أسباب اللجوء إلى القضاء العشائري وعلاته

آراء وأفكار 2021/10/27 11:48:06 م

أسباب اللجوء إلى القضاء العشائري وعلاته

 عباس العلي

في ضل التطور الإنساني الذي يرتقي بالقيم نحو التكاملية بين مفردات التنمية الإنسانية للوصول إلى صورة من صور الكمال الحضاري في جانبيه الطولي والعرضي، وسعي المجتمعات المتمدنة والتي تقودها الأيدولوجيات الفكرية والدينية والحضارية لبلوغ حالة الاستقرار المجتمعي المبني على الضوابط القانونية المدونة والمكتوبة،

والتي هي القادرة لوحدها على رسم الميل السلوكي المجتمعي وتصحيح مساراته وضبط ديناميكية الحركة تحت قواعد معلومة ومفهومه ومقننه سلفا ليعرف كل ذي حق حقه، وهذا الدأب ليس جديدا بل هو مسنون ومتعارف عليه منذ فجر الإنسانية ومع حركة الرسل والأنبياء وما بعث من رسول إلا برسالة مكتوبة فيها كل ما يمكن أن يضبط الحركة البينية بين أفراد يؤمنون بالرسالة ويتقلدون من أوامر من كان متكفلا بالتطبيق والفرض، وصولا بهذا الحال إلى عصر التدوين القانوني القديم من شريعة أور نمو وحمورابي إلى مجموعة قوانين جوستنيان الرومانية إلى مرحلة الثورة الفرنسية وعصر القانون الحالي.

هذه المقدمة ليس من أختراعات النظرية الفكرية بل تتبع سريع لمفهوم القانون والقضاء ودور ذلك في إرساء أسس العدالة في المجتمعات قديما وحديثا، بل أن المجالات الحياتية البينية التي تدخل القانون فيها وضبط الحركة الإنسانية فيها تكاد تتلاشى أمام حرية الإنسان في عدم الالتزام بقوانين محددة وضوابط منظمة لها، وأصبح من السمات الحضارية لأي مجتمع هو تقيد أفراده واحترامهم للقانون المسنون المكتوب المدون واحترام مؤسسة القضاء والعدالة فيه. فالأصل المنطقي لسير العدل والقضاء هو التسنين والتقنين المدون وحتى في الحالات التي تتجه إليها بعض الأنظمة القضائية في بعض البلدان لما يسمى بالسوابق القضائية، فهذه لا تعني أبدا عدم التدوين بل الأعتماد على الثابت المتيقن والصالح من الأحكام القانونية والتي ترسخت في الفقه القضائي، وتم الاعتماد عليها في العملية القضائية من أحكام كانت هي بدورها تستند إلى قاعدة قانونية مكتوبة ومدونة قبل حدوث الأشكال القانوني المستوجب لتدخل القضاء فيه.

وأما ما يتصل بقاعدة المعروف عرفا كالمشروط شرطا واعتبار العرف بأي مجال ما مصدر من مصادر تطبيق العدالة، فلا علاقة له أصلا في العرف الذي نشأ في مجتمعات الشرق الأوسط ومنها مجتمعنا العراقي واستفحل في الفترة الأخيرة ليزاحم قاعات القضاء الرسمي، وحتى زاحم الفتيا الشرعية التي تتولاها المؤسسة الدينية بكل قداستها عند العراقيين لتفرض واقعا منحرفا وخطيرا يجر البلد نحو الفوضى والدمار وشرعنة مؤسسة قضائية موازية ومنافسة للقضاء الرسمي والديني، متحكمة بسطوتها المعتمدة على قوة العشيرة والفخذ وجهل بعض المفتين والمشرعين الذين تنقصهم الخبرة في استخراج القواعد القانونية والأصولية والإجرائية معتمدا على الفطنة والتجربة الخاصة، وهذا منحى لم تألفة قضية الأعراف العشائرية والقضاء الذي ينشأ منها سابقا بهذا القدر من الضحالة والتعدي على كل النواميس والمحددات التي تحكم وتشير إلى حقيقة العدالة كونها قيمة إنسانية وجودية يسعى رب السماء لتوطينها وتطبيقها في الأرض.

