوسطها مرقد الإمام على. سأرى تدفق المصلين من المحلات الأربعة الى المركز الروحي. فقد السحاب سحره وصلابته حين اخترقته الطائرة التي كنت فيها.

٢١-١٢-٢٠٢٠

ساندييغو غارقة في ضباب كثيف مع تقارب كوكبين.لا ارى من معالم المدينة غير أضواء تائهة في الشواش الذي يسبق الخليقة. البلكونات أمامي خالية من الناس. أين ذهبوا. الأضواء الزاهية للعام القادم لا تمنحني الأمل بعام أفضل من سابقه، على العكس تعطيني الشؤم والخوف من لأسوأ.

سيتضاعف القتلة: الكورونا وقد تغلبت على اللقاحات الموعودة، والقتلة بكواتم الصوت يتضاعفون ويزدادون ضراوة مع اقتراب الانتخابات. والقاتل الثالث هو الجوع، وقد أفلست الدولة بعد ان نهب الفاسدون مدخراتها. لن أرى السعادة بعد أن عشت كل الثورات المغدورة.عدى سعادتي بأولادي لن أرى السعادة أبدًا.

آخذ القهوة واخرج الى الشرفة المطلة على المدينة، لكن المشهد المتكرر لا يحيلني إليه،إنما الى ذاتي. يحضر المعاش الحقيقي بقوة، الذات و ظرفها. بدهشة ووضوح شديد أراقب السنجاب وهو يمشي على سلك الكهرباء. أتابع اندفاعاته المتقطعة وهو يتلفت متوجسا خطراً ما.هل يراني كما أراه؟

تقتحم عزلتي هذه السيدة الجميلة حاملة جرة الماء:

-اشرب قدر ما تستطيع!

مؤمنة أن صحتي هي الأهم. أشرب فيتداخل التناقضان ، الماء والنار، جلدي ساخن وداخلي بارد.الشمس الحادة تعشي بصري وأنا أكتب عن شارع مظلم وبقعة دائرية من الضوء.

العزلة علمتني أن أكون أقرب لذاتي حتى لو كتبت عن شخصيات أخرى. تظهر الذات مرائية و متسللة، لكنها تظهر وظرفها معاً وتحدد أسلوب الكتابة. الزمان راهن يسير مع الجملة. الشمس والمدينة تحتي منكشفة بوضوح عجيب.ونحن الإثنين ( وداد وأنا) منعزلين في هذه الدار، هي تتحدث بالتلفون مع إنسان لا تراه، وأنا اكتب عن مدينة تبعد عني آلاف الكيلومترات.

ماريجوانا

٢١-١٢-٢٠٢٠

للمرة الثانية، وربما الثالثة أدخنها. البلكونه طائرة في الفضاء دون دعامات. سانزل الى الهاوية إذا غادرت كرسيي، وإذا لم أغادره سنهوي معاً فينقطع الحديث. على يميني وتحتي سحابة من الأضوية تخترقني والمدينة معاً.أصغي للشابة الألمانية،لكني افقد الترابط بين الكلمات حين أسمع، وحين أتكلم تفلت مني معانيها. أحاول أن أنظمها، بدلاً من ان أتركها تتبعثر.لكن الصور تفلت منّي وتتصادم وتأتي أخيلة عصيّة على الإمساك.أخيلة تومض ثم تتلاشى بسرعة تفوق المنطق. أحاول ان أستعيد العقل حتى لو كان مملاً، واستجمع لأفسر، لكن الصور تفلت فبل أن أسميها.

التذكر يحتاج لتسلسل وإطار مكاني وزماني.الماريغوانا تكسر السياقين و تغربلهما.تفصل المشاهد عن الاماكن والزمن فتتحول الى شظايا غير مترابطة تتيح للكاتب أن يعيد تكوينها على هواه لا على ماهي عليه.

