مرساة: مدوّنُ بغداد

حيدر المحسن 2022/06/28 11:15:59 م

مرساة: مدوّنُ بغداد

 حيدر المحسن

قرأتُ له قبل شهور قصيدة حُبّ في صحيفة، وقصدتُ مباشرة شارع الكتب في بغداد القديمة أسأل عنه وعن كتبه. لكنه يكتب الشعر بطريقة مغايرة، وتستطيع أن تخمّن أنه لا يعيش بيننا في الحاضر، ولا في الماضي القريب.

إن تقاليد القصيدة التي غذّاها شعراء أمريكا اللاتينية مبذولة في شعره، بابلو نيرودا تحديدا؛ الوضوح الساطع الذي يعشي البصر لا البصيرة، إضافة إلى الحسّ الغريب بموسيقى الحرف ومعناه الذي يبدو عاديا وسطحيا وعاميا، لكنه يحمل في جوهره طوايا على القارئ سبرَ غورها بسبب التّعقيد الذي تحتويه. إن العِشرة الطويلة مع الشعر، مترجما على الأغلب، أو بلغته الحيّة، بالإضافة إلى الخبرة الواسعة مع السرد، قراءة وتأليفا، تؤديان بالشاعر إلى ابتكار موسيقى خاصّة به، وما الشعر في نهاية الأمر إلا ألحانا يؤديها كل من أغوته أفانين الشعر، وحاول أن يؤدّيها. ثم عرفت بعد سؤال أكثر من كتبيّ في شارع المتنبي أن دواوين الشاعر نادرة هنا، أو مفقودة، لأنه غادر البلاد منذ نصف قرن.

إن تذوّق عمل فني معيّن يستدعي عدة ثقافية مناسبة. وتبدو قصيدة جبار ياسين سهلة عند القراءة، لكنك تقع حين تنتهي منها في بحيرة من صمت يصيبك بالذّهول، وتلي هذا مباشرة خطفة تسمع فيها صدى الشّعر الذي قرأته، وهو يشبه معزوفة ناي شجية، فإن طال النّغم فتح في القلب آفاقا بعيدة سوف تنتعش لأنها ترى النّور أوّل مرّة.

«يوما، في البعيد من الزّمان/ ظلّ حوتٌ طريقَهُ/ كان يمخرُ في دجلةَ وصولا لبغداد/ لم يمضِ أكثرَ من هذا/ توقف في وسط النّهر أياما/ ثم مات»

لا يهمّ جبار ياسين نقل الخبر لأنه ليس راوية، ويضع جهده في المقابل في موسيقى الشعر، وإيقاع سطوره -أبياته- وكيف يبدأ الواحد منها، وينتهي، أو يتصل وينقطع. الحوت في هذا المقطع لا يمثّل نفسه، وكذلك النهر، وأدّى كلّ منهما دور نغم مستقلّ في عزف تشترك فيه آلات موسيقية عديدة، ويخرج المتلقّي للحدث المذكور -مجيء الحوت إلى نهر دجلة وموته- بصوت الصّورة الشعرية، وليس بخطوطها وألوانها، وتغدو القراءة محاولة للدخول إلى صوت القصيدة، والتلبّث فيه، ويمضي القارئ في طريقه هذا ثابتا إلى النّهاية.

قد يكون الأمر تشابه مزاج بين الشّاعر والنّقد، لكنّ الإيقاع المنضبط والبناء القويّ المشدود إلى القصيدة، بالإضافة إلى الصورة الصوتية لها، يجعل الأمر يتعدّى الهوى في الطباع القرائيّة والذوق. فرش جبار حسين خارطة مدينته على صفحات مجموعته الشعرية ذات العنوان الغريب “بغداد \ تحت شجرة الدردار”، والصادرة عن الاتحاد العام لأدباء العراق عام 2021، فجاءت القصائد تحمل عناوين أحياء بغداد وشوارعها وساحاتها، «الصالحية»، و”كرادة مريم”، و”الوزيرية”... واختار أن يدوّن عن كل مكان ما استطاعت عدسة الشعر التقاطه، وأعطى لكلّ تدوينة صوتا خاصّا لا يثير انطباعا مهما لدى المهتمين بالسّياسة والاجتماع والتّاريخ، لكنّ المحصلة التي تجتمع لدى القارئ تعوّضه عن دراسة دزينة من المراجع في فروع المعرفة.

من قصيدة تحمل عنوان “كرادة مريم”:

«شريطٌ طويلٌ بين مَطلعي جسرينِ \ في بدايته بيوتٌ تطلّ على الشّريعة \ كان بيت نوري السّعيد إحداها \ وبيتُ أنور الأوقاتي \ بيتُ سعدون الحسّاني \ بيتُ حامد قاسم \ ومسنّاية بيتِ الشابندر \ بيوتٌ وبيوتٌ...».

لا يسرد الشّاعر لنا حكاية، ولا يقول ما يُطربُ، كما أنه لا يبغي إثارة انفعال معيّن. هو شِعرٌ (أعمى) من كلّ ما تقدّم، إن صحّ التّعبير، لكنّ الغريب في الأمر أن القارئ يبلغه السّرد والغناء والتوتّر العاطفي دون أن يقصد الشّاعر إليه، وهذا أحد أسرار الشّعر الحديث، حيث ينقل الشاعر بواسطة الإحساس والإيقاع سيرة كاملة لعاطفة غامضة ومضمرة إلى حدّ يشبه العدم، ويمثّل اكتشافها من قبل القارئ خبرة جديدة يكتسبها، وتضيء له جانبا مظلما في نفسه، كي يتفهمها، ويفهم الحياة. يا لنعمة الفهم!

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top