الكاهنة.. ملكة الامازيغ

الكاهنة.. ملكة الامازيغ

د. حسين الهنداوي

الملكة ديهيا Dihya، “ملكة تامازغا” او تامازيا (بلاد الامازيغ) والتي سميت بـ”الكاهنة” من قبل خصومها، هي شخصية نسائية تاريخية خالدة في تاريخ الشعب الأمازيغي (البربر).

ففي القرن السابع الميلادي، قادت الملكة ديهيا مقاومة القبائل الامازيغية ضد الغزو الروماني البيزنطي لبلدها، وبسطت سلطتها القوية على منطقة واسعة في شمال أفريقيا، قبل ان تتصدى للفاتحين العرب الامويين الذين لقبوها بـ”الكاهنة” لدهائها وحكمتها لاسيما بعد ان انتصرت عليهم في معركة نهر نيني (باغاي) (في ولاية خنشلة الجزائرية حاليا). الا انهم سرعان ما قضوا عليها عسكريا في هجوم مضاد بقيادة حسان بن النعمان الغساني، الذي الحق بها الهزيمة في معركة اسموها «بئر الكاهنة». بيد ان هذه الزعيمة الامازيغية ظلت حيّة في ذاكرة قومها وفي العديد من الأساطير الشعبية كما تطورت منظورات المؤرخين العرب باتجاه إعادة تقييم مكانتها تعبيرا عما انطوت عليه شخصيتها وشجاعتها من رسالة عالمية للمقاومة والسلام والتسامح، رغم الاختلاف بشأن واقع حياتها.

هذا هو بكلمات معدودة موضوع هذا الكتاب الجديد الصادر بالفرنسية مؤخرا عن (منشورات اورينت Orients editions)، وهو من تأليف أوريليان سيمون ورسوم الفنان التونسي إلياس المسعودي.

ففي هذا الكتاب المهم، حرص المؤلف على تأسيس روايته على نصوص اصلية عدد من ابرز المؤرخين ومنهم المؤرخ الفرنسي المتخصص بتاريخ بربر شمال افريقيا غابرييل كامبس والمؤرخ التونسي محمد الطالبي، موظفا إمكاناته البحثية وهو يحمل شهادة في الفنون من جامعة السوربون الجديدة، وكاتب في الموسيقى والسينما والفن المعاصر ومشارك في كتابة دراسة الفنان التشكيلي التونسي سليمان الكامل المنشورة في عام 2022.

من جانبه سعى الفنان التونسي إلياس المسعودي الى تجسيد الرواية عبر لوحات مستلهمة من حضارة الأجداد. فبعد سلسلته التصويرية عن «ليالي شهرزاد» ورسوماته التوضيحية لحب عنتر وعبلة، يستخدم إلياس المسعودي تقنية الرسم تحت الزجاج لتشكيل ملامح وجه الكاهنة واطاره الخاص.

وتختلف التصورات التاريخية حول هذه الملكة الامازيغية التي يروى انها عاشت بين عامي 585 و712 م وحكمت البربر وشمال أفريقيا نحو 35 سنة خلفا للملك الامازيغي كسيلة وان عاصمة مملكتها كانت مدينة ماسكولا (خنشلة حاليا) في الأوراس. كما يروى انها قادت عدة حملات ومعارك ضد الرومان والبيزنطينيين والامويين العرب أواخر القرن السادس ميلادي. وقد ورد ذكرها عند العديد من المؤرخين العرب المسلمين رغم اختلاف ديانتها كزعيمة شجاعة، تمكنت من أستعادة معظم أراضي مملكتها بعد أن هزمت الرومان والبيزنطينيين وتمكنت من توحيد أهم القبائل البربرية حولها ضد زحف جيوش العرب الفاتحين لتهزم جيش القائد حسان بن النعمان عام 693 م وظلت تطارد قواته إلى أن أخرجتها من تونس الحالية وطرابلس إلى منطقة سرت وبرقة لتحكم المغرب كله لخمس سنين قبل ان يرسل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان جيشا نجح في القضاء عليها نهائيا.