من هنا لابد من السعي الحثيث لفرض قيم متصلة بالعدالة وتتطابق مع المبادئ الرسالية وتتماشى مع مفهوم التقنين الذي يضبط ويتحكم بسيرها بعيدا عن الاجتهادات الشخصية لبناء مجتمع مؤسساتي يخضع للقانون ويعبر عن روح الالتزام الحقيقي به، سواء من خلال تقنين الشريعة أو شرعنة القانون للحفاظ على الاستقرار القضائي وتطوير منظومة العدالة نفسها، وهذا العمل لا يتم إلا من خلال تضافر جهود المشرع القانوني أو فرض سلطة المؤسسة الدينية وتفعيل دورها الهام والضروري لقيادة المجتمع، وتحجيم الاجتهاد الكيفي في فرض سلطة خارج نطاق المقدمات التكوينية والآسية التي تصوغ هوية المجتمع وتمنحه القدرة على الثبات والشعور بالعدالة المتأتية من قوننة قواعد النظام والانضباط السلوكي والإجرائي بين أفراد الأمة.

ليس العيب في دور المؤسسة القبلية والعشائرية في ظهور هذا التزاحم بين قواعد فرض العدل الاجتماعي بصورته القضائية التي تناولناها في المقدمة، ولا يمكن لنا أن نحمل هذه المؤسسة الوزر الأكبر في أستفحالها، ولكن هناك جملة من العوامل والأسباب والعلات التي ساعدت وشجعت الظاهرة وفي مقدمتها الوضع السياسي والثقافي والفكري والديني والقصور في أوجه متعددة من النظام القضائي الرسمي والديني الذي سمح بدوره في انتشار الظاهرة وأستفحالها، ولا بد أن نكون جادين في كشف هذه الجوانب من الخلل وتأشير واقع القصور فيها لنظر بالتالي مجالات القصور في موضوع الفتيا أو ما يسمى بالفراضة العشائرية.

إن تقسيم العوامل التي أدت إلى نشوء الظاهرة وأستفحالها منها ما هو خارج المؤسسة العشائرية ولا يتعلق بمقتضيات العرف العشائري، ومنها داخلية سلوكية تتعلق بأفراد تلك المؤسسة ولا بد لنا من بيان كل مجموعة عوامل على حده لتتضح الصورة وينكشف مشهد القصور فيها, وكما يلي:.

أولا _ العوامل الخارجية_ وبدورها تتشعب إلى مجموعة عوامل متفرقة ولكنها تشترك معا في نشوء الظاهرة وكالآتي:

1. القصور التشريعي والنقص القانوني, ولابد لنا أن نعترف أن المجموعة القانونية التي يسير عليها القضاء العراقي اليوم تعاني الكثير من أوجه النقص والقصور في معالجة الكثير من الحالات التي تهم المجموعة الأجتماعية، فقضايا الشرف والجروح والقصاص وفسح المجال أمام الصلح والتصالح وغيرها من الكثير من القضايا التي تهتم بها العشائر والمجتمع المنضوي تحت قيود سلطتها، لا نجد له حضور فعال ولا معالجة حقيقية في متون القوانين العقابية ولا حتى المدنية، وهذا يرجع بدوره إلى غربة المجموعة القانونية العراقية عن حقيقة الفهم الأجتماعي والسيكولوجي للأسرة العراقية باعتبار أنها النواة للعشيرة، وأن الأخيرة هي النواة الكبرى للمجتمع، ناهيك عن قدم المجموعة القانونية وصبغتها المادية المفرطة في معالجة المواضيع الخلافية بين أفراد المجتمع العراقي.

2.الضعف السياسي للسلطة التنفيذية وتهاوي سلطة الدولة نتيجة الصراعات السياسية والحزبية والمصالح الحزبية واحتماء بعض التنظيمات الحزبية خلف الواجهات العشائرية طمعا في كسب الصوت الانتخابي، والتملق الذي تمارسه بعض الأجهزة الحكومية وكسب ود العشائر في تنفيذ بعض الواجبات الأمنية والسياسية، كان لا بد أن يفرض استحقاقات للمؤسسة العشائرية تجاه تلك القوى والرضوخ لها، وبالتالي التفريط بهيبة الأجهزة الحكومية باعتبارها حامية المجتمع والمدافعة عن الاستقرار والعدل والنظام فيه، وتحولها إلى مستجدية للحماية لها بغض النظر عن الثمن الذي تدفعه هي وبالتالي المجتمع ككل.

