الرواية الحديثة |  القسم الأوّل  |

الرواية الحديثة | القسم الأوّل |

 فيرجينيا وولف

 ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

أقدّم في القسم الأول التالي (وأقسام لاحقة) ترجمة كاملة للنص التأريخي الموسوم (الرواية الحديثة (1) Modern Fiction )

للروائية الإنكليزية ذائعة الصيت ( فيرجينيا وولف Virginia Woolf) . لايخفى أن وولف تُعدُّ أحد أساطين الرواية الحديثة ، وهي ليست كاتبة روائية فحسب بل منظّرة روائية عالية الشأن ( إلى جانب الروائي الحداثيّ هنري جيمس ) ، وغالباً مايُنظرُ إلى مقالتها تلك كإحدى الوثائق التأريخية المفصلية التي أسّست للحداثة الروائية ؛ وهذا هو مادفعني لترجمة هذا النص التأريخيّ الأثير وجعله في متناول القارئ الشغوف بتأريخ الرواية الحديثة ( وتأريخ الحداثة الأدبية بعامّة ) . سيذكّرنا هذا النص التأريخيّ الفريد - المكتوب بلغة إنكليزية رفيعة - بفخامة الكلاسيكيّات الأدبيّة الفكتورية التي تلقى هوىً في نفوس العديد من القرّاء والباحثين .

ثمة ملاحظة ينبغي التأكيد عليها : لأنّ هذا النصّ نتاجُ عقلية روائيّة لطالما وًصِفت بالعبقرية والمهارة فإنه ينطوي على الكثير من المسالك الإلتفافية ، والعبارات المطوّلة ، والأوصاف الغريبة المتزاحمة ، والمقاربات غير المباشرة التي تفترض في القارئ - كما المترجم - تمرّساً مع أساليب البلاغة الإنكليزية الفكتورية ، وقد بذلت قدراً غير قليل من الجهد في صياغة العبارات المترجمة ؛ غير أن الأمر إستوجب أحياناً إضافة بضع كلمات بين قوسين بقصد توضيح المعنى المطلوب من غير إثقال النص بمفردة ( المترجمة ) التي تُحيل هذه الإضافة إليّ ماخلا مواضع قليلة كانت الإضافة فيها تستوجب الإحالة إلى المترجمة سعياً للأمانة المهنية والتثبّت التأريخيّ في الترجمة .

أتوقّعُ من كلّ قارئ شغوف أن يأنس بقراءة هذه المقالة التي ستكون مثل مثابة تعينه على استكشاف الطريقة التي تكتب بها روائيّة لطالما عُدّت معْلماً رئيسيّاً من معالم الحداثة الروائية في القرن العشرين .