لكي أثبت حضوري في مواجهة هذا الدوار تقدمت خطوتين وأمسكت بكفيّ حديد البلكونة و ثبتّ قدميّ على الأرض، تاكدت من ثبات الأرض تحتي ومن وجودي تحت سماء مفروشة بنجوم شديدة السطوع، كل نجمة تخاطبني برعشة ضوء…تأكدت من وجودي في مدينة مسماة(ساندييغو)، من خطوطها وشوارعها المستقيمة، تأكدت من أني أنا زهير الجزائري..هذا هو اسمي وإني واقف على شرفة بيت يطل على مدينة.هل استعين بذاكرتي ؟ إنها تشتتني.

طبيعة

ها إني أختم عاماً مع كورونا منذ آذار الماضي حتى آذار الحالي وأوهم نفسي إنني نجوت. فقد اخذت اللقاحين وفحصت وقلت لنفسي : نجوت!

ما اراه وأنا اتجول في الشارع مع وداد واضح تماما بشكله والوانه.لا ترتجف الصور ولا يخطف الناس. لدينا موعد ثابت للتجمع كل يوم سبت لنحتفل مع شقيقات وداد بكوننا ما زلنا أحياء. سنشوي ونشرب ونغني.

نحتفي أحياناً بحريتنا فنذهب للبحر. يبدو الاتساع أكثر اتساعًا. أركض فأترك خلفي آثار خطواتي على الجرف الرملي وأتبع خطأً من الحصى المتناثر على حافة الزبد. أتوقف فجاة، فقد اجتذبتني حصاة. أحب امتلاك الاشياء الصغيرة التي نحتها الزمن. ارفع الحصاة واقلبها بدهشة. ما عمرها؟ ما سيرتها؟ كيف ولدت من رمل البحر وملحه، وكيف صقلها الموج كجوهرة ورماها لي… ؟ أسال ثم ألقيها خلفي مقررا أن ليس فيها ما يميزها عن خط الحصى الممتد أمامي على طول المحيط الهادي.

يحصل لي في الغابة أيضا وأنا اصعد تلال (لاغونا) في ساندييغو أن اتوقف فجاة في ممر الماشين في الغابة. استريح أسفل شجرة بلوط عالية. أرفع رأسي إلى الشعاع المتراقص الذي ينفذ من أوراقها وأرى في قماشة السماء الزرقاء الصافية لوحة ترسم الآن. ما اسم الشجرة، ما عنوانها و ما تاريخها؟ لماذا نقرأ التاريخ في الكتب والمتاحف ولا نتلمسه في الطبيعة؟ في الغابة نفسها تعرف كريستوف كولومبوس على الهنود الحمر وما تقوله رياشهم.

تحتي في قعر الوادي شجرة قتيلة منطرحة أفقيا كما الجثة. إلى جوارها شجرة كانت الشاهدة على المقتلة القاسية. رأت كيف احتزت المناشير جسم الشجرة القتيلة وكيف تهاوت الأطبار لتنزع عن القتيلة أغصانها.. رأت كل ذلك وبقيت مقيدة بجذورها لا تستطيع الهرب وهي تعرف إنها قد تكون التالية.

 

المرآة

المرآة في بيتي صارت أكثر مرآوية. أمشي وأفاجأ بأني لست وحيداً، هناك شخص آخر، يمشي معي، ذاهلا، يتتبع خطاي، هو أنا..هذا الكائن المتوحد الخائف والمهمش بوجوده.

أسأله:ماذا تفعل؟

-…

-ماذا ستفعل اليوم؟

-٠٠٠

-لم لا تجيب، ما الذي يشغل بالك؟

لا يجيب، ولا يعرف بم يجيب.

أقف أمام المرآة مراراً لاعرف عن قرب هذا الرجل الذي يتابعني حيث ما أذهب. يصدمني الوجه المتوتر الحازم.. هذا وجهي. الوجه في المرآة هو مرآة نفسي المتغيرة.أبدو مشاغبا مرحاً حين تمتلكني شخصية المهرج وهو يسخر من نفسه وما فعل في حياته، ساخطاً متجهماً حين تصادفني المرآة وأنا عائد من معركة كلامية، جاداً متوترا حين أفكر بنفسي في مواجهة الآخرين.

الوجه هو أيضا هويتي حين أقف أمام المرآة: هذا أنا! وحين يراني الناس في الشارع: مرحباً زهير!

أقف أمام المرآة او أهرب منها يبقى الوجه كما أعرفه في مرآة ذاكرتي عصياً على التاريخ بعينين واسعتين شاردتين تبحثان عن شيء شارد وفم مزموم يوشك أن يقول كلمته..هذا أنا!

تبدأ قصة قصة Fishhead للكاتب الأمريكي .Irvin_S_Cobb بعبارة مكررة” يعجز القلم عن وصف بحيرة Reelfoot…»القلم هو الذي يعجز. عجيب! كيف يعجز وهو مجرد أداة ؟! يحيل الإبداع، وهو ميزة الإنسان الأساسية، إلى الأداة. عقل الإنسان هو الذي يبتكر أو يعجز حين يكون الموضوع عسيراً على الوصف. الرأس المفصول عن الجسد برقبة طويلة يصدر الإيحاء فيذهب عبر العضلات لليد التي تمسك القلم وهو أداة جامدة فيبدأ بوضع الكلمات على الورق. لا أحد يحيل للكومبيوتر ما أحيل للقلم أو الريشة. هناك إقرار بعجزه لكونه مجرد أداة، مع إنها تصحح الأخطاء وتسبق الكاتب الى الكلمة التالية.

غاب الورق لتحل الشاشة محله.أعود لدفتر يومياتي في أواسط الستينات. فيه وصف ليوم في نهاية الشهر و في بار سرجون. من الحروف الأولى عرفت أسماء الحاضرين ولم تتضح الوجوه في ذهني. اللغة أسرع إلى الذاكرة من الصور. تتكون الصورة على مهل من بؤرة ثم تتجسد تدريجيا في ضباب الذاكرة. أعدد الأسماء وأرى نفسي بينهم ببدلة رسمية وأنا عائد من حفلة في السفارة التشيكية.

كوابيس

لندن

٧ آذار ٢٠٢١

استيقظ من نوم متقطع، وأحلام كثيرة، ديكورها ثابت: مدن مخربة سيّالة مرّ بها العدم ولم يترك فيها علامة. مدن لا أعرف لها اسماً، وأنا ضائع فيها، أبحث عن …؟ لا أدري عن ماذا. فقط أريد أن أنجو من مصير فضيع.أغادر كوابيسي وفي ذهني بقايا ثمالتها المرّة.

فتحت عيني ببطء شديد لا أريد أن أغادر أحلامي وقد تطابقت معها. كنت في مسرح بلا جدران. أتحدث بمزيج من الغضب والفرح لأني اقول الكلمات التي اردت أن أقولها. بين ما فكرت به وما قلت. لا أعرف ما قلت. لكني اعرف المستمعين، وفي الحقيقة مستمع واحد يتكرر هو الملوم في حديثي. والحديث موجه له وعنه. منذ فترة طويلة أفكر بأن أقول له هذا الكلام ثم أتوقف لأعقلن الحديث ، وفي الحقيقة أقدم الإيحاء بالمعنى بدلا من المعنى نفسه. أحيل الأمر لزمن آخر تكون فيه أعصابي باردة حد الموت.

