فاشية التخلف – البعث العربي نموذجاً | 5 |

آراء وأفكار 2021/11/27 10:56:02 م

فاشية التخلف – البعث العربي نموذجاً |   5   |

من مبادئ الثورة الفرنسية الى الفكر القومي الالماني

 د. حسين الهنداوي

تعود بداية إطلاع العرب على الأفكار السياسية الغربية الحديثة ومنها الحرية والمساواة ورفض أنظمة الحكم المطلق والاستبداد والاستعباد،والاستقلال السياسي وفصل الدين عن الدولة الى القرن التاسع عشر كما تعكسه كتابات عدد من رواد النهضة العربية الحديثة كـ"تخليص الإبريز في تلخيص باريز" لرفاعة الطهطاوي،

و"أقوم المسالك في معرفة الممالك" لخير الدين التونسي ومقالات جمال الدين الافغاني ومحمد عبده في "العروة الوثقى"، ومفكرون وكتاب زاروا أوروبا وعادوا حاملين تصورات عميقة وإيجابية عن مجتمعاتها وانظمتها السياسية والتربوية ومعلومات تفصيلية عن تقدم وحيوية مؤسساتها الادارية وقوة وفاعلية تياراتها الديمقراطية والتنويرية الصاعدة المتمسكة عموما بفصل الدين عن الدولة ونيل العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات دون تمييز اجتماعي او ديني. من جانبه سعى عبد الرحمن الكواكبي (1849–1903) في كتابيه "طبائع الاستبداد" و"أم القرى" الى ان يعالج بصورة أساسية ظاهرة الاستبداد في العالم الإسلامي وان يستنهض المسلمين لتحقيق تقدمهم الحضاري من جديد.

المرجع الديني الاسلامي الاعلى في النجف مطلع القرن الماضي آية الله العظمى الشيخ محمد كاظم الخراساني (1853-1911)، هو الآخر كان رائدا سباقا في ادانة انظمة الاستبداد في العالم الاسلامي دون تمييز إقليمي او مذهبي، وفي الدفاع عن ضرورة الدولة الدستورية المدنية الحديثة، معارضاً بقوة لفكرة ولاية الفقيه في السياسة وتولي السلطة من قبل رجال الدين، اذ طالب أن يكون الدستور مكتوبا ثابتا ومنصوصا عليه بما يمنع الحاكم من الاستبداد وخلعه اذ اقدم على التفرد في السلطة وجعله مقاليدها بيد دائرة من المقربين والمحسوبين والموالين، ودعا منذ 1905 الى ان يكون مجلس النواب مرشحا ومنتخبا بنزاهة من قبل الشعب على ان يكون ممثلا حقيقا له وليس مجرد بطانة من الجهلة والطبالين والمنتفعين الانتهازيين. كما دعا الى محاربة الا ستعمار الاجنبي وحماية الاستقلال الوطني. وقد توفي الشيخ محمد كاظم الخراساني (المشهور بإسم الآخوند الخراساني) في ظروفٍ غامضة بينما كان عازماً على السفر الى تفقد مناطق تعرضت الى هجمات من جيوش روسية وبريطانية في خضم الاستعدادات للحرب العالمية الأولى، اذ اعتبر في عصره من أشهر مراجع الدين القائلين بمشروعية دولة مدنية دستورية منبثقة من الشعب مباشرة وليس من الفقه وهو ما عرف به تلميذه محمد حسين النائيني (1869-1936) صاحب الكتاب الكبير "تنبيه الامة وتنزيه الملة" الذي صدر في عام1909، والذي لعبت آراؤه دوراً مهماً في تعزيز وجهات نظر أنصار حركة الدستور آنذاك.

وبلا ريب فان الكواكبي وقبله الطهطاوي وخير الدين التونسي وسواهم لم يكتبوا ما كتبوه حول رفض نظام الاستبداد الإسلامي العثماني والدعوة لحكم مُقيد بالدستور، والفصل بين الدين والدولة، إلا تحت تأثير أفكار وكتابات فلاسفة التنوير الفرنسيين ولا سيما كتاب "روح الشرائع" لمونتسكيو. بيد ان شدة الاضطهاد العثماني المقترن باشتداد المشاعر القومية التركية والنزعة الطورانية وسيطرة حركة” تركيا الفتاة“ أدى الى تغير موقف غالبية المثقفين العرب باتجاه بلورة المشروع القومي العربي وقد كان من طلائع هذا التبلور قيام نجيب عازوري بتأسيس عصبة "الوطن العربي" في عام 1904 وإصدار مجلة تعنى بفكرة استقلال العرب، ثم نشر كتابه “يقظة الأمة العربية” حيث أكد وجود الأمة العربية والحاجة الى إقامة دولة حديثة لها.

