كلامٌ عاديٌّ جداً: ما أجمل العالم في منتصف الذّاكرة

حيدر المحسن 2021/10/27 12:02:49 ص

كلامٌ عاديٌّ جداً: ما أجمل العالم في منتصف الذّاكرة

 حيدر المحسن

ما الذي يفعله الفنان غير إثبات أن شعوره بالأشياء مختلف؟ حتى الموت، أو ما نسمّيه نحن "الموت"، يراه الفنّ بصورة باب واسعة تؤدّي إلى الأمل المشعّ بصورة غير متوقّعة -وهذه نظرة الدّين إلى الموت، والدّين هو الممارسة الحياتيّة الأكثر انتشارا للفنّ.

يتوقع الشاعر دون ريب الصّعوبات التي تنتظره، وقد نُصاب بالحيرة أو بالدهشة من هذه المجازفة، ثم نجد أنفسنا مدفوعين إلى التثبّت بها وجعلها أرضاً لنا، يسير معنا المئات والألوف من الناس المختلفين عنا، بل وحتى الرهيبين منهم وغريبي الأطوار، ومع هذا نعدّهم جيراناً طيبّين لأنهم يفكرون مثلنا، العيش في عالم واحد ممتلئ وخالٍ من الاختلاف هو المفتاح الأول للسّعادة، بمعنى أن الفنان يخدمنا بالطريقة القصوى طالما كان إدراك السعادة مبتغى الجميع في نهاية المطاف.

يتواتر موضوع الموت في قصائد فاضل السلطاني في مجموعته الشعريّة "ألوان السيدة المتغيّرة" إلى حدّ أن القارئ يرى عيني الشاعر تتفتحان في الصبح الأول على هذا الموضوع الصعب، ولا شيء فيهما غير ألوانه، وغير ألحانه. الموت يجيء بلا رحمة، وبلا نهاية:

لا تجرِ يا تيمز | لا تجر يا فرات | سأحتاج أغنيتين | لأكمل أغنيتي|

وسأحتاج شيئاً من الموت | كي أبدأ الاغنية

لا عمل يضاهي الغناء لأن المرء يكون في أثنائه جادّاً على طول الخطّ، وبالإضافة إلى الغناء يمنحنا الشاعر الإحساس نفسه من الأمل في الموت عندما يكون موضوعه الحبّ. والموت هنا ليس الفراغ العدمي الذي عذّب الشعراء طويلاً، كما أنه غير خراب المدينة الميتة لدى "إليوت" في قصيدته الشهيرة "الأرض اليباب". الموت الذي يعنيه فاضل السلطاني هو القتل:

"وعلى النومِ شيءٌ من الدم | يُشبهُ وجهي. هل كنتُ أنا؟ | هل تقولين شيئاً | عن الدم فوق المياه؟ | هل تغنين شيئاً | عن الدم فوق السرير؟ | عن الدم فوق الأغاني؟".

وكي ينفي الشاعر هذا التكثيف في "ثيمة" الموت المبذول هنا في العراق، يلجأ إلى السّحر في الشِّعر، يلغي بواسطة مرآته بشاعة الواقع، ويعتبر الحياة التي يقدّمها الخيال إليه هي البديل:

ما أجمل العالمَ في منتصف الذّاكرة!

أنت لم تذهبي بعدُ

شعركِ ينحني فوق المائدة

يطولُ أو يقصرُ،

يعودُ الجنودُ من الحربِ،

.. وينجبون بناتٍ مثلكِ

فارعاتِ كالآلهة

وأنتِ هنا

لم تذهبي بعدُ.

إن كلّ ما جرى لا يمكنه إفساد روح الشاعر الذي يجد سعادته في عالم خاصّ من الحلم -من الحلم وحده- لأن الواقع لا يحمل له غير الأسى. لكنه لم يختر الحلُم منجًى ومنأًى، وإنما حقيقة يعيشها، ويجعل القارئ يشترك معه في هذه التجربة. إنه عالم من الحقيقة الشعرية ولا ينتمي إلى الوهم والهلوسة، والسبب يعود إلى المسحة الواقعية في شعر السلطاني، فهو يبلغ أعلى قمة في الحلم، ثم يستدرك أمره، ويهبط سريعاً إلى أرض الواقع ليرى وضعه الحقيقيّ، وليس الذي أخذه إليه بعيداً سحر الشّعر. وتتحوّل بهذه الصورة قصائد السلطاني إلى مرجع تاريخيّ للبلاد، الحروب والقمع وقسوة الحاكم... كأن القارئ يتجول وهو يقرأ الديوان في معرض للفن، حيث اللوحات على الجدران تصوّر العدم الذي يعيشه العراقيون. وفي واحدة من أروع قصائد المجموعة يعيد الشاعر اللّعبة ذاتها مع الواقع. إنه يكسر بواسطة الفن مرآة الوجود ويستبدلها بمرآة أخرى أوسع وأصفى، كي تكون الحياة أيسر وأحلى. ألم يصف النقّاد الأقدمون الشّعر بأنه الكذب الحلال؟ الشّاعر الحزين يعاتب البحر، محمّله معاناته التي بلا حدود:

ماذا لو كنتِ معي؟

لهزمنا البحرْ

.. لفتحنا الجوفَ الممتدَّ

من الطوفانِ الأكبرِ

واستخرجنا منهُ ضحاياهُ

من يونسَ حتى ابنِ أخي

ثم دفناهُ

......

لكنكِ لستِ معي.

*

هو البحر الحيّ الذي لا ينام، وهو يسمع، ويرى...

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top