جماليات القبح ومآلاته.. في رواية (أموات بغداد) لجمال حسين علي

جماليات القبح ومآلاته.. في رواية (أموات بغداد) لجمال حسين علي

د. نادية هناوي

على الرغم من تنوع صنوف الجمال وتعدد صوره في هذا العالم المتطور والتكنولوجي، فإن لا غرابة فيما نجده فيه من قبح تتنوع صنوفه وتعدد صوره هو الآخر؛

فمن صناعة الموت والإرهاب وتلويث الأرض وتدمير الأحياء والحشرات والمتاجرة بالاعضاء البشرية إلى الإبادات الجماعية والمجاعات المستشرية والحروب البايولوجية والنزاعات العنصرية التي تحصد يوميا الاف الارواح.

وإذا كان القبح العالمي مستشريا فإن العنف رديفه وتوأمه السيامي الذي يجسده ظاهرا وباطنا. حتى لا مجال لفصلهما عن بعضهما بعضاً، وما من مزية لهذه التوأمة سوى أنها ساهمت في توحيد العالم الذي صار بمجموعه عنيفا يعج بالقبح.

والمتضرر من وراء هذا كله ليس البشر وحدهم، بل كل ما في عالمنا من كائنات حية وجوامد طبيعية وغير طبيعية. ولعل من تبعات هذه العمومية أن غدت حياتنا مرتهنة بما في دهاليز السياسات الدولية من خطط ساهمت في رواج العنف وعملت على إشاعة القبح. فعمت الفوضى وتمزقت البلدان وكثر التلوث وتوحشت الاخلاق، وصار العقل منتجا للخراب ومحرضا على اللامنطق بدل أن يكون سببا في الرقي والتقدم.

ولقد سعت أدبيات علم الجمال وطروحات ما بعد الحداثة إلى كشف ما للعقل من قبح وعنف، محذرة من التمادي في مساعيه نحو الهيمنة التي لن تفضي سوى إلى مزيد من القبح تباغضا واحترابا.

وليس متاحا للأدب أن يصور كل هذا القبح العالمي وما يرافقه من عنف إلا من زاوية جمالية تستبدل واقعا معيشا بواقع آخر ينبغي أن يعاش. فهذه هي رسالة الادب التي بها يضيق الخناق على كل ما هو قبيح.

وتعد الرواية وسيلة مهمة من وسائل تأدية الأدب لدوره الجمالي مترجمة رسالته الإنسانية في إشاعة الخير والجمال في الحياة. ولا خلاف في أن للرواية أساليبها البنائية والموضوعية التي تسمح لكاتبها أن يستجمع مختلف صور القبح في واقعنا كي يعيد صياغتها جماليا مغربلا ما هو معادي وشرير، ومرشحا ما هو طيب وجميل. وبهذا فقط يتغير وعينا الممكن بالعالم الى وعي قائم نتخيله من منظور السارد فنرى كل الزوايا ولا نركن الى زاوية نظر واحدة وبالشكل الذي يساعدنا ايضا على استشراف الآتي والتهيؤ له، أياً كان هذا الاستشراف سلبا أم ايجابا.

ولقد صارت الرواية الجنس الأدبي الأكثر مراهنة على تغيير واقعنا الدامي بآخر مسالم وعالمنا القبيح بآخر جميل وأجوائنا الملبدة بالكراهية بأخرى مشبعة بالتسامح والإنسانية.

وبسبب ذلك احتلت الرواية هرمية الأجناس السردية وصارت محط اهتمام الدوائر والمؤسسات المعنية بالسياسات الثقافية لا رغبة في تعزيز دور الأدب الرسالي، بل العكس السيطرة على هذا الدور من خلال امكانياتها الكبيرة التي تخصصها بطرائق مختلفة.

وهناك صور من القبح ثقافية ولها تبعات قد لا تخلو من عنف رمزي. وعلى الرغم من ذلك، فإن القبح الثقافي يظل محدوداً قياساً الى القبح السياسي العام الذي تسعى الرواية الواقعية الى تصوير أبعاده الخطيرة التي هي من السعة ما لا يمكن الإحاطة بنطاقاتها وحصر سوء مآلاتها كآثار وتركات.