المترجمة

عند إجراء أيّ إستطلاعٍ مسحيّ للرواية الحديثة ، حتى لو كان هذا الإستطلاع كيفياً وغير وافٍ بكامل المتطلّبات المسحية الصارمة ؛ فسيكون أمراً شاقاً للغاية إذا لم نعتبر في عداد المسلّمات المفروغ منها أنّ الممارسة الحديثة للفنّ ( الروائيّ ) هي - بشكل ما - إرتقاء بالفن الروائيّ القديم . يمكن القول أنّ فيلدينغ(2) Fielding أجاد في عمله ، و جين أوستن( 3 ) Jane Austin جوّدت بأفضل ممّا فعل فيلدينغ ، وقد إستخدم الإثنان ماهو متاح لهما من وسائل يسيرة ومواد بدائية ؛ ولكن هلّا قارنتم الفرص المتاحة أمامهما مع تلك المُتاحة لنا ! إنّ أفضل أعمالهما تحوز بصمة غريبة من البساطة ؛ ومع ذلك فإنّ المقارنة بين الأدب وعمليّة صناعة السيارات - كواحدة من المقارنات فحسب - قلّما تكون مجدية بعد تجاوز تأثير الفكرة الخاطفة الأولى . إنّ من المشكوك فيه إذا كنّا في سياق القرون الماضية قد تعلّمنا أيّ شيء بشأن تخليق الأدب على الرغم من أننا قد تعلّمنا الكثير بشأن صناعة المكائن ؛ فنحن لم نرتقِ بما يمكّنُنا من الكتابة بطريقة أفضل من السابق ، وكلّ مايمكن قوله في هذا الشأن أننا قد تعلّمنا أن نواصل المسيرة فحسب قليلاً في هذا الإتجاه ، ثمّ قليلاً في ذاك الآخر ؛ ولكنْ في مسيرة لاتني تدور حول ذاتها لو شئنا ونظرنا لمضمار سَعْينا من قمّة عالية تبعد بما يكفي لحيازة نظرة شاملة . قلّما نحتاج إلى التصريح بأننا لاندّعي الوقوف ، ولو في برهة لحظية ، على الأرض التي تمنحنا أفضلية من الفرص المؤاتية . على أرض مستوية ، وسط الحشود ، ننظر - ونحن نصف عميانٍ ، متسربلون بالغبار - إلى الوراء بحَسَد نحو هؤلاء المحاربين الأكثر سعادة منّا ، الّذين ربحوا معركتهم والذين تشهد لهم أعمالهم المشرقة بالإنجاز والفخار إلى حدّ قلّما يجعلنا نُحجِم عن الهمس بأن معركتهم لم تكن بالعنف ذاته الذي تنطوي عليه معركتنا . إنّ هذا الأمر لخليقٌ بأن يُترك لمؤرّخ الأدب ليتّخذ فيه مايشاء من قرار ، وسيكون الأمر منوطاً به ليقول قوله الفصل فيما إذا كنّا محض مبتدئين أو بالغين أو نقف في منتصف حقبة عظيمة من الرواية النثرية ؛ لأن المكوث في الأرض المنبسطة لايتيح رؤية سوى القليل فحسب . إنّ جلّ مانعلمه هو أنّ آيات العرفان والإمتنان أو الأفعال العدوانية تبعث فينا الإلهام ، وأن مسالك محدّدة بذاتها تبدو أنها تقود نحو أرض خصبة ، ومسالك أخرى تقود إلى حيث الغبار والصحراء ، وربّما يكون أمراً مستحقاً عبء عنائه إذا ماحاولنا أن نحوز بعض التقدير .

