باليت المدى: بين الحقيقة والخيال

ستار كاووش 2022/02/27 11:15:45 م

باليت المدى: بين الحقيقة والخيال

 ستار كاووش

فاجئني صديق بقوله (مسكين هو الرسام مودلياني، لقد حاربه بيكاسو الذي كان يغار منه ويحقد عليه) ثم توقفَ لحظات، ليكمل بعدها حديثه بطريقةِ الواثق (نعم كان بيكاسو يشعر بغيرة غير معقولة من مودلياني،

لأن هذا الأخير كان أفضل منه فنياً، وقد مات مودلياني بسبب ضغوطات بيكاسو وأحقاده) ثم إنفتحَ بكلامهِ مكملاً (ولا تنسى إن مودلياني قد فازَ على بيكاسو في مسابقة بالرسم، بعدَ أن رسمَ كل منهما لوحة، لكن مودلياني لم يتمتع بذلك الفوز لأنه توفي قبل وصوله الى المكان الذي عرضت فيه اللوحتان). هل أنتَ متأكداً من هذا الكلام؟ هكذا سألته، من أين أتيت بهذه المعلومات التي تبدو لك حقيقية لا جدال فيها؟ هل تعرف ياصديقي بأنك لا تتكلم عن مودلياني نهائياً، بل تتكلم عن الممثل أندي غارسيا الذي مثل دور مودلياني في أحد الأفلام؟ أنتَ تحدثني الآن عن فيلم من صناعة مخرج وكاتب سيناريو ومصور ومنتج وغيرهم، وهذا ليس له تطابق حقيقي مع حياة مودلياني سوى ببعض القشور البسيطة! وهنا إنتفضَ الصديق قائلاً (حتى لو كان فيلماً، فأحداثه حقيقية بالتأكيد) عندها لم أستطع إكمال الحديث والحوار مع شخص لا يفرق بين شخصية سينمائية وشخصية موجودة فعلاً، لا يفرق بين فن السينما وفن الرسم! وكإن الشخصيات التي نراها في الأفلام تتطابق كلها مع الحياة الواقعية للأشخاص! الحقيقة ان الفيلم الذي قُدم حول حياة مودلياني فيه أشياء بسيطة متطابقة مع حياة هذا الرسام، والبقية كلها ضرورات سينمائية لها علاقة بالتشويق وصناعة فيلم يجذب الجمهور. فهل من المعقول مثلاً أن يستخدم بيكاسو مسدساً، كما رأينا في الفيلم؟

عندَ المقارنة الحقيقية بين هذين الفنانين، يمكننا القول بوضوح إن مودلياني فنان رائع وفريد، ولديه حساسية عالية في صناعة لوحة فيها تبسيط عالي وتعبير كبير، وإنحصرت كل أعماله تقريباً بهيئة بورتريهات لأصدقائه ومعارفه وحبيبته طبعاً، وكانت شخصيته ذات ميول إستعراضية في مونمارتر، وكان مدمناً على الكحول وبعض المواد المخدرة، ومصاباً بمرض السل الذي لم يمهله طويلاً وتوفي في السادسة والثلاثين من عمره. وبالمقابل يعتبر بيكاسو أعظم فنان أنجبته البشرية في كل تاريخ الرسم. كان يحمل طموح لا تحده حدود، وفي ذهنه مشروع فني كبير، وتفرغ فقط لفنه دون الانشغال بتفاصيل أخرى كما يفعل الكثير من الفنانين، وبدأ في العشرين من عمره برسم لوحات المرحلة الزرقاء، وفي الثالثة والعشرين من عمره إنتقلَ الى المرحلة الوردية، وفي عمر السادسة والعشرين إبتكر المدرسة التكعيبية التي غيرت تاريخ الرسم الى الأبد، وهكذا ظلَّ يرسم لمدة خمس وسبعين سنة كفنان محترف، وحتى آخر يوم في حياته حيث توفي في الثانية والتسعين من العمر. ويعرف مؤرخي الفن إن المقارنة بين الإثنين غير ممكنة، لأن ذلك يشبه مقارنة محيط واسع ببحيرة صغيرة، ربما تكون البحيرة لطيفة وجميلة وممتعة، لكن المحيط جبار ومؤثر وعظيم. غريب أن ينساق البعض نحو خيال مخرجي السينما وكاتبي السيناريوهات، ليعلنوا بأن ذلك هو الحقيقة. وهل هناك حقيقة مطلقة في السينما؟ السينما خيال كبير فيه شيء بسيط من الواقع (ماعدا إستثناءات قليلة)، وبغيرِ هذا لا تكون سينما أبداً.

والأمر يشبه الكاتبة الأمريكية تريسي شيفالييه التي كتبت سنة ١٩٩٨ رواية متخيلة بعنوان (الفتاة صاحبة قرط اللؤلؤ) تتحدث فيها عن حياة الرسام فيرمير ولوحته الشهيرة، وقد جَعَلَتْ الكاتبة هذه الفتاة خادمة في بيت الرسام (الكتاب تُرجم الى الهولندية سنة ٢٠٠١ ولدي نسخة منه) وجاء المخرج بيتر ويبر ليصنع فيلماً إعتماداً على هذا الكتاب، وقد مثَّلَ الممثل كولين فيرث دور فيرمير، ومثلت الممثلة سكارليت جوهانسون دور الفتاة صاحبة القرط (وهنا يمكن ذكرها كخادمة عند الحديث عن الفيلم فقط، أو لغرض يتعلق بأحداث الكتاب) لكن أن يُصَدِّقَ الكثيرون ممن شاهدوا الفيلم أن هذه الفتاة التي في اللوحة كانت خادمة في الحقيقة، ويدافعون عن هذا الرأي دون تمحيص أو مراجعة فهذا غريب، علماً ان المتخصصين في أعمال فيرمير في هولندا والذين يعرفون كل تفاصيل حياته تقريباً، أشاروا الى إن هذه الفتاة التي رسمها الفنان العظيم، غير موجودة أصلاً، فتاة ليس لها وجود في حياة الرسام ولا في الحياة، بل هي على الأرجح من صنع خيال الرسام الذي رسمها وصارت أسطورة.

وهكذا يدافع البعض عن الخادمة التي لا وجود لها سوى في خيال مخرج الفيلم والكاتبة الخيالية، وكإنَّ وجود الممثلة جوهانسون في الحياة هو مبرر كافٍ لوجود تلك الخادمة أيضاً. من ينادي بأفكار غير دقيقة كهذه، لا يختلف عن هؤلاء الذين يصرحون بتعجب عن كيفية دخول بيكاسو لأحد المطاعم، وبدلاً من دفع ثمن الطعام بعد انتهاءه من الأكل، قام برسمِ عُملة ورقية على الطبق الفارغ وخرج من المطعم دون دفع الحساب، بعد أن ظن النادل إن العملة حقيقية. كذلك الحكاية التي يتداولها الكثيرون حول لوحة الطفل الباكي، واللعنة التي أصابت الرسام الذي رسمه. وهكذا تتغير الحكايات وتتبدل في كل مرة القصص، لتعود الينا من جديد بشكل آخر مع لوحات جديدة.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top