ولعل أهم صورة من صور القبح السياسي وما يرافقه من عنف هو الإرهاب بكل صنوفه وأنواعه التي استشرت في الشرق الاوسط استشراء راح ضحيته الأبرياء. ويعد العراق البلد الاكثر تضررا بقبح الارهاب وعنفه. والدليل على ذلك قوافل الموت المجاني التي خلَّفت عشرات المقابر الجماعية. ولقد صوّرت روايات كثيرة هذا القبح وتفاوتت في مدى قدرتها على تجسيد الابعاد المأساوية باعتماد أساليب وتقانات متعددة. ونعني بالجماليات قدرة الكاتب على تجسيد الصراع الديالكيتيكي بين الخير والشر بثنائيات بها تُصنع الحياة من الموت ويُزال القبح بالجمال وتنشئ الثقة من الخوف وتغرس في الميؤوس الأمل.

وواحدة من الروايات التي رصدت قبح الارهاب وما يرافقه من صور عنيفة رواية( أموات بغداد) للكاتب جمال حسين علي والصادرة حديثا بطبعتها الاولى عن دار بصرياثا بالبصرة.

وتبدأ أحداث الرواية من داخل معهد الطب العدلي وهو يغص بجثث المغدورين وتنتهي عند آخر مقبرة من المقابر الجماعية التي ضمت رفات ضحايا أبرياء، اختلفت أسباب قتلهم وطرق دفنهم وتفاوتت أعمارهم وفئاتهم ولكنهم بالمجموع ضحايا بلا هويات أو أسماء.

أما بطلها فحفار قبور هو في الاصل بروفيسور عراقي مغترب لأكثر من ربع قرن، عاد الى البلاد يوم التاسع من ابريل 2003 باحثا عن أسرته ليكون شاهد عيان على دخول القوات الامريكية بغداد وما رافق هذا الدخول من عمليات قتل ونهب وسلب من جهة وعمليات بحث عن السجون والمعتقلات ودوائر الامن والمعسكرات السرية من جهة اخرى ستكشف للبطل حجم الفظائع البشرية التي فيها تساوى الأحياء والأموات.

ولأن العالم العراقي خبير تشريح، لذا ينخرط متطوعاً في منظمات إنسانية تنقب عن رفات الضحايا في المقابر الجماعية. والمفاجأة أنه سيُظهر قدرات خارقة يتمكن بسببها من تحديد تواريخ موت كل رفاة وأسباب الموت ولملمة ما يعود إليها من عظام أو جماجم( كانت تكفيه نظرة واحدة لأية جثة لكي يحدد سبب وفاتها) الرواية، ص277 كما كان يملك معرفة دقيقة بما تعرضت له العظام والجماجم من تعذيب وتغيير وكذلك كان يعرف أحوال الرفات ويسمع أصواتها وهي تشكو خشونة الأحياء وشفرات ما تبعثه من مناقشات حادة( الجماجم تتكلم لو عرف الاحياء الإنصات إليها. الجماجم دائما تريد حكاية قصصها الحزينة) الرواية، ص73.

وهو ما لا تستطيعه سوى الأجهزة المختبرية الدقيقة. وهذه القدرة الحدسية للبطل هي التي تجعله يرى قبح الموت إعداما وتعذيبا من زوايا إنسانية مختلفة، تدلل على مقدار العنف الذي يمارسه الأشرار بدناسة، فيواجهه الأخيار بالقداسة.

وما يجعل رواية( أموات بغداد) طليعية في تجسيد قبح العنف والموت هو أنها لم تتناوله من منظور ايديولوجي اجتماعي أو ديني أو سياسي، وإنما من منظور علمي يمتلكه السارد متخصصا بالجثث وتشريحها وما يرافق ذلك من عمليات تفسخ وانحلال. ويعد نيتشه الاب الروحي لها النوع من السرد الطليعي الذي جسّد القبح تجسيدا جماليا كوعي قائم على ادراك الانحطاط في شموليته وتصويره بسخط واستنكار.