إنّ نزاعنا ، إذن ، ليس مع الكلاسيكيات ، وإذا ماشئنا الحديث عن نزاعٍ مع السيد ويلز( 4 ) ، أو السيّد بينيت( 5 ) ، أو السيّد غالسوورثي( 6 ) ، فذلك أمر يعود في جزء منه إلى الحقيقة الخالصة بأنّ وجود هؤلاء الذي تجسّده أعمالهم يخلق نوعاً من اللاإكتمال اليوميّ الذي يقاسمُنا معيشنا وهواءنا ويُلاعِبُنا بشأن أيّ الحريّات متاحة أمامنا فعلاً في تناول أعمال هؤلاء ؛ لكنه أمرٌ صحيح كذلك ، ونحن نقدّم آيات الشكر لهؤلاء الكُتّاب بسبب ألفٍ من المزايا والهِبات التي وفّروها لنا ، أنْ نحتفظ لأنفسنا بالعرفان غير المشروط نحو السيّد هاردي( 7 ) ، والسيّد كونراد ، وبدرجة أقلّ نحو السيّد هدسون ( 8 ) صاحب مؤلفات : الأرض الأرجوانيّة ، الشقق الخضراء ، بعيداً ومنذ وقت طويل مضى . حرّك كلّ من السيد ويلز والسيد بينيت والسيد غالسوورثي مكامن الدهشة في الكثير من الآمال ثم أصابوها بالخيبة وعلى نحوٍ متواصل دَفَعَنا لجعل الشعور بالعرفان نحوهم يتّخذ في معظمه شكل تقديم آيات الشكر لهم لأنّهم أماطوا اللثام عمّا كان يمكن لهم أن يفعلوه ولكنّهم لم يفعلوه ؛ وهو الأمر الذي لانستطيع بالتأكيد الإقدام عليه ولانرغب - بالتأكيد - أيضاً ، أو ربّما ، في فعله . ليس ثمة عبارة منفردة واحدة ستُجمِلُ كلّ الشكوى أو الشعور بالمظلمة التي نحملها أزاء كمّ كبير من الأعمال التي تجسّد الكثير من الصفات المرغوبة والمكروهة معاً . لو شئنا محاولة صياغة المعنى المقصود بكلّ هذا وبمحض كلمة واحدة لربّما توجّب علينا القول أنّ هؤلاء الكُتّاب الثلاثة ماديّون ، وذلك بسبب أنهم مشغولون لابالروح بل بالجسد وإلى حدّ أصابنا بالخيبة وكرّس فينا الشعور المُقيم بأنّ الرواية الإنكليزيّة كلّما عاجلت في جعلهم يمكثون وراءها ، مع كلّ إعتبارات الكياسة الممكنة ، ومضت لوحدها ، حتى ولو إلى صحراء مجدبة ، فسيكون الأمر أفضل للإبقاء على روحها الحيّة . يبدو من وجهة النظر الطبيعية أنْ ليس ثمة كلمة مفردة تستطيع بلوغ مركز ثلاثة أهداف منفصلة عن بعضها : في حالة السيّد ويلز تقع الكلمة بعيداً وبصورة ملحوظة عن الموقع المطلوب ؛ إذ لاتفتأ تلك الكلمة ( أي مفردة مادّيون ، المترجمة ) تؤشّر في تفكيرنا تلك السبيكة القاتلة التي تشكّل عبقريّته ، وتلك الكتلة العظيمة من الطين التي تمكّنت من مخالطة نقاوة إلهامه ؛ غير أنّ السيّد بينيت ربّما يكون أسوأ الّذين وُجّهت لهم أصابع الإتّهام بين الثلاثة لأنه أفضل العاملين المَهَرة بين هؤلاء ، ويمتلك القدرة على خلق كتاب مصنوع صناعة متقنة ومُحْتكِمٍ إلى رصانة بالغة في معايير الجودة والحرْفنة وإلى حدّ يغدو معه أمراً عظيم المشقّة حتى بالنسبة لأكثر النقّاد تدقيقاً في صغائر الأمور أن يجد خرقاً أو مثلبة يمكن أن تتسلّل للكتاب ، ويبدو الأمر معه كما لو لم يكن ثمة نسماتُ من الهواء تتسلّل بين إطارات النوافذ أو من خلال شقّ في ألواحها الخشبيّة ؛ ولكن برغم ذلك : ماذا لو أنّ الحياة رفضت المكوث في ذلك المكان ؟! تلك مخاطرة إدّعى مبتدعو حكاية الزوجات العجائز( 9 ) : جورج كانون ، إدوين كلايهانغر وسواهم من مبتدعي الشخصيّات بأنهم ربّما قد تجاوزوها وتغلّبوا عليها . تعيش شخصيات السيّد بينيت حياة مشبعة بالوفرة ، حتى ولو على نحوٍ غير متوقّع ؛ ولكن يظلّ أمراً مشروعاً السؤالُ : كيف يعيش هؤلاء ؟ وماالذي يعيشون لأجله ؟ يبدو لنا هؤلاء شيئاً فشيئاً وهم يهجرون حتى فيلّاتهم ( منازلهم ) الراقية فاخرة البناء في منطقة ( البلدات الخمس )( 10 ) سعياً وراء قضاء أوقاتهم في بعض عربات قطار الدرجة الأولى والمُبطّنة بالأقمشة الوثيرة الناعمة ، وهم مكتفون بقرع أجراس والضغط على أزرار لاتحصى أعدادُها ، ويغدو مقصدُهم الذي يسافرون نحوه في تلك الحالة الباذخة شيئاً فشيئاً - ومن غير كثير مُساءلة - أبدية النعيم والهناءة التي يمكثون وسطها في أفضل فنادق مدينة برايتون . نادراً مايمكن القول أن السيّد ويلز ماديّ النزعة بالمعنى الكامن في حقيقة أنه يأنس كثيراً لمتانة نسيجه ( الروائيّ ) ؛ إذ أن عقله باذخ الكرم في مشاركاته الوجدانية ( في أعماله ) التي تتيح له بذل الكثير من الوقت سعياً وراء جعل الأشياء صارمة التنظيم والأهمية . السيّد ويلز ماديّ النزعة بفعل طيبته الشفافة المنبعثة من القلب ، وهو الذي حمل على كاهله عبء العمل الذي تخلّى عنه مسؤولو الحكومة الرسميّون ، وكذلك تولّى عبء العمل التنويريّ للكثرة العظيمة من أفكاره وللحقائق التي قلّما أشاعت البهجة عند إدراكها ، وقد نسي أن يتفكّر بطريقة أكثر أهمّية في شخوصه الروائية وبخاصة في بدائيّة وخشونة كائناته البشرية ؛ وبرغم ذلك ، فأيّ نقد مدمّر يمكن أن يوجّه لعالَم السيد ويلز ويكون أعظم قدرة في إجتراح التدمير هنا وهناك من ذلك التدمير الذي يسكن شخصياته الروائية التي على شاكلة ( جوان ) و ( بيتر )( 11 ) ؟ ألاتلطّخ الدونيّة اللصيقة بطبيعة تلك الشخصيّات كلّ المَلَكات والمُثُل التي يمكن أن يمنحها إياها كرمُ خالقها ؟ هل نجد مانسعى إليه حقاً ( في الفنّ الروائيّ ، المترجمة ) في الصفحات التي دوّنها السيّد غالسوورثي رغم أننا نكنّ كلّ الإحترام ، وإلى حدّ فائق ، لنزاهته وإنسانيّته ؟

