اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > د. جلال الخياط.. في ذكرى رحيله غريباً ووحيداً

د. جلال الخياط.. في ذكرى رحيله غريباً ووحيداً

نشر في: 23 يناير, 2022: 10:24 م

د. علي حداد

في يوم من أيام هذا الشهر مثقلاً ببرده قدّر لأحزاننا أن تثقلنا معه ببردتها الكابية . فقبل سبع عشرة سنة غادر الدنيا إلى حيث الإقامة الأبدية الدكتور(جلال الخياط) الأستاذ الأصيل العطاء والباحث العميق الرؤى،

وهو ينوء بأعباء ثلاث وسبعين سنة قيض له في أواخرها أن يعايش نأيه عن وطنه وبيته وعائلته ، وأن يكابد في مغتربه (اللندني) آلام وحدته والمرض الذي ظل ينهش جسده حتى غيبه.

ولد الدكتور(جلال أيوب صبري الخيّاط ) في مدينة الموصل سنة 1932م. وكان والده من التربويين المعروفين في تلك المدينة ، مما وفّر لولده تنشئة طيبة وجواً ثقافيا عايشته شخصيته ، واستوعبت كثيراً من قيمه مبكراً.

وفي تلك المدينة أكمل الإبن مراحل دراسته الابتدائية والثانوية ، ليرحل بعدها إلى بغداد ملتحقاً بدار المعلمين العالية (كلية التربية) التي تخرج فيها سنة 1955م ، حاصلاً على البكالوريوس وبتقدير كان الأول فيه على كليته، ليعيّن مدرسا لمادة اللغة العربية في بعض المدارس الثانوية مدة خمس سنوات لاحقة. وفي سنة 1961م قيّض له أن يكون ضمن بعثة الطلبة التي أرسلتها وزارة التربية إلى بريطانيا ، حيث التحق بجامعة (كمبردج) الشهيرة التي أنجز فيها - بعد ثلاث سنوات - أطروحته للدكتوراه التي تخيّر لها أن تكون عن (مفهوم الحداثة في الشعر العراقي) ، وقد طبعت في سنة 1970م تحت عنوان آخر هو : (الشعر العراقي الحديث ـ مرحلة وتطور) ، فكانت أول كتبه المطبوعة.

انتسب الخياط بعد عودته إلى العراق سنة 1965م مدرساّ في قسم اللغة العربية بكلية الآداب/ جامعة بغداد التي استمر تدريسياً في مراحلها الأولية والعليا - ومحاضراً في جامعات عراقية أخرى- ومشرفا ومناقشاً لعدد كبير من الرسائل والأطاريح .

وخلال مدة تجاوزت الثلاثين سنة واصل الخياط حضوره الأكاديمي اللافت ونشاطه التأليفي المتميز في كتب تبدت فيها سمات وعي عميق المكاشفة ، ورؤى بعيدة في مقدرتها على التخيّروالفحص والتحليل ، استقرى فيها ثيمات مهمة من وقائع التراث والمعاصرة ، كما في كتبه:(الشعر العراقي الحديث، مرحلة وتطور). (التكسب بالشعر).(الشعر والزمن).(المثال والتحول في شعر المتنبي وحياته). (الأعمال الكاملة لأشعار أحمد الصافي النجفي غير المنشورة (تقديم وتحقيق) . (الأصول الدرامية في الشعر العربي). (أحمد الصافي النجفي ، عالم حر) .(المنفى ـ الملكوت ، كلمات في الشعر والنقد).(المتاهات).(الجنون في الشعر(الذي صدر بعد وفاته بعام).

بعد تلك السنوات من التجلي المعرفي الخصيب أصيب الخياط في أواخرها ـ وتحديداً عام 1997م ـ بمرض عضال أثر في قدراته البدنية . وصفه لي في رسالة بعثها لي من بغداد بتاريخ 26/3/ 1997م أيام إقامتي حينها في اليمن الشقيق يقول :» إنه يدعى بـ (وهن العضلات الجسيم) .. يؤثر في العضلات من غير انتظام، فأحيانا يصيب جهاز النطق فأخرس، وأحيانا المضغ ، فأمتنع عن الطعام والشراب، وأحدث عندي ازدواجية في النظر...وهو مرض نادر جداً «.

لم يجد الخياط في محنته تلك من يسأل عنه أو يراعاه من الجهات الثقافية والأكاديمية العراقية في ظل النظام السابق ، وهو المثقف والأستاذ الذي كان بعيدا عن هيئات النظام الثقافية وأبواقها تلك التي واجهته في أحايين كثيرة بالتجاهل ومحاولات التغييب عن المهرجانات والفعاليات التي طال ما احتضنت صغار الأدباء والكتبة. ولم يكن ليشغله هذا الأمر ، أو يأبه له، بل لقد كان ذلك مما يشعره بالرضا عن نفسه والتزامها بالقيم التي اختطها مساراً لها.

