باليت المدى: القدح الخفي

ستار كاووش 2022/01/10 12:06:48 ص

باليت المدى: القدح الخفي

 ستار كاووش

كنت جالساً مع بعض الأصدقاء، ودار الحديث حول روسيا والثقافة الروسية بشكل عام. وتساءل إحد الحاضرين عن علاقة الشخص الروسي بالفودكا، ولمَ هذا الترابط القوي الذي يعقده الناس غالباً بين الشعب الروسي والفودكا؟ فما هو السر وراء هذه العلاقة الوثيقة؟

هل هو إدمان أم علاقة روحية لها علاقة بالثقافة والتقاليد؟ طرحَ الأصدقاء وجهات نظرهم حول هذا الموضوع، مثلما ذكرتُ أنا ما أعرفه من خلال تجربتي الشخصية واليومية بإعتباري قد عشت ما يقارب ست سنوات في مدينة كييف ذات الثقافة والتقاليد واللغة الروسية، والتي كانت تُعتبر واحدة من أهم ثلاث مدن في الإتحاد السوفيتي السابق، إضافة الى موسكو ولينينغراد. برأيي الشخصي، ليس للفودكا علاقة بالإدمان بقدر علاقتها الوثيقة بالثقافة الروسية ذاتها، إنها جزء من تقاليد الحياة والمعيشة والعلاقات الاجتماعية والتواصل بين الناس، ولا يعني ذلك عدم وجود مدمنين، وهذا ينطبقُ على كل بلدان العالم وعلى كل أنواع الكحول.

يتميز كل شعبٍ بتفاصيل تخص ثقافته وتقاليده وطريقة حياته، ومن هذه الشعوب يبرز الشعب الروسي بخصوصيته الساحرة والفريدة. ومثلما يمثل الأدب والفن التشكيلي، أحد الجوانب الإبداعية العظيمة لهذا الشعب، فهناك أيضاً تفاصيل مدهشة ونادرة تطغي على الحياة والتقاليد والثقافة والمعيشة عموماً، ومن بين هذه التفاصيل تسطعُ الفودكا كشيء لا يمكن تجاوزه وتغافله، هذا المشروب الساحر الذي لا يقتنع الروسي بسواه، فهو ماركته المسجلة وذائقته في تقاسم المتعة مع من يحب. وقد رأيت ذلك بنفسي وعشته ومارسته وسط الروس والأوكرانيين الطيبين أحفاد إيليا ريبين وتشيخوف وغيرهم من الشخصيات العظيمة.

هناك تفاصيل لا حصر لها، تبين هذه المتعة والعلاقة الحميمية المترابطة بين الفودكا وعامة الناس هناك، وكما يقول المثل الروسي (في كل جلسة، ستذهب لشراء الفودكا مرتين) وهذا يعني بأن المتعة ستجعل أية كمية تنفد مهما كان حجمها وستحتاج للمزيد. ووسط هذه المتعة العظيمة لا يمكن التعامل مع الفودكا وتشاركها مع الآخرين دائماً دون معرفة بعض التقاليد والمتعلقات والأصول المتبعة. فمثلاً، وإنتَ في قمة المتعة تشارك الآخرين الجلسة، وسقطت من يدك -على سبيل المثال_ قطعة من الخبز أو الأكل على الأرض، فحذار ان تستعيدها مباشرة، فللروس تقاليدهم التي تقول بأن هذه القطعة قد إحتاجها أحد معارفك المتوفين حديثاً وأرادَ إن يتقاسمها معك في هذه الجلسة، فما عليك سوى أن تتريثَ قليلاً وتتركها لحظات على الأرض، ثم تمد يدك لأخذها من جديد. كذلك يعتقد الروس في كل جلسة، من هو صاحب اليد الجيدة أو السيئة في سكب الفودكا بالأقداح، ولهذا يحبذون أن يملأ أقداحهم أشخاصاً معينين من الحاضرين الذين يظنون إنَّ أيديهم دائماً ما تكون مريحة في الدلق، وبذلك لا تحدث للموجودين آثار جانبية أو صداع في اليوم التالي للسهرة، وهؤلاء المُجَرَبين خَفيفي الأيدي، مرحب بهم أكثر لمليء الأقداح.

وفي حالة موت شخص من العائلة، فالفودكا تكون حاضرة، لكن لا يسمح للموجودين بطرق الأقداح إحتراماً للميت، بل يوضع على الطاولة قدح مليء بالفودكا ومغطى بشريحة من الخبز الأسمر، كتحية للمتوفي بإعتباره مازال حاضراً بينهم.

وفي أيامي الأولى في كييف زارني مجموعة من الأصدقاء والمعارف، لذا خرجتُ صحبة أحدهم لشراء قناني تكفي الجلسة، وقد إستغربتُ حين إشترى صديقي واحدة إضافية، لكن حيرتي تبددت بعد أن فتحها لنحتسيها معاً في طريق العودة، بعد تناوبنا بالجلوس على المصاطب الثلاث التي تفصل البيت عن المتجر، وقتها فوجئتُ بصديقي حال خروجنا من المتجر مباشرة، وهو يخرج (القدح الخفي) من حقيبته، وهذا القدح عبارة عن قرص دائري مضغوط من البلاستك، أمسَكَهُ صديقي بطريقة غريبة بأطراف أصابعه التي فتحها مثل مخلب طائر على محيط القرص، ثم نفضهُ نحو الأسفل مثل النابض، لينفتح ويتحول الى كأسٍ للشراب، وهكذا كان الكثيرون يحملون هذه الأقراص في جيوبهم وحقائبهم لضرورات اللحظة.

ومثل أي شيء له طبيعته وقوانينه الخاصة، فالفودكا لا تُخلط بالماء عادة، ويستغرب الروس أشد الإستغراب ممن يقوم بهذه الطريقة الشنيعة. ومثلما ينظرُ الإيطاليون الى كل من يشرب الكاباتشينو بعد الساعة العاشرة صباحاً كونهُ ليس إيطالياً، كذلك ينظر الروس الى كل من يمزج الفودكا بالماء كونه أجنبياً ولا ينتمي لهذه البلاد بأي شكل من الأشكال.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top