ولقد تطورت صورة الكاهنة في المصادر التاريخية العربية بشكل مهم خلال المراحل المختلفة حتى الوقت الراهن، منتقلة من الاجماع الأول على فكرة شيطنة الكاهنة (بالقول انها كانت تعبد صنما من خشب، وتنقله على جمل، وقبل كل معركة تبخّره وترقص حوله فسماها العرب الكاهنة)، وجعلها بمثابة العائق الرئيسي امام تقدم المسلمين سريعا في فتح شمال افريقيا لدورها الحاسم والاساسي في تنظيم وقيادة أعنف مقاومة ضد سعيهم الامويين لضم بلاد المغرب الى دار الإسلام خلال النصف الثاني من القرن الأول للهجرة، الى النظر اليها اكثر فاكثر كشخصية قيادية وكزعيم وطني او قومي (امازيغي) من الطراز الأول على أساس انها لم تكن ضد الإسلام انما ارادت ان تدافع عن استقلال بلدها وكرامة شعبها المهددين من القوات الأجنبية الزاحفة عليه. وهكذا فقد تبدلت صورتها في الوعي الشعبي بين فترة واخرى، اذ تحولت من النقيض إلى ضده في أحيان كثيرة مع ظاهرة تضخّم وتحديث وانسنة مضامين الروايات المتصلة بهذه الشخصية إلى حد تداخل الوقائع التاريخية والسياسية مع التعبيرات الخيالية والأسطورية.

وكما يشير المؤرخ التونسي محيي الدين لاغة في دراسة مهمة بعنوان “تداخل الشفوي والمكتوب في تاريخ المغرب الإسلامي: الكاهنة أنموذجا”، يرقى أقدم ما نعرفه عن الكاهنة إلى المؤرخ الواقدي (المتوفي في ٨٢٢م) وذلك من خلال رواية مختَصرة أوردها البلاذري ثم ابن الأثير؛ وفيها شدد الواقدي على دورها الشرير في إعاقة انتشار الإسلام في المغرب ما اقتضى قتلها. هذه النظرة ستتطور مع مرور الوقت لتوصف الكاهنة بـ “ملكة البربر” بما يعني اعترافا واضحا بشرعية سلطتها السابقة رغم مقاومتها انتشار الدين الجديد في مناطقها، تلاه ابراز بعض مواقفها الإيجابية ومنها قيامها بأطلاق سراح معظم أسرى المسلمين وتبنيها لاحد العرب المسلمين وقبولها بأن يكون لأحد ابنائها شأن عظيم عند العرب، كما تم انسنة صورة الكاهنة “إذْ بدتْ حليمة وعطوفة” وأكثر واقعية في التعامل مع الأحداث عندما قررتْ، كما تروي بعض المصادر، طلب الأمان لأبنائها وبالتالي قومها في خطوة تشبه قبول الأمر الواقع الإسلامي الجديد بالمغرب وبداية الاستقرار الفعلي لإفريقيا عامة.

بعدئذ تضخم التعاطف الضمني مع “الكاهنة” لدى بعض المؤرخين العرب من دول المغرب العربي لتصبح “أعظم ملوك إفريقية” بل بدتْ من خلال معاركها قائدة عسكرية محنكةً عارفة بجغرافية المنطقة ومتحفزةً لمواجهة مناورات خصمها لقهرهم. وترد في نفس الروايات تفْصيلات عن أعمال مهمة قامتْ بها الكاهنة قُبيل نهايتها كالتركيز على تصويرها كحاكم عادل وانها كانت حريصة على القيام على افضل وجه بما استؤمنت عليه من مهمة الدفاع عن كرامة قومها من البربر.