وحين جاءته الدعوة من قبل إحدى الجامعات الأردنية إلى مؤتمر أدبي عقد هناك، تحامل على ما يكابده من وطأة المرض وغادر إليها ، تاركا خلفه ما كان قد أستكان إليه من دفء العائلة الصغيرة والبيت والمكتبة ، ومكانته في قسم اللغة العربية بكلية الآداب ، ودرسه وطلابه وأصدقائه ، ليقيم في الأردن أياما معدودات ، يحصل بعدها ـ وعلى نحو لم يصدقه هو قبل غيره ـ على تأشيرة دخول إلى بريطانيا التي كان قد أقام فيها قبل أربعين عاماً طالب علم غض.

وفي لندن عاش سنواته الست الأخيرة في ظروف قاسية ، ولكنه كان يواجهها بشهامة لا حدّ لها ، فيرفض كثيرا من العروض التي تقدم له من أصدقائه ، منزوياً في غرفته الضيقة، أو راقداّ في المشافي لأكثر من مرة . وخلال ذلك كان يغافل مرضه ليشارك في بعض الفعاليات الثقافية ، وينشر مقالاته في صحف ومجلات عربية ، كتلك المقالات المتسلسلة التي نشرت له في صحيفة (الشرق الأوسط) الصادرة بلندن.

كما تهيأ له أن تستضيفه بعض القنوات الفضائية في مناسبات أدبية معينة ، وجد فيها فرصة كي يسد حاجته من الدواء ولوازم العيش الأخرى. ظهر مرة على شاشة إحدى الفضائيات العربية ، ليتحدث عن الشاعر الكبير (عبد الوهاب البياتي) في ليلة وفاته سنة1999م. وحين أشرت في أحدى رسائلي إلى ذلك أجابني برسالة وردتني من لندن بتاريخ 29/4/ 2001م.: « سررت أنك شاهدتني في التلفزيون...قبل ظهوري بأيام كسرت يدي اليمنى ولكنني وضعتها تحت الثوب. ولا أعتقد أن أحداً لاحظ ذلك. أما دوافع ظهوري ، وأنا المبتعد عن ذاك فالمناسبة، ثم أنهم يدفعون أجوراً . وفعلا دفعوا لي سبعين باوناً كانت أيام الإفلاس ـ آنذاك ثروة « .

على تلك الوتيرة من الظنك والأسى والوحدة وآلامه الممضة عاش (جلال الخياط) سنواته الأخيرة .حتى سنة 2004م التي اشتد عليه المرض فيها ، ولم يكن لجسمه المنهك أن يغالبه، فرحل عن عالمنا الأرضي أوائل العام اللاحق، ليدفن هناك في مقبرة بغرب لندن .

* * * *

ياسيدي :

انثر على بددي حديثك طازجاً

قل مازحاً : لندن معي في كل يوم

تستعيد شبابها ، وأنا أشيخ

قل ساخراً: الناس في هذي البلاد

يدهم على غدهم،

وأيدينا مهومة على الماضي البعيد

أو قل حزيناً : كلما أمعنت في الرؤيا

تساقط غيمها وجعاً يباغتني ، فأصحو

أو قل على محض التذكر:

ـ من هاهنا مرّت خطى السيّاب

مثقلة الوجيب

وها هنا خطت يداه : لوجئت في البلد الغريب...

ياسيدي قل ما تشاء

خذني وصوتك للمزيد ... وللمزيد

فكله حلو حديث ، شائق المعنى

ومكتنز الدلالة

قله ، وضعه على قصاصة بسمة جذلى

واذهب لكي ترتاح في قبر قصيّ

لن يجف ترابه

واترك يداً من هاطل الذكرى تجئ

لتطرد الحزن المقيم على لساني

والغبار المرّ يسكن في بريدي

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض اربيل

مقالات ذات صلة

16-04-2024

التّجديدات مابعد الحداثيّة

لطفية الدليميأحدثت الطاقة الجديدة لرواية (الكومنولث Commonwealth) مفارقة صارخة مع ماكان يُوصف بلحظة (النضوب الأدبي)؛ ففي دول الكومنولث بدأ الكُتّاب يوظفون تجاربهم ويعتمدونها مصدراً لأشكال إبتكارية جديدة من الكتابة - الكتابة التي ستعمل في المقابل على تدعيم التغير الثقافي المطلوب في الوقت الذي واجه فيه الكُتاب خارج منطقة الكومنولث إحساساً عميقاً باللاجدوى وإستنفاد الغرض من […]
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram