العيش في  مُفاعِل  ترجمي .. استكشافاتٌ ومساءلات ترجمية

العيش في مُفاعِل ترجمي .. استكشافاتٌ ومساءلات ترجمية

لطفية الدليمي

قرأتُ قبل بضعة شهور مادة فيسبوكية كتبها الصديق (إبراهيم البهرزي)، جاءت في صيغة سؤال جوهري:

كيف نثق في الترجمة؟ الحقُّ أنّ البهرزي أجاد في طرح الكثير من الأسئلة الأساسية المقترنة بالترجمة في عالمنا العربي والعالم معاً ؛ وفي الوقت ذاته طرح الكثير من الأسئلة الاشكالية الخاصة بجوهر العملية الترجمية وفقاً لرؤية من خارج المشغل الترجمي. كان الرجل نزيهاً إلى حدود بعيدة عندما كتب أنه يخشى ولوج المشغل الترجمي ويتهيّبه. المثير أنّ كثرة من التعليقات الفيسبوكية تقاربت مع أطروحة الرجل، وكان عنوانها الجامع هو النظر في أمر الفعالية الترجمية من خارج قلب « المفاعل « الترجمي. تقول أمثولة شائعة أنّ « من يرى ليس كمن يسمع « ؛ لذا فإنّ من يتحدّثُ عن العملية الترجمية - بكلّ حيثياتها المشتبكة – من داخل المشغل الترجمي ليس كمن يتحدّثُ حديثاً عاماً مطلقاً على عواهنه من غير مسؤولية اعتبارية أو مرجعيات عمل حاكمة.

أبدأ أولاً بموضوعة الدافعية: ماالذي يدفعُ المرء للانغماس في منشط ترجمي محدّد؟ أنا أرى الترجمة فعلاً ينطوي على الكرم. أساس خياراتي الترجمية هو شعوري بأنّ عملاً ما قرأته تختبئ في تضاعيفه أهمية كبرى أعظم من أن أختصّها لنفسي، وأنّ المروءة تقتضي أن يشاركني القارئ متعة استكشاف هذه الاهمية. الترجمة جوهر أخلاقياتي ينبع من كرم الروح، وحول هذه الخصيصة الجوهرية تتعزز ميزات أخرى مثل الرغبة في تعزيز الروابط الثقافية العالمية وإشاعة نمط من الانفتاح الفكري على « الآخر «.

أما التفاصيل الفنية والاجرائية المرتبطة بفعالية الترجمة فكثيرة. الفعالية الترجمية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً وثيقاً مع اللغة التي نترجم منها (اللغة الأصل) وإليها (اللغة الهدف). اللغة هيكل إطاري يشكّل قاعدة لرؤيتنا المميزة للعالم: العربي مثلاً يرى العالم بطريقة تتمايز عن رؤية الانكليزي أو الفرنسي أو الألماني أو الياباني أو الصيني،،،. اللغة بهذا المفهوم حاملٌ لهذه الرؤية، وكلّ لغة جديدة نتعلّمها هي إعادة تشكيل رؤيتنا للعالم بسبب إعادة تشكيل أدمغتنا على المستوى البيولوجي الدقيق. وفقاً لهذا السياق ثمة إختلافات أساسية لايمكن إختزالها بين طرق التعبير عن فكرة واحدة في سياقات لغوية مختلفة ؛ وعلى هذا الأساس يجب أن نقبل بوجود إختلافات حتمية بين النصوص المترجمة. لاأحبّ الحديث عن (الخيانة الحتمية في فعل الترجمة) ؛ فهو ليس أكثر من تعبير درامي عن حقيقة أساسية، وبخلاف هذا الحديث لابأس من التأكيد على البديهيات التالية:

- البديهية الاولى: الترجمة تفاوض بين لغتين (كما يعبّر أومبرتو إيكو)، تتنازل فيه كلّ لغة عن شيء من كيانها التعبيري.

- البديهية الثانية: كلّ إنسان له لغته الوجدانية الخاصة التي لاتشبه أية لغة لإنسان غيره.

- البديهية الثالثة: الانسان الذي لايعرف سوى لغة واحدة يجهل حتى لغته الأم لأنه يفتقد المرجعيات التي يقارن بها – ومن خلالها – ثراء السياقات النحوية والدلالية غير التقليدية للغته الأم. هذا مايراه غوته.

- البديهية الرابعة: كل نصّ مترجَم هو نصٌّ موازٍ للنص الأصلي. فكرة المطابقة الترجمية وهمٌ خالص لأسباب جوهرية لاعلاقة لها بمدى إحترافية المترجم.

- البديهية الخامسة: كلّ نصّ مترجَمٍ يحملُ بصمة المؤلف والمترجِم معاً. لايمكن فكّ الاشتباك بين أي نصّ مترجَمٍ ومترجمه.

لايمكن الحديث جدياً عن الترجمة في غياب القراءة التأصيلية للفعل الترجمي وارتباطه بالهياكل النحوية syntactic والدلالية semantic للغة. أرى أنّ عالم اللغويات والانثروبولوجيا الثقافية جورج شتاينر هو أفضل من تناول هذه الموضوعات في كتابه (بعد بابل: جوانب من اللغة والترجمة)

After Babel: Aspects of Language and Translation

المنشور في طبعته الأولى عام 1975 (وهو غيرُ مترجمٍ إلى العربية). أما الجوانب التقنية في الترجمة فيمكن الرجوع فيها لمراجع عدّة، منها كتاب (فن الترجمة) للدكتور محمد عناني، وكتاب (عن الترجمة) للفيلسوف الراحل بول ريكور، وكتابان للدكتور الراحل صفاء خلوصي، أحدهما بعنوان (الترجمة التحليلية) والآخر عنوانه (الترجمة في ضوء الدراسات المقارنة).

سأتناولُ في الفقرات المحدّدة التالية تفاصيل مقترنة بالعمل الترجمي أحسبُ أنّ كل مشتغل بالترجمة لابدّ إختبرها في عمله ؛ لكن لابأس من الاشارة قبل هذا إلى أنّ الترجمة فعالية عقلية مرتبطة باللغة. لاأريد هنا ترديد العبارة المكرورة من أنّ كلّ مترجم متمكّن من أدواته الترجمية لابدّ أن يكون ممسكاً بقياد كلّ من اللغة التي يترجمُ منها وإليها. لن ينفع الامساك بواحدة منهما فحسب. هذه بديهية نتفق عليها ولاضرورة لتكرارها.

أتناول قبل كل شيء مسألة الثقة في المادة المترجمة. كيف السبيل إلى ذلك؟ سأقدّمُ جوابيْن لهذا السؤال: الأول عام يمكن أن نجد نظيراً له عندما يسأل أحدنا: كيف تثق بطبيب أسنانك؟ أو كيف تثق بأستاذك الجامعي؟ أو كيف تثق بأحد الباعة؟ نتداولُ كثيراً مثلاً يقول (التجربة أعظم برهان). جرّب وقدّرْ نتيجة تجربتك. لاأحسبُ أنّ من يغشّ أو يكذب يمكن أن يستمرئ اللعبة إلى مدى لانهائي. لابدّ أن تتكشف لعبته المعيبة في نهاية المطاف. سيقولُ بعضنا أنّ لكلّ مهنة أخلاقياتها وقوانينها الحاكمة ؛ لكنّ هذا لايكفي. الضمير الحي والنزاهة الشخصية خصائص ثمينة هي الفيصل النهائي في كلّ ممارسة بشرية. على هذا الأساس يمكن أن تقرأ نصوصاً مترجمة جرى تزكيتها من قبل كثرة من القرّاء ؛ لكنّ التزكية وحدها لاتكفي: لابدّ من معيار شخصي. هنا ننتقلُ إلى الجواب الثاني لسؤال: كيف نثق في الترجمة؟ وهذا الجواب ذو معيار إجرائي. جرّب أن تأخذ نصاً مترجماً وحاول مقارنته مع مرجعه الأصلي، وربما الأفضل (والأكثر سهولة) هو مقارنة مقالة مترجمة لمترجم ما مع نصها الأصلي. قلّب الترجمة من جميع جوانبها ودقّق في السياق الذي إعتمده المترجم وكيفية هيكلته للعبارة المترجمة. أدرُس السياق النحوي والدلالي للعبارة المترجمة ولاحظ مدى تصاديه مع روح العبارة الأصلية. لابدّ أن تبذل جهداً لكي تتأكّد من مصداقية ونزاهة عمل أي مترجم وإلا فليس من سبيل سوى الثقة المزكّاة من قبل أغلبية القرّاء والمتخصصين. سيكون من قبيل البداهة القولُ أنّ هذه المقاربة الإجرائية تتطلب معرفة مقبولة باللغة الأصل التي يترجم منها المترجم الذي يُرادُ التأكّد من دقّة عمله.

تستدعي هذه الرؤية في الترجمة مساءلة واستكشاف بعض الموضوعات المتأصّلة بكلّ مشغل ترجمي حقيقي. هاكُمْ بعضاً من هذه المساءلات والاستكشافات:

1. خصوصية الترجمة الأدبية واختلافها عن سائر الترجمات: هذه حقيقة مؤكدة ليس من يختلف عليها. الترجمة الأدبية أكثر تعقيداً من الترجمات في سائر الموضوعات الأخرى ؛ لذا تتطلبُ جهداً ومصابرة ومكابدة ومقدرة. السبب واضح: الأدب – كإشتغال بشري – أكثر توظيفاً للقيمة الدلالية من القيم الأخرى بالمقارنة مع سائر الموضوعات. من المتوقّع أن تقود هذه الحقيقة إلى تخصّص بعض المترجمين بالترجمات الأدبية دون سواها ؛ لكن يجب الاشارة إلى أنّ الاشارة التقنية هنا تعنى بالنصوص الأدبية (الشعر تحديداً ثم النصوص الأدبية الأخرى) وليس الدراسات الأدبية التي تنتمي لقطاع الأعمال الفكرية والثقافية العامة. ليس كلّ الأدب شكسبير أو جويس أو فوكنر في نهاية المطاف.