لو وضعنا ، إذن ، قصاصة صغيرة على كلّ هذه الكتب ( التي كتبها هؤلاء المؤلفون الثلاثة ، المترجمة ) مكتوباً عليها كلمة واحدة : ماديّون ؛ فإننا نعني بهذا الفعل أنّ هؤلاء يكتبون أشياء ليست بذات أهمية تُذكر ، وأنهم يستنزفون الكثير من مهاراتهم العظيمة وقدراتهم الواسعة في تخليق الحكايات ، سعياً منهم لجعل تافه الأمور وعابرها يبدو حقيقياً ومستديماً .

هوامش المترجمة

1 . نُشِرت المقالة بالأصل في الملحق الأدبي لصحيفة التايمز TLS بتأريخ 10 أبريل ( نيسان ) 1919 تحت عنوان ( الروايات الحديثة Modern Novels) .

2. هنري فيلدينغ Henry Fielding ( 1707 - 1754 ) :

قاضٍ بريطاني ، كتب العديد من الروايات والأشعار والمقالات السياسيّة .

3 . جين أوستن Jane Austin ( 1775 - 1817 ) :

روائية بريطانية ، لها العديد من الروايات لكنها أشتُهِرَتْ بروايتيْها كبرياء وهوى Pride and Prejudice ، و عقل وعاطفة Sense and Sensibility .

4 . المقصود هنا الكاتب المعروف إج. جي. ويلز صاحب الروايات المعروفة وبخاصة روايات الخيال العلميّ .

5 . أرنولد بينيت Arnold Bennett ( 1867 - 1931 ) :

روائي وكاتب سيناريو وكاتب سير ذاتية وصحفي وكاتب مسرحيّ وناقد أدبيّ بريطاني .

6 . جون غالسوورثي John Galsworthy ( 1867 - 1933 ) : روائيّ وكاتب مسرحي بريطاني مرموق ، حصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1932 .

7 . توماس هاردي Thomas Hardy ( 1840 - 1928 ) :

روائي وشاعر إنكليزي ينتمي إلى جيل الكُتّاب الواقعيين الفكتوريين ، وتأثر كثيراً بالروائي تشارلس ديكنز .

8 . وليام هنري هدسون William Henry Hudson (1841 - 1922 ) : كاتب وروائي وعالم بيولوجي بريطانيّ .

9 . نُشِرت هذه الحكاية التي كتبها جورج كانون ( وآخرون ) في ثلاثيّة بعنوان ( ثلاثية كلايهانغر ) عام 1908 .

10 . إشارة إلى الرواية الأولى للكاتب أرنولد بينيت التي نُشِرت عام 1902 بعنوان ( آنا إبنة البلدات الخمس Anna of the five Towns ) ، والتي يحكي فيها الكاتب عن الحياة وسط مراكز صناعة الفخار في منطقة ستافوردشاير البريطانية .

11. إشارة إلى رواية ( جوان و بيتر Joan and Peter ) التي نشرها الكاتب إج. جي. ويلز عام 1918 ، وتنطوي على صورة ساخرة من بريطانيا في أواخر العهد الفكتوريّ كما تتضمّن نقداّ لاذعاً للمنظومة التعليمية البريطانيّة عشية الحرب العالمية الأولى .

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top