ولا نعني بالطليعية ما قصده لوكاش( الشكلية الفارغة من المحتوى والمنفصلة عن التيار الكبير للتطور الاجتماعي الشامل) ( دراسات في الواقعية، ص144) بل نعني بها الوعي القائم إرادة واقتناعا، بهما تتم عملية إعادة توليف الواقع ومنتجته على وفق ديالكتيكية الصراع الأزلي بين الخير والشر والتي عبرها يتلاقى الأدب بالعلم ويتداخل السرد بالطب تداخلا سيساهم في تجسيد القبح الواقعي تجسيدا جماليا في الرواية موضع الرصد، أولا على مستوى المكان وأوصافه التي تجمع بين مدينة الطب التي يسميها البطل مجمع الاموات وبين النهر وروائحه وطيوره وضفافه( في سكونه اليومي مبصرا الحياة المنزلقة مع اصوات مجموعة الموتى الحديثين الذين تركهم ، مرصوصا بحزمة تاكيدات بانه كلما اقترب من النهر زادت فرصة سماع اصواتهم ولمِّ شتات افكارهم التي تصل إليه كأنها غناء جماعي لمخمورين)الرواية، ص7ـ8.

وثانيا على مستوى الشخصيات فالبطل طليعي كباحث بايولوجي عنده( الموتى مختلفون كما الاحياء في طبائعهم) الرواية، ص15 ووسائله( البوم الموتى/ بروفايل الموتى / كومبيوتر الاخرة) وثالثا على مستوى الزمان الذي هو عبارة عن رحلة اغتراب طويلة تنتهي برحلة اغتراب لا نهاية لها( رأى الموت في هذه البلاد مهينا ويذل الموتى والاحياء على السواء، فلا الاحياء يستطيعون تقديم احترامهم للميت ولا الموتى يحررون شهادة الوفاة إن كانت جثثهم مشوهة أو مفقودة أو نافقة أو مهمشة) الرواية، ص167

ورابعا على مستوى العنوانات التي صيغت على غرار كتب المتصوفة( كتاب النواطح، كتاب المدافن ، كتاب البراثن، كتاب الندوب، كتاب النواجذ، كتاب المجامر، كتاب النباهر، كتاب المنهاة) وبه تكتمل الدورة التراجيدية.

وخامسا على مستوى التصوير البانورامي والدرامي الذي فيه يُظهر الكاتب احترافا واضحا في تجسيد معلوماته العلمية الصرفة بطريقة سردية على لسان سارده الموضوعي وما استعمله من تقانات وأهمها تقانة الحوار المروي الى جانب تدخلاته مقتحما السرد مفسرا حال بطله ومستبقا ما سيواجهه من أحداث كقوله( ولانه جدير بمعرفة المستقبل كما ستعرفون حكايته كلها فقد تنبأ بما سيحصل في المدينة وسبق الجميع إلى دخولها قبل يومين فقط من تمزق التماثيل باظافر الشعب) الرواية، ص21

وسادسا في الفصل الختامي الميتاسردي( افتتان بالجميل) وفيه يكشف السارد الموضوعي عن مرجعياته وأن بطله في الحقيقة صديق( أعدُّ معرفتي به أهم انجاز منحته إياي الدنيا بتفويت الفرصة عليها هذه المرة وتقديم سيرة عطاء واحد من العراقيين الذين نادرا ما تنجبهم القرون) الرواية، ص507 . ويذكر في هذا الفصل ايضا اسماء اعلام وشخصيات حقيقية لكنه لا يذكر اسم البطل ( بناء على رغبته والتي تطلبت منا مصادقة الكثير من اساتذته واتباعه ونبش كل ما كتبوا قبله وبعده من مؤلفات ونشرات علمية كهداية لنا) الرواية، ص505 مقدما شكره لكل من ساعده من اصدقاء وزملاء في كردستان وبغداد وموسكو.

وبسبب التفاصيل التي يستغرق السارد في تتبعها تضخمت الرواية حتى بلغ عدد صفحاتها اكثر من خمسمئة صفحة، وغدت اقرب الى الادب الوثائقي لاسيما إذا علمنا أن الكاتب جمال حسين علي الذي صدرت له اول رواية عام 1983 وعنوانها( صيف في الجنوب) له سلسلة في الادب الوثائقي أرخ فيها نشاطه الصحافي في مناطق التوتر الساخنة خلال العقود الماضية.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top