في ضرورة إقامة دولة وطنية حضارية

آراء وأفكار 2022/12/05 11:18:55 م

في ضرورة إقامة دولة وطنية حضارية

عباس العلي

لا يخفى على أحد أن العراق الحديث كدولة قد أدارته أنظمة سياسية متعددة ومتنوعة في استراتيجياتها السياسية والعقائدية بتعاقب أدى إلى عدم تراكم منهج سياسي أو فلسفة موحدة لإدارة الدولة، فمن النظام الملكي الذي أسسته دولة الأحتلال التي سيطرت على العراق بعد إخراجه من الهيمنة التركية العثمانية لتأتي بزعامة غريبة عنه من خيارات وزارة المستعمرات البريطانية،

وقد أسست بناء الدولة على نمط قريب من تعاطي بريطانيا مع مستعمراتها الفقيرة، فهي الأمر الناهي والحاكم باسمها في بغداد مجرد موظف في وزارة المستعمرات، وفرضت بموجب رؤية أستعمارية نمط سياسي نخبوي أقطاعي عشائري يهتم بالشكليات دون أن يهتم ببناء مفهوم الدولة والمواطنة الحضارية التي تقدم المصالح الوطنية للأمة والشعب على غيرها، ويفي النظام يهتز في كل مرة على ردات الفعل الشعبية على الأحداث والتحولات الإقليمية والدولية مع حرية سياسية تتذبذب مع أقترابها من خطوط التماس مع النظام.

في عام 1958 وحين لم يعد النظام الملكي قادرا على الأستمرار في إدارة الدولة ولما تأثر فيه العراق من وعي قومي وشعارات اليسار ومعاداة الأستعمار والإمبريالية، جاء التحول النوعي للضد السياسي للمرحلة السابقة ويفتح الباب واسعا أمام الأيديولوجيات والأفكار السياسية المتصارعة داخليا وإقليميا، فمن إنقلاب إلى انقلاب ومن ثورة إلى ثورة كما يصنفون أنفسهم، وجد العراق نفسه في قبضة الديكتاتورية الحزبية العائلية لينحو منحى أخر خارج أفتراضات التطور السياسي الطبيعي، مصحوبا بطموحات شخصية تشكل هواجس المجد الشخصي أساس تحركاتها وأهدافها المعلنة، لتنتهي هذه المرحلة والعراق منهك بنتائج لا يتحملها مجتمع قائم على أسس هشة، بدأها المستعمر البريطاني وعمقها الصراع بين أثنيات وأديان ومذاهب مختلفة عكست لهيب صراعها على الهوية الوطنية للعراق الواحد، وكما جاء المستعمر البريطاني بقيادة غريبة عن روح الأمة ورغبتها وهويتها عاد المحتل الأمريكي التجربة مع بعض التحسينات في طريقة تسليم زمام حكم الأمة العراقية بالمشاركة والتشارك مع كل أعداء العراق ليفرضوا عليه جمهورية جديدة ذات ملامح مشوشة رمادية الأبرز فيها نكران حق المواطنة والتركيز على حقوق المكونات، وهنا حاول الحكام الجدد دفن مفهوم الأمة العراقية وتهيأت الأجواء للتقسيم والمقاسمة على الأسلاب.

بعد 2003 ونتيجة لخيارات المحتل الأمريكي وتشابك المصالح والصراعات متعددة التوجهات والغايات والأهداف، مع طبقة سياسية عديمة الخبرة وغياب أركان الدولة الأساسية ومرحلة ما يسمى بإعادة تسيطر الفكرة وبناء نظام مختلف، حصل الإنهيار الأوسع في كيان العراق مجتمع وبنى فكرية وأهداف وطنية وتمزيق للهوية الجامعة، كل ذلك تبناه دستور عام 2005 بما يحمل من تناقضات ورؤية وهدف، فتحول العراق من دولة واحدة بهوية وطنية جامعة ولو ظاهريا إلى مجموعة من المكونات الضيقة المتنازعة والتي تتصارع من اجل النفوذ والمصالح الفئوية، فيما الغالبية من الشعب العراقي غائب عن الفعل السياسي نتيجة عملية تدجين وأستحمار ديني ومذهبي وقومي ومناطقي واخيرا عشائري متغول في كل الأتجاهات، لا يوجد طرف إقليمي أو دولي لم يتدخل في شؤون العراق ويفرض إرادته وكأن العراق مساحة من مجهول المالك وفاقد الهوية تحت حكم أحزاب وقوى دينية وقومية عنصرية ومذهبية، وحدها بعض القوى المدنية وأصحاب الرؤية الوطنية الجامعة الذين أدركوا عمق الأزمة والمجهول الذي ينتظر العراق في وجوده الحضاري قادت مقاومة مدنية سلمية لتعلن صوت العراق الواحد، رافضة كل المشاريع المعلنة والمخفية لتجزأه الأمة وكيانها التاريخي والوجودي.

بعد أحداث 2006 الدموية المؤلمة ووجود القوى العسكرية المتطرفة والإرهابية على أرضه بحجة المقاومة والتصدي للأحتلال الغربي للعراق، وهي جميعا قوى غير عراقية تتحكم بها أطراف مخابراتية عديدة إقليميا ودوليا لغرض الإيغال بتمزيق اللحمة الوطنية العراقية وتعميق الشعور الطائفي الإنعزالي الذي كان نتيجته سقوط مساحات واسعة من الكيان العراقي تحت قبضة إرهاب داعش وحلفائها في الداخل والخارج، وأستمرار نزيف الدم العراقي عير الكثير من الممارسات الإرهابية التي تجذر الصوت التقسيمي وكأنه الحل الوحيد في النجاة من هذا الوضع، فبادر السواد الأعظم من الشعب العراقي ودفاعا عن وجوده الموحد للتصدي لهذه المحاولة وأستعادة وحدة العراق تمهيدا لأستعادة الهوية الوطنية الواحدة، هذا الحراك لم يروق ولا في مصلحة القوى السياسية المتحكمة التي سر بقائها وقوتها في وجود هذا التشرذم والتمزق في نسيج الأمة والتشويش على هويتها باللعب على وتر حماية مصالح المكونات، وجاء الجواب عراقيا خالصا ممهورا بدم وتضحيات شباب تشرين الذين أعادوا صقل الهوية العراقية الواحدة بلا عناوين جزئية أو فرعية.

لقد كانت أنتفاضة تشرين صدى وصوت لروح الأمة في التعبير عن رفضها لكل السياسات التي حاولت تقزيم الأمة، وإحلال الرموز الثانوية والشحصنة الولائية محل الولاء والانتماء الوطني للأرض والهوية الجامعة، لذا كان الزلزال التشريني مع كل ما عملته القوى السياسية المتحكمة من إجراءات وردود أفعال هو الخط الفاصل بين العراق واللا عراق في المنهج والفكرة والتعامل والرؤية المستقبلية، ولولا تزاحم جميع أعداء العراق لحماية منظومة الفساد والتخريب من أجل مصالحهم وأهدافهم البعيدة لكانت تشرين هي العنوان الجامع للأمة العراقية مؤسسة لمنهج وغايات وطريق للتطور الحضاري والفكري والسياسي الذي يجب أن يكون.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top