فخلال الفترة المتأخرة من العصر الوسيط: تُثبتُ مصادر هذه الفترة أن صورة الكاهنة تشعبت خصالها وتعزز نسبها الى قبيلة جراوة من زناتة كما تم اثرائها بتفصيلات لم ترد سابقا، ويبدو ذلك جليا من خلال ما ورد عنها في كتابات المؤرخ الكبير عبد الرحمن ابن خلدون المتوفي في ١٤٠٦م. فقد تباينتْ رواية ابن خلدون عن المصادر السابقة في خصوص مدى سلطتها مثلا أنها شملتْ سائر مناطق البربر وأن نفوذ الكاهنة تجاوز قبيلتها ليشمل قبائل أخرى. وتلتقي رواية ابن خلدون مع روايات سابقة اشارت الى أن هزيمة الكاهنة مثلت لحظة تاريخية مهدت لظهور فولادة مفهوم بلاد المغرب وبداية انخراط البربر في الدولة العربية الإسلامية في شمال افريقيا والاندلس.

ويذكر ابن خلدون في الجزء السابع من كتابه «العبر وديوان المبتدأ والخبر» ان «الخبر في الكاهنة وقومها جراوة من زناتة وشأنهم مع المسلمين عند الفتح: كانت هذه الأمة (جراوة) من البربر بأفريقية والمغرب في قوة وكثرة وعديد وجموع، وكانوا يعطون الإفرنجة بأمصارهم طاعة معروفة وملك الضواحي كلها لهم.» او القول انه «وكان للكاهنة ابنان قد لحقا بحسان بن النعمان وحسن إسلامهما واستقامت طاعتهما، وعقد لهما على قومهما جراوة ومن انضوى إليهم بجبل أوراس».

ومن المهم الإشارة أيضا إلى أن الرواية المغربية المتأخرة اعتمدت عموما على محتوى رواية ابن خلدون واخذت منها معظم جزئياتها؛ وهذا يبدو جليا من خلال المعلومات الواردة في المصادر التاريخية ولا سيما تلك المتصلة بشخصية الكاهنة. وهناك اتفاق بين كل الباحثين الذين درسوا هذه المسألة بالذات على أن الوقائع التاريخية فيها امتزجتْ بشكل كبير بمواد قصصية وربما خيالية أسطورية على الأرجح ما يؤكد استمرار الابتعاد عن الروايات التاريخية الأصلية نظرا الى صعوبة الفصل في مصادر التاريخ العربي الإسلامي بين ما يرد كخبر تاريخي أصلي صيغ لنقل حيثيات الحدث في حد ذاته وبين ما أنضاف إليه من زيادات قد تكون نتاجا للمخيال الشعبي في مراحل لاحقة.

التطور الاحدث في صورة الكاهنة كقائد قومي مرتبط بمرحلة تاريخية من عمر دول المغرب نجده في الدراسات المتأخرة ومنها خاصة كتاب «تأسيس الغرب الإسلامي» للمؤرخ التونسي هشام جعيط اذي يرى أن آمال البربر كانت قد تجسدت آنذاك في الكاهنة، إذ كانوا في حالة غليان، وقاموا بانتفاضة كبيرة لمواجهة التهديد العربي الذي تزعمه القائد حسن بن النعمان وأن الكاهنة فرضت نفسها عبر خصالها التنبؤية وكفاءتها في القيادة، مستنتجا ان «ما يبدو لنا جديرا أكثر الاهتمام هو هذه المقاومة البربرية، الفوضوية والبطولية وهي دفاع بسيط عن الحياة والحرية، وهذا أهمّ ما يتشبث به الإنسان لمواجهة شناعة منطق حرب التوسع. ولكن سيمحى سريعا طابع النفي والمأساوية لنفس هذا التوسّع أمام وعوده وإنجازاته التي كان من أهمّها قطعا ولادة بلاد المغرب في التاريخ والحضارة عن طريق الإسلام».

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top