2. موضوعة ضرورة المعايشة الجغرافية: هذه أخدوعة يريدُ بعضُ المتكاسلين إشاعتها بقصد كسر شوكة المترجمين الواعدين. حجّة هؤلاء أنّ بعض الاعمال – وبخاصة الأدبية – تعتمدُ مفردات لايدرك دلالاتها المكشوفة والمبطّنة سوى من تمرّس في العيش بالنطاقات الجغرافية التي تسود فيها تلك المفردات. هذا صحيح كمبدأ ؛ لكن كم حجمُ الاعمال التي تلعب فيها هذه المفردات الشاذة دوراً مؤثراً؟ ثمّ لماذا نفترضُ أنّ المترجم آلة روبوتية ستعبرُ تلك المفردات من غير دراسة مرجعياتها المحلية، والمراجع في هذا الشأن كثيرة. المترجم النزيه لن يعبر شيئاً مالم يتأكد من خلفيته الجغرافية والثقافية.

3. مسألة الترجمة عن لغة وسيطة: الأصل في الترجمة أن تكون عن اللغة الأصلية التي كُتِب بها العمل ؛ لكن يمكن في حالات خاصة الإعتماد على لغة وسيطة. لمِ لا؟ ماالضير في ذلك؟ لماذا نخسرُ وقتاً ريثما تنضج الظروف الملائمة لترجمة العمل عن اللغة الأصلية؟

4. مسألة التخصص الترجمي: يرى البعض أنّ الترجمة الاحترافية يجب أن تكون احتكاراً حصرياً لخريجي أقسام الترجمة. تعلّمْنا من خبرة ممتدّة سابقة أنّ الشغف هو الشرط الأولي المسبّق لكلّ عمل يتطلبُ إنغماساً فردياً في تفاصيله الدقيقة ؛ فكيف نضمنُ توفّر هذا النوع من الشغف في خريجي أقسام الترجمة. ثمّ أنّ واقع الحال ينبؤنا أنّ أكابر المترجمين العرب ماكانوا خريجي أقسام ترجمة ؛ بل كانوا متخصصي لغة إنكليزية في أفضل الأحوال.

5. مسألة التخصص في الحقل المعرفي: يفترضُ البعض أنّ كتب الفيزياء لايجب أن يترجمها سوى فيزيائي، وكذا الكيمياء وعلم الاجتماع والفلسفة،،،، إلخ. هذا خطل كبير فضلاً عن أنه ينطوي على أخدوعة. ثمة فرقٌ شاسع بين ترجمة عمل في الفيزياء ينتمي لحقل الثقافة الجمعية العامة وعملٍ آخر ينتمي لحقل الكتب المرجعية Textbook في الفيزياء. صار الكثير من موضوعات الفيزياء (مثل ميكانيك الكم والنسبية ونظرية كلّ شيء والطاقات المتجددة وتقنية المصغّرات « النانوتكنولوجي «) وكذلك موضوعات الذكاء الاصطناعي من الموضوعات اللازمة لكلّ معرفة جمعية عامة، والشغف بتلك الموضوعات هو الذي يحدّدُ مَن المؤهّل أكثر من سواه لينهض بعبء ترجمة تلك الموضوعات. لايختارُ مترجم الأعمال العلمية الأعمال التي ينوي ترجمتها عبثاً أو بطريقة كيفية ؛ بل يختارُ الكتب التي تخاطب العامّة ذوي الحدّ المقبول من الثقافة مع التركيز على تاريخ العلم وفلسفته ومنهجيته.

من المفيد في هذا الشأن الإشارةُ إلى أسماء معروفة من المترجمين الذين قدّموا ترجمات متعددة في حقول معرفية مختلفة. ؛ فكانوا بذلك مثالاً ترجمياً مناظراً للمشتغلين في حقول معرفية متداخلة ومشتبكة.

6. مسألة العائد المالي من الترجمة: لاأحد يعمل في الترجمة إنتظاراً لعائد مالي مجزٍ أو شهرة منتظرة. أقولُ هذا عن معرفة دقيقة بواقع الترجمة في منطقتنا العربية. الشغف هو المحرّك الأوّل والأخير لكلّ عمل ترجمي. توجد جوائز مغرية للترجمة، هذا صحيح ؛ لكن لاأحد يعمل فقط انتظاراً لتلك الجوائز. نعرفُ كثيرين من أكابر المترجمين العرب عاشوا وغادروا الحياة ولم ينالوا واحدة من تلك الجوائز لأنها ماكانت موجودة أصلاً.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top