3. التنافس بين المؤسسة الدينية والمؤسسة الحكومية والذي يبدو للبعض غير ذي أهمية في صياغة مشروع الدولة والمجتمع المحكوم بالقانون والمؤسسات، والحقيقة أن التنازع هنا قد أخذ أبعادا خطيرة جدا لا سيما في حصاد المستحقات لكل منهما مقابل التلويح بالتحريض ضد الأخر باستخدام المؤسسة العشائرية، والتي بدورها قد فهمت أصول الصراع هذا ولعبت دورها بمهارة توحي بالفطنة لتكسب من خلال هذا الصراع وجودا مؤثرا وحاسما لصالحها، تمثل بفرض قوانينها هي مقابل بعض الأسس العقائدية والشرعية والقانونية.

4. ضعف المؤسسة الدينة الناتج عن هذا الصراع أنف الذكر والذي جعل وظيفة المؤسسة الدينية مبتورة ومحدودة في أطر ضيقة هذه الحدود أصلا، لا تمثل جوهر الوظيفة الدينية واستغلت الصراع الطائفي بين مكونات الشعب العراقي وتعميق الهوة بينها مقابل الحصول على مكاسب طائفية ضيقة، مبتعدة عن نشر الإسلام كدين دولة وكنظام واجب الأتباع مما سهل للعشائر أن تتغلب على دور المؤسسة الدينية من خلال فرض وجود الاسم العشائري في الممارسات الدينية كواجهة لسلطتها بدل سلطة الدين وقوة الشريعة، وبالتالي فإن المصالح الطائفية بين المؤسسة الدينية والعشائرية ووجوب حمايتها أدت إلى تقوية السلطة الأخيرة بمواجهة سلطة الدولة والقانون.

5. ترسيخ النظام الإقطاعي والمنفعة المتأتية منه بالنسبة لقادة المؤسسة العشائرية قد أوجبت خضوع كثير من أفراد القبيلة والعشيرة لسلطة القادة، ولو كان هذا الخضوع فيه خروج عن المحددات الشرعية والقانونية الحاكمة، وهذا يرجع بدورها إلى البند الأول المتمثل بالقصور القانوني في المجموعة العدلية وعدم وضوح أتجاه المجتمع نحو أيديولوجية شاملة متكاملة ترسم للمجتمع العراقي الهوية المميزة، فالمجموعة القانونية العراقية لم تتشكل بموجب توجه فكري واحد جامع فهي خليط من أسس مادية مستقاة من مجموعات قانونية غربية نقحت في فترات تشريعية بقواعد من المجموعة الاشتراكية وفيها بعض الأسس المأخوذة من القواعد العقدية الإسلامية، وبالتالي فالتناقض المكون والمكيف لها يفرض غياب للهوية القانونية والتشريعية العراقية مما يسبب الإرباك والاضطراب الذي لا يمكن معالجته بأي حال من الأحوال.

6. تخلف المؤسسة الثقافية والتعليمية وعدم قدرة الأخيرة في مواكبة التطور الحضاري والفكري العالمي وخاصة مقارنة مع دول الأحتكاك مع العراق المجاورة منها والبعيدة، والتي تمثل فيها الجاليات العراقية والمغتربين العراقيين أسس الترابط والتأثير والاحتكاك، مما ولد حالة من الشرخ الفكري والثقافي والحضاري بين البعض من مكونات المجتمع العراقي، ليولد بالتالي ردات فعل عكسية من المؤسسة القبلية تجاه هذا التأثير والتأثير المتبادل، يساعد في ذلك انتشار الأمية بكافة أشكالها وبالأخص الأمية القانونية والشرعية واقتصار على النخب القانونية والقضائية والدينية ليؤسس إلى ديكتاتورية لهذه النخب تجاه عامة الشعب، ويكبر من الهوة الفاصلة بينها وبين الواقع الأجتماعي لتجير هذه المنقصة لصالح رجال العشائر الذين هم في تماس مباشر ويومي وتفصيلي مع القاعدة الشعبية.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top