ومن مؤشراته أيضا انعقاد المؤتمر العربي الأول في باريس عام 1913، الذي شجع المثقفين العرب على انشاء جمعيات سرية وعلنية حيثما أمكن ذلك، تتولى التعبير عن المشاعر السياسية والاجتماعية لسكان الدولة العثمانية من غير الاتراك، والتي راح إحساسهم بالاضطهاد يشتد اكثر فاكثر بموازاة اشتداد ضراوة تحركات القوى العرقية التركية الداعية الى فرض التتريك الاجباري عليهم بالقوة والمقترنة باضطهاد شديد ودموي أحيانا تضمن إعدام المثقفين المطالبين بالعدالة والحرية والاستقلال، كتلك التي نظمها جمال باشا خلال عامي 1915 و1916 وشملت تعليق عشرات المثقفين والناشطين الوطنيين والقوميين على اعواد المشانق في بيروت ودمشق. بيد ان اللافت للانتباه خلال هذه الفترة التي شهدت تزايد عدد الطلاب العرب الدارسين في جامعات بعض الدول الأوروبية لا سيما فرنسا وألمانيا وإيطاليا، هو ان إطروحات الفلسفات القومية الألمانية هي التي أخذت الصدارة وحتى الغلبة لديهم على حساب مبادئ وشعارات الثورة الفرنسية. وبالفعل ان أفكار فلاسفة التنوير الأوروبيين المتطلعة الى الحرية والعدالة والمساواة، والداعية الى رفض الطغيان ومعارضة الحكم المطلق والسلطة المركزية الاستبدادية والتحرر من السلطة الدينية والانفتاح على الآخر والدعوة الى التسامح والتفاهم بين الحضارات والوحدة الإنسانية الشاملة القائمة على الاحتفاء بالعقل، هي عموما محاور الفكر الاوربي التي كانت تستلهمها الحركات التحررية العربية خلال الفترة حتى انتهاء الحرب العالمية الأولى وكما نجدها لدى الطهطاوي وخير الدين التونسي وجمال الدين الافغاني وغيرهم. اما بعد الحرب العالمية الأولى، وبعد انتهاء السيطرة العثمانية وانقشاع شبح "الرجل المريض" عن العالم العربي فان الفلسفات والأفكار التي تركز على الوحدة القومية وبناء الدولة الوطنية المستقلة والاستقلال والتحرر من الاستعمار البريطاني والفرنسي خاصة هي التي صار لها محاولة الجذب والتأييد في البداية قبل ان يتسع الاطار للتفكير الحذر أحيانا بقضايا تنتمي الى ميادين علم الاجتماع والاجناس كرابطة علاقة الدم او العرق او الدين او اللغة ودور هذا او ذاك منها في التحرر والوحدة القومية.

في الفترة التالية على صعود الفاشية والنازية الى الحكم في إيطاليا وألمانيا على التوالي، فان اطروحات التفوقية القومية بين الأمم او الشعوب والهرمية العرقية ونقاء الدم وغيرها هي التي راح تسيطر على المشهد بعد ان صار ينظر لها بصفتها المنابع المباشرة او المفترضة على الأقل للفكر النازي، وهنا سيتضاعف الاهتمام في الثقافة العربية بكتابات ادولف هتلر وموسيليني والفريد روزنبيرغ وغيرهم من منظري الحركات النازية والفاشية المنتصرة حينئذ وكأنما الى الابد في المانيا وإيطاليا واسبانيا.

ولا ريب، فان نجاح المانيا بقيادة رئيس وزراء "الرايخ الثاني"الزعيم القومي الألماني بسمارك الملقب بـ"المستشار الحديدي" بتوحيد ولاياتها المتناحرة في دولة واحدة وتأسيس ما يسمى الإمبراطورية الألمانية التي أصبح أول مستشار لها بعد

قيامها في عام 1871، كان حدثا عظيما بالنسبة للقوميين داخل المانيا وخارجها. فقد اعتبره القوميون الألمان بطلهم القومي، فيما أعتبره القوميون الأوروبيون والعرب وغيرهم شخصية استثنائية ورجل دولة عبقري نجح في استنهاض أمة لم يبق من دلائل وحدتها سوى لغتها القومية بعد ان اذلها نابليون وغدت لعقود طويلة تعاني ضياعا ميئوسا منه كضياع العرب بعد الحرب العالمية الأولى بعد الدمار الذي الحقته بهم الإمبراطورية العثمانية.

إيطاليا انجزت هي الأخرى وحدتها السياسية في سنة 1871 بفضل لغتها القومية التي كانت العامل الأساسي في شحذ همم سكانالدويلات الإيطالية ودفعهم الى الثورة ضد الاستعمارين الفرنسي والنمساوي عليها وتوحيدها في دولة واحدة عاصمتها روما وهو ما حصل فعلا بفضل دعم العديد من العلماء والمفكرين الإيطاليين رغم القمع الدموي الذي استخدمته النمسا لمنع تلك الوحدة حيث كانت تسيطر بشكل مباشر على أغلب المناطق الناطقة بالإيطالية في شمال شرق إيطاليا الحالية.

وهكذا، قامت كلٌّ من القوميتين الألمانية والإيطالية بإنجاز وحدتهما في القرن التاسع عشر بالاعتماد على أساس توحيد اللغة أولا، وتطوير لغة فصيحة مشتركة بدلاً من اللهجات المتعددة المتباينة. وعلى "احياء" التاريخ الخاص القديم ثانيا، أي التاريخ ما قبل المسيحي في الحالتين، والتركيز على دور التعليم في إعادة بناء شخصية الامة القومية وانطلاقها. وكل هذا التطور سيجد انعكاسات له على المستوى العربي.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top