المدينة الغريبة التي تهت فيها عالقة بين الحلم واليقظة. انا في منطقة الصفر.أنا ولست أنا، لا أعرف من ولا أين.أول ما أردت أن أعرفه الاتجاهات..حسنا، أنا ممدد أفقياً في فراشي. في بيتي وفي هذه المدينة.أول الأصوات تأتيني صوت المناشير وهي تحتك بالخشب، ومعها أصوات عمال البناء في العمارة المجاورة. خيل لي أن أشجاراً قديمة ستسقط مع مع صوت ذبيحة. تمسكت بحافة السرير حتى لا أسقط في هاوية. وضعت رجلي على الأرض و بدأت أول خطوة في حياة يومية رتيبة.

أبدأ بأعداد قهوتي وفطوري واغسل في نفس الوقت صحون البارحة. أفعل ذلك بإرادة مسبقة خائفاً من أن تفلت الأفعال من يدين غير ماهرتين. أحاول في نفس الوقت استعادة أحلام البارحة التي غادرتني.أدري إنني تهت في مدينة تاهت على نفسها، مدينة مخربة، قلبها زلزال. أي من المدن التي مررت بها؟ماذا كنت أفعل حين انقطع الحلم؟ أسئلة بلا أجوبة. أحلامي تتوتر خوفاً أو لذة، ثم تنقطع فجأة حين أنهض لأبول. تتكاثر أحلامي ولا تتكامل موضوعاً. كثرة فقد جمّدت الكورونا حياتنا في دورات رتيبة داخل المكان وقد تجمّد فيه الزمن.

 

وحدي مع البحر

١٥-٦-٢٠٢١

برايتون

غابة الكونكريت في لندن حاصرتني. حاصرت مخيلتي فاشتقت للبحر الممتد المتقلب المزاج المتغير الألوان. أتيت إليه لوحدي. أردت أن أعرفه عن قرب، اتحاور معه. أجلس على الحصا قبالته فيحيرني الخيار وتتوزع نظراتي بين هذا المدى الممتد حتى اللانهاية، هذا الجمال المخيف الذي يضيعني ولا استطيع أن أحتويه بكأس عيني، وبين الحصى المفروش تحتي وحولي. من مكاني وأنا على الأرض أراقب مساعي الإنسان لان يدجن هذا البحر الهائل. على الزلاقات المائية يبدو الناس مثل نقاط تتعرج وتتلوى بحيوية فوق الأمواج الهادرة، تطويهم في جوفها ثم يقفزون منها بحركات بارعة. المغامرة والنجاة هي متعة الشباب. انا الشيخ المتفرج أضيع نفسي في المساحات مع البحر اللامتناهي وألمّها حصاة صلبة في راحة يدي.

هنا يأتي الناس أزواجاً أو جماعات.لا يأتي سائح لوحده مثلي. البارحة دخلت المطعم وحدي وجلست الى طاولة حولها أربعة كراسي. امرأة من جماعة صخّابة التفتت يمينا فاكتشفت و ياللمفاجأة، شيخاً يجلس لوحده! أرمل أم ينتظر رفيقة عمره؟ تسائلت وقد علقت بي عيناها. بين الاستغراب والشفقة سألت الساقية “لم لم تسألي الضيف عما يريد؟” كنت سألبي فضولها لو سألتني، لكنها فضلّت أن تبقي فضولها مفتوحاً على الاحتمالات.

المكان الأليف الذي جلست فيه يقابل وحشة البحر. بينهما سياج حديدي يقسّم وحشة البحر الى مربعات مؤطرة ومؤمُنة. فوق الحافة سحابة من الفضّة تقترب دون أن تمس الماء. بيني وبين وحشة الطبيعة هذه البقعة الآمنة المسماة مقهى. أمامي كأس النبيذ. يقترب طائر النورس وينظر الي بفضول مترقباً شيئاً. مثل شحاذ نذل وعنيد، لا يكف عن التحديق بوجهي ويتابع حركة يدي وهي ترفع الكأس وتنزله. ما من فتات؟ حين يصل الى نقطة اليأس يصرخ بي غاضباً ويفرد جناحيه ويطير نقطة إلى المجهول.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top